المواضيع الأخيرة
المواضيع الأكثر نشاطاً
البحث في جوجل
الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
اتقوا الله ويعلمكم الله :: قسم علوم و كتب التصوف :: من كتب الصوفية :: الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
صفحة 1 من اصل 1
31122023
الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية للشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
الفصل الرابع في الرد على من رد التصوفالرابع في الرد على من رده ..... وليس يدري شأنه وقصده
قلت: مضمن هذا الفصل: تقبيح من أنكر هذا الطريق, وتوبيخ من رد على أهلها وتزييف رأيه وتحقير شأنه, حيث أنكر ما لم يحط به علما, ولم يدرك له شأنا ولا قصدا إذ لو عرف شأنه لعظمه, ولو أدرك المقصود منه سارع إليه, ولكن كما قال القائل: "من جهل شيئا عاداه" وقال تعالى: "وإذ لم يهتدوا فسيقولون هذا إفك قديم". وقال الشاعر:
وكم عائب ليلى ولم ير وجهها ..... فقال له الحرمان: حسبك ما فات
وقد تقدم أول الكتاب "فصل الاجتماع" على ترجيح مذهب الصوفية على غيرهم, وذكر هنا الاحتجاج على ترجيح علومهم على علوم غيرهم, ومن أين نشأ الإنكار عليهم وذم المنكر عليهم, فأشار إلى الأول بقوله:
هذا الطريق من أجل الطرق ..... فافهم هديت واقتده بنطق
قلت: إنما كان من أجل الطرق, لأنه يدل على الله من أول قدم, خصوصا طريق الشاذلية, بخلاف غيره من الطرق, فان منها ما يدل على العمل, ومنها ما يدل على العلم بالأحكام.
وقد قال الشيخ القطب ابن مشيش: "من دلك على العمل فقد أتعبك, ومن دلك على الدنيا فقد غشك, ومن دلك على الله فقد نصحك".
والدلالة على الله هي الفناء فيه بالغيبة عما سواه.
ولقد سمعت شيخ شيخنا رضي الله عنه يقول: صاحبنا أول قدم ندخله في الفناء في الذات, ولا يحتاج إلى مجاهدة عمل, إذا صدق في صحبته.
وإن شئت قلت: إنما كان من أجل الطرق لأن شرف العلم على قدر شرف متعلقه, ومتعلق هذا العلم أشرف المتعلقات, لأن مبدأه صدق التوجه إلى الله, ومنتهاه إفراد القلب والقالب إلى الله على وجه تحقيق اليقين, حتى يصير في معد الشهود والعيان.
أو تقول: أوله داع إلى محبة الله, وأوسطه داع إلى السير إلى الله, ونهايته الوصول إلى معرفة الله.
وقالوا في شأن المحبة: أولها جنون, وأوسطها فنون, وآخرها سكون.
وقال الجنيد رضي الله عنه: لو أعلم أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه.
وقال الشيخ الصقلي رضي الله عنه: كل من صدق بهذا العلم فهو من الخاصة, وكل من فهمه فهو من خاصة الخاصة, وكل من عبر عنه وتكلم فيه فهو النجم الذي لا يدرك والبحر الذي لا يترق.
وقوله: "فافهم هديت" الخ: الجملة دعائية معترضة بين المعطوفين, أي فافهم واقتد بما نقول لك, هداك الله لطريق الحق, وأبان لك معا.
وأثبت هاء السكت في الوصل على حد قوله تعالى: "فبهداهم أقتده" فيمن بها.
ثم ذكر وجه ترجيحها على سائر الطرق, فقال:
إن العلوم كلها المعلومة ..... فنونها في هذه متهومة
قلت: إنما كانت العلوم المعلومة عند الناس, "فنونها" أي فروعها في جانب هذه الطريقة "متهومة" أي مشكوكة, لأن غايتها لا يحصل إلا غالب الظن, الراجح, وقد يحصل الجزم المطابق عن دليل, لكن لا يسلم من اختلاج الوهم لعدم الجزم بصحة الدليل.
فقد قال بعضهم: إيمان أهل علم الكلام كالخيط المعلق في الهوى, يميل مع كل ريح, أو كريشة تتقلب مع كل ريح بخلاف علم التصوف, فإن غايته الطمأنينة والتحقيق ذوقا وكشفا وشهودا, فالعلوم كلها تحصل علم اليقين, والتصوف يحصل عين اليقين, وحق اليقين.
العلوم كلها: استدلالية وبرهانية, وعلوم القوم: ذوقية وعيانية.
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان.
وقال الشبلي رضي الله عنه: ما ظنك بعلم: علم العلماء فيه تهمة, يعي أنه في معد العيان, وغيره في محل التهمة, إذ لا يخلو صاحبه من خاطر ريب وتهمة, إذ لا تنقطع الخواطر عن القلب, إذا حصلت في الطمأنينة بالله, ولا تحصل الطمأنينة إلا بصحبة أهل الطمأنينة.
وفي بعض الأحاديث "تعلموا اليقين بمجالسة أهل اليقين, والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح".
قلت: ومما يرجح أيضا ما قاله الناظم: أن طالب العلم الظاهر لا تجد قصده إلا معلولا, إذ غالب طلبة العلم فساد قصدهم فيه بطلب الحظوظ والحروف, بخلاف طالب علم الباطن, فلا تجد نيته إلا صحيحة, لأنه مبني على قتل النفوس وطرح الحظوظ, فلا ينال منه شيئا إلا من ترك حظوظه وشهواته.
ثم بين الشيخ وجه دخول التهمة في العلوم الرسمية فقال:
إذ العلوم في مقام البحث ..... وإن هذا في مقام الإرث
قلت: العلوم الرسمية كلها كسبية, تدرك بالبحث عليها بالدلائل والبراهين, فنهايتها الظن القوي, وهذا شأن الفروع الفقهية, لأن جلها ظنية وأما أصول الدين فنهايتها الجزم المطابق عن الدليل, فغايتها الإيمان بالغيب, بخلاف علوم القوم, فإنها مواهب وأسرار وكشوفات وأذواق تورث عن أرباحها بالصحبة والمحبة والخدمة, حتى يسري ما في باطن الشيخ إلى باطن التلميذ فيتنور الباطن بنور اليقين, ثم يغيب في شهود رب العالمين, حتى يصير ما كان غيبا شهادة, وما كان علما ذوقا وحالا, وما كان دليلا مدلولا, وما كان نظريا يصير ضروريا,
كما قال شيخ شيوخنا المجذوب رضي الله عنه:
طلع النهار على قلبي ..... حتى نظرت بعينا
أنت دليل يا رب ..... أنت أولى مني بيا
غيبت نظر في نظري ..... وأفنيت عن كل فاني
حققت ما وجدت غير ..... وأمسيت في الحال هاني
وفرق كبير بين من يكون من الأحباب داخل الحجاب, وبين من يكون يأخذ أجرته من وراء الباب "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" قوم أقامهم لخدمته, وقوم اختصهم بمحبته, كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا.
وفي نوازل المعيار: سئل ابن رشد رحمه الله عن قول الإمام أبي حامد الغزالي في الإحياء في لما ذكر معرفة الله تعالى والعلم به قال: والرتبة العليا في ذلك للأنبياء, ثم للأولياء العارفين, ثم العلماء الراسخين, ثم الصالحين, فقدم الأولياء على العلماء وفضلهم عليهم.
وقال الأستاذ القشيري في أول رسالته: فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه, وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه, فهل هذا نحول قول أبي حامد, وهل هذا المذهب صحيح أم لا, فقد قال بعض الناس: لا يفضل الولي على العالم, لأن تفضل الشخص إلى الآخر إنما هو برفع درجاته عليه لكثرة ثوابه المرتب على عمله, فلا فضل إلا بتفاوت الأعمال, وقد ثبت أن العلم أفضل من العمل, لأنه متعد والعمل قاصر, والمتعدي خير من القاصر, فثوابه أكثر وصاحبه أفضل.
فأجاب: أما تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الله, فقول الأستاذ وأبي حامد فيه متفق, ولا يشك عاقل أن العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال, وبما يستحيل عليه من العيب والنقصان أفضل من العارفين بالأحكام, بل العارفون بالله أفضل من أهل الأصول والفروع, لأن العلم يشرف بشرف المعلوم وثمراته, فالعلم بالله وصفاته أشرف من العلم بكل معلوم, من جهة متعلقة المعلومات وأكملها, لأن ثماره أفضل الثمرات, ثم قال بعد ذكر ثمرات المعرفة بالله من الاتصاف بالأخلاق السنية بعد التطهير من الأوصاف الدنية: ولا شك أن معرفة الأحكام لا تورث شيئا من هذه الأحوال ويدل على ذلك الوقوع, فإن الفسق فاش في كثير من علماء الأحكام, بل أكثرهم مجانبون للطاعة والاستقامة, بل قد اشتغل بعضهم بأقوال الفلاسفة في النبوات والإلهات, ومنهم من خرج عن الدين, ومن من شك فتارة يترجح عنده الشك وتارة يترجح عنده البطلان, ثم قال: فكيف يساوي بين العارفين وبين الفقهاء, والعارفون أفضل الخلق وأتقاهم لله سبحانه وتعالى, والله سبحانه يقول: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
وأما قوله تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء" فإنما أراد العارفين به وبصفاته وأفعاله, دون العرافين بأحكامه, ولا يجوز حمله على علماء الأحكام, لأن الغالب عليهم عدم الخشية, وكلام الله صدق, فلا يحمل إلا على من عرفه وخشيه.
وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنه, وهو ترجمان القرآن, فإذا كان عالما بالله تعالى وبأحكامه, فهذا من السعداء, وإن كان من أهل الأحوال العارفين بالله, فهذا من أفضل العارفين, إذ قد حاز ما حازوا وفضل عليهم بمعرفة الأحكام.
وأما قول من قال: إن العمل المتعدي خير من القاصر, فانه جاهل بأحكام الله تعالى بل العمل القاصر أحوال: إحداها أن يكون أفضل من المتعدي, كالتوحيد, والإسلام والإيمان, وكذلك التسبيح عقب الصلوات فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضله على التصدق, ثم قال: فإن كانت مصلحة القاصر أفضل من مصلحة المتعدي أرجح قدمت على القاصر, فتارة تقف على الرجحان فتقدم الراجح, وتارة ينص الشارع على تفضيل أحد العلمين فتقدمه وإن لم تقف على رجحانه, وتارة لا تقف على الرجحان ولا نجد نصا يدل على التفضيل, فليس لنا أن نجعل القاصر أفضل من المتعدي, ولا المتعدي أفضل من القاصر, لأن ذلك موقوف على الأدلة الشرعية فإذا لم يظهر شيء من الأدلة الشرعية لم يجز أن نقول على الله ما لا نعلمه, أو نظنه بلا أدلة شرعية, ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر: "ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة, ولكن بشيء وقر في صدره" انظر بقية كلامه ذكره في الجنائز, والتفضيل عند المحققين إنما هو بقوة اليقين, فمن قوي يقينه أكثر كان عند الله أكبر, وهو الذي وقر في صدر أبي بكر, فسبق به, والله تعالى أعلم.
ثم ذكر المنكر لهذا العلم ومنشأ إنكاره, فأشار إلى الأول بقوله:
وأنكروه ملأ عوام ..... لم يفهموا مقصوده فهاموا
قلت: الملأ في أصل اللغة هم أشراف القوم وعظماؤهم, لأنهم تملأ العين بالنظر إليهم ثم صار يطلق على مطلق الجماعة, والعوام ضد الخواص, فالعوام هم أهل اليمين, والخواص هم السابقون من المقربين, لكل من حجب بسحب الآثار عن رؤية الأعمال فهو من العوام, وكل من نفذ إلى شهود الأنوار قبل الكون أو معه أو عنده من خواص المقربين, وكل علم وفن له عوام وخواص فيه, يعني أن جماعة من العوام أنكروا علم الباطن, وقالوا ليس إلا علم الشريعة الذي هو العلم الظاهر, وأما علم الباطن فلم ينزل به كتاب ولا سنة.
قلنا: يرد عليهم بقوله تعالى في قضية سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام "أتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما" فالعلم اللدني هو العلم الموهوب, وهو على قسمين: قسم يكشف عن سر الوجود ومعرفة الملك المعبود, وقسم يكشف عن سر القدر وما يقع من الحوادث, والمعتبر عند المحققين هو القسم الأول.
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم مقام الإحسان بقوله:" أن تعبد الله كأنك تراه, ولا يمكن أن يعبد الله كأنه يراه, وهو محجوب بظلمة الآثار".
وقال أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنت أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو وأبو بكر يتكلمان في علم التوحيد, فأجلس بينهما كأني زنجي لا اعلم ما يقولان, فهذا التوحيد الذي كان يتكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم مع الصديق هو التوحيد الخالص, وهو غوامضه وأسراره التي لا تفشى إلا لأهله, وهو المسمى عندنا بعلم الباطن, ويسمى أيضا بعلم الحقيقة, وسيأتي زيادة بيان لهذا الأمر عند قوله: "هل ظاهر الشرع مع الحقيقة: إلا كأصل الفرع في الحديقة".
قوله: "وأنكروا ملأ" وهو على حد قوله تعالى: "وأسروا النجوى الذين ظلموا".
وقوله: فهاموا, أي تحيروا أن تلفوا وضلوا عن سلوك طريق التحقيق, وبالله التوفيق.
ثم بين منشأ الإنكار وسببه فقال:
وكل من أنكر منه شيئا ..... فإنما ذاك لسبع أشيا
لجهله بنفسه الشريفة ..... وكونها في أرضها خليفة
وجهله بالعالم المعقول ..... وشغله بظاهر النقول
وسهوه عن عمل القلوب ..... والخوض في المكروه والمندوب
والجهل بالحلال والحرام ..... والميل عن مواهب الإلهام
قلت: ذكر سبعة أشياء هي الموجبة لإنكار العوام على الخواص, وهم أهل الباطن:
الأول: جهلهم بحقيقة نفسهم وشرفها, وهو الروح في أصل نشأتها, فلما حجبت وتظلمت سميت نفسا, ولا شك أن الروح التي قامت بهذا البدن: أصلها لطيفة نورانية ملكوتية جبروتية , عالمة بما كان وما يكون, وما حجبها عن هذا العلم إلا شغلها بتدبير البدن وتحصيل أغراضه وشهواته, فكلما جاهدها وخرق عوائدها رجعت إلى أصلها, فأدركت العلوم اللدنية والأسرار الربانية, وهو علم الباطن, فلو علم الإنسان أصل نفسه وشرفها, وعرف السبب الذي حجبها عن أصلها لاحتال عليها حتى يردها لأصلها, لكن جهله بأصله تركه محجوبا بها حتى أنكر خصوصيتها, ولذلك قال يحيى بن معاذ الرازي: "من عرف نفسه عرف ربه" قيل من عرف نفسه كيف كانت فاحتال عليها حتى ردها لأصلها فقد عرف ربه, وقيل: معناه من عرف حقيقة نفسه, فقد عرف ربه, لأنه حصل مقام الجمع وحجب به عن الفرق, والله تعالى اعلم.
والأمر الثاني: جهل كون نفسه خليفة عن الله في أرضه, قال تعالى في شأن آدم: "إني جاعل في الأرض خليفة" ولا شك أن الحق سبحانه ركب هذا الروح اللطيف في هذا المظهر الإنساني الكثيف, وجعله يتصرف في الكون كيف شاء, قال تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" وقال تعالى: "وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه" وقال في الحكم: "جعلك في العالم المتوسط بين ملكه وملكوته ليعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته, وأنك جوهرة تطوي عليك أصداف مكوناته, وسعك الكون من حيث جثمانيتك, ولم يسعك من حيث ثبوت روحانيتك, فالإنسان في أصل نشأته خليفة الله في وجوده من عرشه إلى فرشه, لكن الإنسان لما جهل نفسه أشغلها بخدمة الأكوان, فسقطت عن رتبة الخلافة حين صارت مملوكة في أيد المماليك, ولا يصلح للخلافة إلا من كان حرا عن الملوك والمماليك.
قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: الأكوان كلها عبيد مسخرة, وأنت عبد الحضرة.
وفي بعض الأخبار المروية عن الله عز وجل:
"يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك, وخلقتك من أجلي, فلا تشتغل بما هو لك عما أنت له".
فكل من تحرر من رق الأكوان ورفع همته عنها ملكها بأسرها واستولت روحه على الوجود بأسره, فصار خليفة الله في كونه, وأما من بقي مملوكا في يدها فلا خلافة له.
الأمر الثالث: جهل النفس بالعالم المعقول, والمراد به العالم الروحاني, وهو عالم المعاني لأنه لا يدرك بالنقل: "وإنما يدرك بتصفية العقل وجوهريته, حتى يصير سرا من أسرار الله فحينئذ يدرك عالم المعاني, ويغيب عن عالم الأواني, وهو عالم الحس.
فتحصل أن من اشتغل بعالم الأشباح, وهو عالم الحس, وعالم الحكمة لا يدرك عالم الأرواح, وهو عالم المعاني, وعالم القدرة, وأنكر على من ادعى إدراك شيء من ذلك فهو معذور كمن أنكر طلوع الشمس وهو أرمد,
كما قال البوصيري:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ..... وينكر الفم طعم الماء من سقم
وسبب حجابهم عن عالم المعاني, وهو عالم القدرة: اشتغالهم بعلم عالم الحس, وهو عالم الحكمة, فاشتغلوا بعلم المنقول والاطلاع على الأقوال الغريبة وتحرير المسائل الفروعية والتغلغل فيها, وهو سبب حجاب علماء الظاهر: تجمدوا على ظاهر الشريعة وادعوا الإحاطة بها, وأنكروا على أهل علم الحقيقة, فضلوا وأضلوا عن طريق الخصوص, وقد قال تعالى: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" ولو تأملوا في سر الشريعة لوجدوها تدل على الطريقة والطريقة توصل إلى الحقيقة, ولكن سنة الله لا تنخرم, فلا بد من قوم يتجردون لعلم الشريعة ويحملون لواءه, وإلا ضاعت الطريقة والحقيقة, إذ لو ذاقوا هذا العلم لزهدوا في سائر العلوم, ولن تجد لسنة الله تبديلا.
الأمر الرابع: الاشتغال بعمل الجوارح الظاهرة, والتعمق فيه, والغفلة عن عمل القلوب وتصفيتها, وهو سبب حجاب العباد والزهاد, وحبستهم حلاوة عبادتهم عن شهود معبودهم وحلاوة زهدهم عن معرفة خالقهم, فاستوحشوا من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء, فهم ينكرون الخصوصية لغيرهم, ويثبتونها لنفوسهم, وهو الجهل المركب, وهذا مع ما قبله اشد الحجاب عن الله, ولذلك قال بعضهم: أشد حجابا عن الله العلماء ثم العباد ثم الزهاد.
الأمر الخامس: الخوض فيما يحسنه العقل ويقبحه, فما استحسنه العقل أحبوه واعتقدوه وما قبحه العقل كرهوه وأنكروه, فوقفوا مع عقولهم فانعقلوا عن مراتب الكمال, وحجبوا عن مدارك الرجال, فالعقل معقول, لا يدرك من أمر التوحيد إلا افتقار الصنعة إلى صانعها, وأمام أسرار التوحيد وغوامضه, فهو خارج عن دائرته كما قال ابن الفارض رضي الله عنه:
فثم وراء النقل علم يدق عن ..... مدارك غايات العقول السليمة
وهذا سبب حجاب أهل علم الكلام وقفوا مع الدليل, وحجبوا عن المدلول, وارتبطوا مع الدليل والبرهان, وأنكروا الشهود والعيان, هذا معنى قوله: "والخوض في المكروه والمحبوب" ويحتمل أن يريد الخوض في الدنيا بالاشتغال في تحصيل محبوبها, كالعز والجاه والمال, والبعد عن مكروهها كالذل والفقر وغير ذلك مما تكرهه النفوس, فان الاشتغال بذلك حجاب عظيم في سر التوحيد, والله تعالى اعلم.
الأمر السادس: جهل الإنسان بما يحل له الخوض فيه وما يحرم عليه, إذ لو تحقق ذلك وعلم ما فيه من العقوبة, لانزجر وانكف عن الخوض فيما لا علم له به, وأشغله عيبه عن عيوب غيره, لكن لما جهل ما يضره وما ينفعه أطلق لسانه في الإنكار على أولياء الله من غير احترام ولا احتشام, فلا جرم انه إن لم يتداركه اللطف يخاف عليه سوء الخاتمة.
وفي الحديث القدسي: "من عادى لي وليا فقد آذنني بالحرب" أو كما قال.
وفي حديث آخر: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" ولا تغتر بمن يدعي مرتبة العلم ثم يطلق لسانه في أولياء الله فإنه جاهل على الحقيقة لأن ذلك سببه الرضا عن نفسه, وأي علم لعالم يرضى به عن نفسه, وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه, عصمنا الله من ذلك بمنه وكرمه.
الأمر السابع: الميل عن المواهب الإلهامية والعلوم اللدنية, وعدم التعريج عليها والتصديق بها, ولا شك من لم يعرج عليها ولا يصدق بوجودها لا يتشوف إليها ولا يطلبها وعلم الباطن كله مواهب وكشوفات, فمن لم يصدق به لا يناله أبدا ما دام منكرا له, وقد قالوا: أول الطريق تصديق, ووسطه توفيق, وآخره تحقيق, فمن لا تصديق له لا توفيق له, ومن لا توفيق له لا وصول له لعين التحقيق, ولذلك قالوا: التصديق بطريقتنا ولاية أي لأنها سبب الولاية, والله تعالى اعلم.
هذا آخر الأسباب الموجبة للإنكار على طريق الخصوص, فمن سلم من هذه الأسباب فتح له الباب ورفع عنه الحجاب ومنح مشاهدة الأحباب بمنه الكريم الوهاب, وإلا بقي مع عصبة الجهال في الحيرة والضلال, كما أبان ذلك بقوله:
واعلم بان عصبة الجهال ..... بهائم في صورة الرجال
قلت: إنما كان الجهال بهائم في صورة الرجال, لأن المزية التي شرف به الإنسان على البهائم هو العقل, والعقل نور يميز به صاحبه ما يضره ما ينفعه, فإذا صار الإنسان يتعاطى أمورا تضره في دينه, وتحجبه عن ربه, ويترك أمورا تقربه إلى ربه, وتوصله إلى حضرة قدسه, فقد انطمس نور عقله وصار كالبهيمة أو أضل, قال تعالى في شأن الكفار: "إن هم إلا كالأنعام, بل هم أضل سبيلا".
وقال بعض الحكماء: من غلب عقله على شهواته كان كالملائكة أو أفضل, ومن غلبت شهوته على عقله كان كالبهائم أو أضل, والمراد بالجهل في كلام الناظم الجهل بالنفس وشرفها من جهل نفسه جهل ربه, ومن جهل ربه كان كالبهيمة, فهو راجع إلى السبب الأول من الأسباب السبعة.
ثم أشار إلى تقرير السبب الثاني, وهو جهله بكونها خليفة, ولا تكون خليفة حتى تتحرر من رق الهوى, فقال:
ومن أباح النفس ما تهواه ..... فإنما معبوده هواه
قلت: أصل الروح في أول نشأتها الطهارة والنزاهة, لأنها من عالم القدس, فنعيمها إنما هو ذكر ربها وشهوده, والقرب من حضرة قدسه, فلما ركبت في هذا القالب إظهارا لقدرته وحكمته مال بها إلى أصله الطيني, فانقلب نعيمها إلى النعيم الجسماني وهو الشهوات الجسمانية الحسية, فانحجبت بذلك عن أصلها, فمن أراد الله سعادته وفقه لمخالفتها ومجاهدتها في قطع مألوفاتها وهواها, حتى ترجع إلى أصلها فيصير نعيمها في ذكر مولاها وشهوده, فيعظم قدرها ويشرف محلها, فحينئذ تستحق الخلافة وتتحقق بالنيابة, فتحكم مهمتها على الكون, وتتصرف في الوجود بأسره: أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون, فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك.
ومن أراد الله خذلانه وهوانه بعدله, أشغله بشهواته الفانية ومألوفاته الجسمانية, فاتخذ إلهه هواه, وحجب بذلك عن مشاهدة مولاه, فسقط في أسفل سافلين, وطرد عن ساحة رب العالمين, فمن أباح نفسه وأعطاها كل ما تهواه فإنما محبوبه ومعبوده هواه, وضل بذلك عن طريق الوصول إلى مولاه, قال تعالى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه, وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله". فاتباع الهوى يصد عن سبيل الهدى قال تعالى: "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" ويخمد نور السريرة ويطمس شعاع البصيرة.
قال الشاعر:
إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ..... وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا
وهو أيضا سبب الذل والهوان والالتحاق بحزب الشيطان.
قال الشاعر:
لا تتبع النفس في هواها ..... إن اتباع الهوى هوان
وقال بعضهم: "الهوى شرك الردى" أي شبكته ومصيدته, وبالله التوفيق.
ثم أشار إلى تقرير السبب الثالث, وهو الجهل بالعالم المعقول فقال:
تالله ما يجمل باللبيب ..... جهل البعيد منه والقريب
قلت: اللبيب هو الكامل العقل, والبعيد منه هو ظلمة الحس, والقريب منه هو نور المعاني, الذي هو أصله وفصله.
أو تقول: البعيد من الإنسان هو ظلمة الأواني, والقريب منه هو نور المعاني والمفنية للأواني.
أو تقول: البعيد منه التجليات المنفصلة عنه في الحس, كالسموات والأرضين, وما بينهما, والقريب منه جسمه المتصل به, والكل متصل في المعنى, كما قال الششتري فيه.
* متحد المعنى في كل حي * فينبغي أن يعرف في الجميع فلا يحمل.
أي يحسن باللبيب أن لا يجهل ما هو بعيد منه من ظلمة الحس, وما هو قريب منه من نور المعاني, فنور روحك أقرب إليك من ظلمة حسك, لكن لما انطمست البصيرة اشتغلت الروح بتدبير هذا الجسم وتحصيل شهواته وأغراضه, فسقطت في أسفل سافلين, وبعدت من حضرة رب العالمين, فتركت ما هو قريب من نور حضرة الحبيب, واشتغلت بما هو بعيد من ظلمة الجسم: في تحصيل أغراضه وتوفير شهواته, فارتبطت في عالم الأشباح ولم ترجع إلى عالم الأرواح, وهو عالم المعاني, بل أنكرته بالكلية, ولو انفتحت البصيرة لشاهدت الأنوار الحاجبة الماحية للأغيار أقرب إليها من كل قريب, قال في الحكم:
"شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك, وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده" وحق البصيرة يشهدك وجوده: لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شيء معه, وهو الآن على ما عليه كان.
وراجع الشرح ففيه تفسير هذه المعاني, والله تعالى أعلم.
ثم ذكر تقرير السبب الرابع, وهو الغفلة عن عمل القلوب, فقال:
كيف يرى في جملة السباق ..... من حظه مع الحظوظ باق
قلت: السباق جمع سابق, والحظوظ هي الشئون والشواغل: جمع حظ.
اعلم أن الناس على قسمين: أهل اليمين, والسابقون, فأهل اليمين هم المشتغلون بإصلاح الظواهر وتدبير شئونها, وما يصلح بها جلبا ودفعا عاجلا أو آجلا, والسابقون هم المشتغلون بإصلاح القلوب والسرائر, وهم المقربون الغائبون عن رؤية أنفسهم, الباقون بشهود ربهم, فكل من اعتنى بإصلاح ظاهره فاته إصلاح باطنه, وكان من أهل اليمين, وكل من اعتنى بإصلاح باطنه كان من السباق, وحشر في زمرة المقربين.
قال الشيخ أبو الحسن: "غب عن إصلاح ظاهرك إن أردت فتح باطنك" فكيف يرى الإنسان ويظهر في جملة السباق, ويلتحق بأهل الجد والاستباق, وحظه منصرف لتحصيل حظوظ وشئون ظاهره الحسية, وهمته واقفة مع عوائده وشهواته الوهمية, "كيف تخرق لك العوائد وأنت لم تخرق من نفسك العوائد".
ولا بد من صحبة شيخ عارف, ينقلك من العمل الظاهر إلى عمل الباطن, وإلا بقيت مع عوام المسلمين من أصحاب اليمين تنكر مقامات المقربين.
وبين عمل القلوب وعمل الجوارح ما بين عمل السر والعلانية.
وقال بعضهم: الذرة من أعمال القلوب, أفضل من أمثال الجبال من عمل الجوارح, والله تعالى اعلم.
ثم قرر السبب الخامس: وهو الخوض في المكروه والمحبوب, فقال:
متى يجد جواهر المعاني ..... من قلبه على الدوام عاني
قلت العاني هو: الأسير, وفي الحديث "فكوا العاني وأطعموا الجائع" وجواهر المعاني هي أسرار الذات في أنوار الصفات.
أو تقول: هي أسرار الجبروت وأنوار الملكوت.
أو تقول: هي المعاني اللطيفة القائمة بالأواني الكثيفة, فإذا ظهرت المعاني تلطفت الأواني,
وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه:
ولطف الأواني في الحقيقة تابع ..... للطف المعاني, والمعاني بها تسموا
وقال: في الحكم "لولا ظهوره في المكونات ما وقع عليها وجود أبصار, لو ظهرت صفاته اضمحلت مكوناته".
فالصفات معاني والأكوان أواني: لا تنظر إلى الأواني. وخض بحر المعاني لعلك تراني.
وقال أيضا: أباح لك أن تنظر في المكونات, وما أذن لك أن تقف مع ذات المكونات: "قل انظروا ماذا في السماوات والأرض" فتح لك باب الإفهام ولم يقل انظروا السماوات, لئلا يدلك على وجود الأجرام, فالأجرام كالصدف ليواقيت المعاني, فمن وقف مع الصدف الظاهر حجب عن جمال اليواقيت الباطنة, فمن كان قلبه مصروفا إلى ظواهر الأجرام مشغوفا بحبها أسيرا في يدها معمورا بصور خيالها, لا يطمع أن يذوق حلاوة المعاني, ولا تشرق عليه أنوارها:
"كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته".
أم كيف يدخل إلى الله وهو مكبل بشهواته.
أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته.
أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته.
فمتى يجد في قلبه بهجة جواهر المعاني من قلبه على الدوام عاني "أي أسير" في قيد هواه الجسماني, متعوب في خدمة الأواني, يقرب هذا ويبعد هذا, يحب هذا ويبغض هذا, يقبح هذا ويحسن هذا, يصغر هذا ويكبر هذا, فما دام هذا شأنه لا يطمع أن يطلع على بهجة المعاني, ولا يترقى إلى العالم الروحاني, وإنما وطنه العالم الجسماني منكرا على أهل المعاني إلا أن يتداركه الله بلطف رباني, فينهض بخوف مزعج أو شوق مقلق, وما ذلك على الله بعزيز.
ثم قرر السبب السادس من أسباب الإنكار, وعنه ينشأ تضييع العمر والاشتغال بالفضول, فقال:
لم يتصل بالعالم الروحاني ..... من عمره على الفضول حاني
قلت: الحاني على الشيء هو المنكب عليه والمنهمك في محبته بكليته, والعالم الروحاني هو ضد العالم الجسماني, فالعالم الروحاني هو عالم الملكوت, وعالم الجسماني هو عالم الملك أو تقول العالم الروحاني هو عالم التلطيف, والعالم الجسماني هو عالم التكثيف, فالتلطيف محل التعريف, والتكثيف محل التكليف, أو تقول العالم الروحاني هو عالم الأرواح, والعالم الجسماني هو عالم الأشباح, أو تقول: العالم الروحاني هو عالم القدرة, والعالم الجسماني هو عالم الحكمة, أو تقول العالم الروحاني هو عالم الجمع, والعالم الجسماني هو عالم الفرق, أو تقول: العالم الروحاني هو عالم شهود الربوبية, والعالم الجسماني هو محل ظهور العبودية, وهذه التفاسير معناها واحد, وإنما ذكرتها للإيضاح, واعلم أن محل عالم الأرواح وعالم الأشباح واحد عند أهل التحقيق إذ الأرواح لا تظهر بغير أشباح, والأشباح لا تقوم بغير أرواح لكن قوم غلبت بشريتهم على روحانيتهم, وظلمتهم على نورهم, وملكهم على ملكوتهم, فلم يروا إلا الأشباح تظهر وتعدم, وهم أهل الحجاب من أهل السلوك.
وقوم غلبت روحانيتهم على بشريتهم, ونورهم على ظلمتهم, وملكوتهم على ملكهم, فلم يروا إلا الأرواح تظهر وتبطن.
وإن شئت قلت: لم يروا إلا الأنوار تكثفت وتدفقت من بحار الجبروت إلى رياض الملكوت, وهم أهل العرفان من أهل الشهود والعيان.
أو تقول: هم أهل الجذب والفناء, فهم غرقى في بحار الأنوار, مطموس عليهم الآثار, فإن فاقوا من سكرتهم وصحوا ميزوا بين الأشباح والأرواح, وبين القدرة والحكمة, فأعطوا كل ذي حق حقه, ووفوا كل ذي قسط قسطه, ولم يحجبوا بجمعهم عن فرقهم, ولا بفرقهم عن جمعهم, وهمل الكمل رضي الله عنهم, وإنما سمي عالم المعاني بالعالم الروحاني لأن من عرفه وكوشف به لا يرى إلا الأرواح تكثفت بالقدرة وانحجبت بالحكمة
كما قال ابن الفارض:
وقامت بها الأشياء ثم لحكمة ..... بها احتجبت عن كل من لا له فهم
والضمير على الخمرة الأزلية, ثم قال:
وهامت بها روحي بحيث تمازجا ..... اتحادا ولا جرم تخلله جرم
فأهل عالم الأرواح لا يرون الأجرام ولا الأشباح, وإنما يرون الأرواح تكثفت في تماثيل الأشباح, وإذا ردوا إلى رؤيتها رأوها قائمة بالله. ومن الله, والى الله, ولا شيء سواه, رأوها أواني حاملة للمعاني.
أو تقول: رأوها مغارف يسقي منها شارب المعارف, ولا يسقي من هذه الأواني خمرة المعاني إلا من هو عن حظوظه فاني, لا يتصل بالعالم الروحاني: من هو مع العالم الجسماني, لا يترقى إلى العالم الروحاني, من كان في أيام عمره على الفضول حاني, وأنشدوا:
بقدر الكد تكتسب المعالي ..... ينال العز من سهر الليالي
تريد العز ثم تنام ليلا ..... يغوص البحر من طلب اللآلي
وكل ما يشغل العبد عن الترقي إلى الحضرة فهو فضول,، سواء كان عملا حسيا أو عملا رسميا أو غير ذلك مما لا يحصى,، والله تعالى اعلم.
ثم قرر السبع السابع, وهو الميل عن مواهب الإلهام, فقال:
ليس يرى مع المعاني دان ..... من قلبه في عالم الأبدان
قلت: الداني هو القريب, والمراد بالمعاني أسرار عظمة الربوبية وأنوار الألوهية, وهي لطيفة شريفة رفيعة منيفة, رفيعة المدارك دقيقة المسالك, لا ينالها إلا قلب سماوي, أو روح عرشي, أو سر جبروتي, قد ارتفعت همته عن سائر الأكوان ورحلت روحه عن عالم الأبدان, إلى طلب الشهود والعيان, فني عن وجوده في شهود معبوده, فرغ قلبك من الأغيار يملأه بالمعارف والأسرار, فليس يقرب من ساحة المعاني من كان قلبه في العالم الجسماني, من اشتغل بخدمة الأشباح لا يترقى أبدا إلى عالم الأرواح, من اعتنى بخدمة جسمه مات في سجن غمه وهمه.
سأل سهل رضي الله عنه عن القوت, فقال: هو الحي الذي لا يموت, فقال: إنما سألتك عن القوام, فقال: القوام هو العلم, قيل: سألناك عن الغذاء, فقال: الغذاء هو الذكر, قيل: إنما سألناك عن طعام الجسد, فقال: مالك والجسد, دع من تولاه أو لا يتولاه آخرا, إذا دخلت عليه علة رده إلى صانعه, أما رأيت الصنعة إذا عيبت ردوها إلى صانعها حتى يصلحها, وأنشدوا:
كمل حقيقتك التي لم تكمل ..... والجسم دعه في الحضيض الأسفل
أتكمل الفاني وتترك باقيا ..... هملا, وأنت بأمره لم تحفل
فالجسم للنفس النفيسة آلة ..... ما لم تحصله به لم يحصل
يفنى وتبقى دائما في غبطة ..... أو شقوة وندامة لا تنجل
أعطيت جسمك خادما فخدمته ..... أتملك المفضول رق الأفضل
شرك كثيف أنت في حبلانه ..... ما دام يمكنك الخلاص فعجل
من يستطيع بلوغ أعلى منزل ..... ما باله يرضى بأدنى منزل
وقال آخر:
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ..... أتطلب الربح مما فيه خسران؟
عليك بالنفس فاستكمل فضيلتها ..... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
قلت: وتكميل فضيلة النفس هي تطهيرها وتهذيبها وتقريبها من حضرة ربها, فمن يطهرها ولم يهذبها فقد بخسها ونقصها, قال تعالى: "قد أفلح من زكاها, وقد خاب من دساها".
وفي الحكم: "اخرج من أوصاف بشريتك عن كل وصف مناقض لعبوديتك لتكون لنداء الحق مجيبا ومن حضرته قريبا".
فإذا خرج العبد من أوصاف بشريته ترقى إلى مقام الروحانيين, فيشاهد حينئذ أنوار ربه, ويحظى بمؤانسته وقربه, ولذلك زاد في الحكم بعد هذه الحكمة متصلا به "الحق ليس بمحجوب عنك, وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه" الخ.
كأنه يقول: ما حجبك عنه إلا أوصاف البشرية التي أنت محجوب بها, فإذا زالت عنك زال حجابك واتصلت بمرتبة الشهود وعرفت الملك المعبود, وبالله التوفيق هو الهادي إلى سواء الطريق.
والى هذا في الجملة أشار بقوله:
مهما ترقى مادة الموضوع ..... يأخذ نجم الدرك في الطلوع
قلت: الموضوع هنا هو الجسم الموضوع لظهور الروح وقيامها به, فهو كالقالب لها: أو الصدف, ومادته ما يقوم به في العادة كالأكل والشرب واللباس, ويدخل فيه ما يقوم به معناه كالعز والجاه والمال وغير ذلك من مكملاته, فما دامت النفس مشتغلة بتحصيل هذه المادة جلبا ودفعا, وتحصيلا وتكميلا, فهي مرتهنة به, محبوسة معه, كيف يرحل القلب إلى الله وهو مكبل بشهواته.
وللششتري رضي الله عنه:
فارفض الخلق وارقا ..... ترتق عن ظلالك
واسبق الخلق سبقا ..... ثم غب عن فعالك
وافن في الحب عشقا ..... فالمراد في زوالك
فما دام العبد مقبلا على دنياه, مشتغلا بتحصيل حظوظه وهواه, ولا يطمع في الرحيل إلى حضرة مولاه, فإذا غاب عن مادة حسه, وزهد في نفسه وفلسه وجنسه, يأخذ نجم إدراكه في الترقي إلى حضرة قدسه, فلا يزال يمشي في نور نجم توحيد الأفعال, إلى أن يطلع عليه قمر توحيد الصفات, ثم تشرق عليه شمس توحيد الذات, فيقول بلسان حاله:
طلعت شمس من أحب بليل ..... فاستضاءت, فما تلاها غروب
إن شمس النهار تغرب بليل ..... وشمس القلوب ليست تغيب
وقال آخر:
ليلي بوجهك مشرق ..... وظلامه في الناس ساري
الناس في سدف الظلام ..... ونحن في ضوء النهار
وقال سيدي عبد الرحمن المجذوب:
طلع النهار على الأقمار ..... ولا أبقى إلا ربي
الناس زارت محمد ..... وأنا اسكن لي في قلبي
وقلت في عينيتي:
تبدت لنا شمس النهار وأشرقت ..... فلم يبق ضوء النجم والشمس طالع
تنحى رداء الصون عن كون ربنا ..... فسرنا إلى نور الحبيب نسارع
ثم تأسف الناظم عن قلة من يساعده في وقته على حاله, فقال:
يا حسرتي إذا لا مجد راكب ..... يصحبنا في هذه المراكب
قلت: الموكب هو: الجماعة ركبانا ومشاة والجمع مواكب, وكأنه رضي الله عنه لم يجد في زمانه من يساعده على هذا العلم لأنه عزيز وأهله أعز من كل عزيز, وغالب الناس إما مشغول بدنيا, أو مفتون بدعوى, أو مبتلي بهوى, وإن كان الزمان لا يخلو منهم فهم اقل من القليل, وأعز من العزيز, وأغرب من عنقاء مغرب, لكن لا ينسحب ذلك في كل زمان, فان النور النبوي تارة ينبع ويظهر فيظهر أهله لصلاح ذلك الزمان, فإن النور النبوي تارة ينبع ويظهر فيظهر أهله لصلاح ذلك الزمان, وتارة يخفي مع وجوده, فيخفي أهله لفساد ذلك الزمان, فالعدد لا ينقطع, لكن تارة يريد الله تعالى إظهار أوليائه
كزماننا هذا, والحمد لله, وتارة يريد الحق تعالى إخفاءهم لحكمة أرادها الله تعالى, والله يحكم لا معقب لحكمه, والله تعالى اعلم.
ثم تأسف ثانيا على قلة من يبحث معه في هذا العلم فقال:
يا معشر الأخوان هل من سائل ..... أخبره عن هذه المسائل
قلت: المذاكرة في هذا الفن من الأمور المؤكدة, فلا بد من صحبة إخوان يخوض معهم في هذه الفن, وقد قالوا: فهم سطرين أفضل من حفظ سفرين, ومذاكرة اثنين أفضل من هاتين, وكما أن الذكر اللساني للجماعة فيه أفضل, كذلك الذكر القلبي, وهي الفكرة الجماعة فيه أفضل من الانفراد, والجماعة في الفكرة هي المذاكرة مع أرباب الفن, فان إدراك فكرة متعددة أحسن من إدراك فكرة واحدة, وهذا كله مع من دخل بلاد المعاني, وإلا فاستعمل فكرة واحدة أفضل من الاجتماع مع غيره,
وقال سيدي علي العمراني: "الجلوس مع العارف أفضل من العزلة, والعزلة أفضل من الجلوس مع العامة, وفضل الصحبة أمر شهير لما فيه من التعاون, قال تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى".
وأوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود كن يقظانا وارتد لنفسك إخوانا, وكل أخ أو صاحب لا يوافق على مسرتي فارفضه, فانه لك عدو, أو كمال قال.
وقال ابن عباد رضي الله عنه في نظم الحكم:
إن التواخي فضله لا ينكر ..... وإن خلا شرطه لا يشكر
والشرط فيه أن يؤاخي العارفا ..... عن الحظوظ واللحوظ صارفا
مقاله وحاله سيان ..... ما دعوا إلا إلى الرحمن
أنواره دائمة السراية ..... فيك, وقد حفت بك الرعاية
وقاصد لفاقد هذا الشرطا ..... بصحبة يعقدها قد أخطا
لأنه يرى بها محاسنه ..... فنفسه ذات اغترار آمنه
وهو نظم لقوله: "لا تصحب من لا ينهضك حاله, ولا يدلك على الله مقاله" ربما كنت مسيئا فأراك الإحسان منك صحبتك إلى من هو أسوأ حالا منك, وهذه النصيحة تصدق بصحبة الشيخ والإخوان, وإن كان ابن عطاء الله إنما قصد بها الشيخ, والله تعالى أعلم.
ثم تأسف على ذهابهم وانقراضهم في زمانه, فقال:
وأسفا يا فتية الوصول ..... على انصرام حبلها الموصول
قلت: التأسف هو التحسر, والفتية جمع فتى والفتى هو من سكر صنم نفسه, قال تعالى: في شأن الخليل "قالوا سمعنا فتى يذكركم يقال له إبراهيم".
وفتية الوصول: هم العارفون بالله, لأنهم أهل الوصول والتمكين, والانصرام هو الانقطاع, وكأن طريق العارفين كانت فيما سلف موصولة بحياة أربابها, مرتبطة بتحصين, ثم انصرفت وانقطعت بموت أربابها وانقطاع موادها وأسبابها, وهذا كما قال القائل:
أهل التصوف قد مضوا ..... صار التصوف مخرقه
صار التصوف ركوة ..... وسجادة مزوقة
صار التصوف سبحة ..... وتواجدا ومنطقة
كذبتك نفسك ليس ذي ..... سنن الطريق الملحقة
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى :: تعاليق
الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
فتأسف الشيخ وتحسر على انقطاع هذا الطريق, بانقطاع أهلها, وناداهم وإن كانوا غائبين زيادة في التحسر, فكأنه يقول يا أسفي أولياء الله انقطاع طريقكم بعد وصلها, واندراسها بعد ظهورها, وقد تقدم له هذا المعنى في أول الكتاب.ثم شوق إلى اللحوق بهم ومشاركتهم في مقاماتهم, فقال:
لو أبصر الشخص اللبيب العاقل ..... لم يعتقل عن هذه المعاقل
قلت: الاعتقال هو: الربط والحبس, ومنع عقال البعير, والمعاقل هي المراتع التي يعقل فيها الخيل لترتع, ولا يكون إلا خصبا, كالروض ونحوه.
يقول رضي الله عنه: لو أبصر العاقل بنور بصيرته ونظر ما خص الله أولياءه من كرامته وما متعهم به من النزهة في معرفته, لم يعتقل ويجلس عن هذه الرياضات والمراتع التي رتع فيها الذاكرون وتنزه في رياضها العارفون, ولم يقنع بخيالات الدنيا التي لا حقيقة لها, وشهواتها الفانية التي لا بقاء لها, قال تعالى:
"أفرأيت إن متعناهم سنين, ثم جاءهم ما كانوا يوعدون, ما أغنى عنهم ما كان يمتعون".
قال في التنبيه: وحاصل الدنيا أمور وهمية انقادت طباع الناس إليها, وهي لا تفي بجميع مطالبهم لضيقها وقلتها وسرعة تقضيها, فتجاذبوها بينهم, فتكدر عيشتهم, ولو يحصلوا على كلية أغراضهم, كما قيل:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها ..... على أنهم فيها عراة وجوع
أراها وإن كانت قليلا كأنها ..... سحابة صيف عن قريب تقشع
وقال سهل رضي الله عنه للعقل ألف اسم, ولكل اسم منه ألف اسم, وأول اسم منه ترك الدنيا.
قال الحسن رضي الله عنه: كيف يسمى عاقلا وهو يصبح ويمسي في الدنيا ومباهاة أهلها في المطاعم والمشارب والملابس والمراكب, أولئك هم الخاسرون, أولئك هم الغافلون, أولئك هم الجاهلون.
قلت: ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في بعض مواعظه "إن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور, والإنابة في دار الخلود, والتزود لسكنى القبور, والتأهب ليوم النشور".
وقال أبو علي الثقفي رضي الله عنه أف من أشغال الدنيا إذا أقبلت وأف من حسراتها إذا أدبرت, والعاقل من لا يركن إلى شيء إذا اقبل كان شغلا وإذا أدبر كان حسرة, وقد قيل في معناه:
ومن يحمد الدنيا لشيء يسره ..... فسوف لعمري عن قريب يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة ..... وإن أقبلت كانت كثيرا همومها
وقيل لأبي القاسم الجنيد رضي الله عنه: متى يكون الرجل موصوفا بالعقل؟ فقال: "إذا كان للأمور مميزا ولها متصفحا, وعما يوجبه عليه العقل باحثا, يلتمس بذلك طلب الذي هو أولى ليعمل به, ويؤثره على سواه, فإذا كان كذلك فمن صفة العقلاء ركوب الفضل في كل أحواله بعد إحكام العلم بما فرض عليه, وليس من صفة العقلاء إغفال النظر لما هو أحق وأولى, ولا من صفتهم الرضا بالنقص والتقصير, فمن كانت هذه صفته بعد إحكامه لما يجب عليه من عمله ترك التشاغل بما يزول, وترك العمل بما يفنى وينقضي, وذلك وظيفة كل ما سورت عليه الدنيا, وكذلك لا يرضى أن يشغل نفسه بقليل زائل وبيسير حائل, يصده التشاغل به والعمل به عن أمور الآخرة التي يدوم نعيمها ونفعها ويتأبد سرورها, ويتصل بقاؤها, وذلك أن الدين يدوم نفعه, ويبقى على العامل حظه, وما سوى ذلك زائل مردود, مفارق موروث, يخاف من تركه سوء العاقبة فيه, ومحاسبة الله عليه, وكذلك من صفة العاقل تصفحه للأمور بعقله, والأخذ منها بأوفره, قال الله تعالى: "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب".
بذلك وصفهم الله تعالى,، وذوو الألباب هم ذووا العقول, وإنما وقع الثناء عليهم بما وصفهم الله به للأخذ بأحسن الأمور عند استماعهم, وأحسن الأمور هي أفضلها وأبقاها على أهلها نفعا في العاجل والآجل, والى ذلك ندب الله من عقل في كتابه.
انتهى كلام الجنيد رضي الله عنه, وهو في غاية الحسن لتفسير العاقل, من الله علينا باستعماله آمين.
وإلى هذا العاقل وجه الناظم الخطاب بقوله:
يا صاحب العقل الحصيف الوافر ..... إياك أن تصدمك الحوافر
قلت: الحصيف بالمهملة والفاء المروسة هو: المحكم المتقن, وثوب حصيف أي محكم النسج, وهو ضد الخفيف, والصدم هو الزطم بلغتنا.
يقول رضي الله عنه: يا صاحب العقل الكامل لا ترض لنفسك بالغفلة والتواني والتقاعد عن مراتب الرجال أهل المعاني, فتقعد في طريق السير حتى تزطم فيه الرجال, ويسبقوك إلى رتبة الكمال ونيل كرامة الوصال ودخول جنة الكمال, فتندم حيث لا ينفع الندم, وقد زلت بك القدم, وأنشدوا:
السباق السباق قولا وفعلا ..... حذر النفس حسرة المسبوق
وقال ابن الفارض رضي الله عنه:
وجد بسيف العزم سوف فإن تجد ..... تجد نفسا فالنفس إن جدت جدت
والتنافس في الطاعات ونيل المراتب محمود قال تعالى: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" إلا انه لا ينبغي أن يجعل الإنسان مجاهدته في مقابلة هذا الحرف, بل يجاهد نفسه في تحقيق العبودية والقيام بوظائف الربوبية, ولا يلتمس بذلك حظا ولا حرفا, فبذلك يتحقق الإخلاص ويلحق بدرجة الخواص, والله تعالى اعلم.
"ثم" نبهك على ارتحال الدنيا عنك إن لم ترحل عنها بقلبك فقال:
لقد غدا الكون لديك سافر ..... إن لم تكن فيه كما المسافر
قلت: غدا بمعنى: صار, والمسافر الخالي من الشيء, وقد يراد به المسافر, يقال سفر فلان فهو سافر, ويجمع على سفر كراكب وركب.
يقول رضي الله عنه: لقد صار الكون مسافرا عنك بموتك إن لم تسافر عنه بهمتك.
قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" وكان عبد الله بن عمر يقول: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء, وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح".
يقول لقد صار الكون خاليا عندك من الخير إن لم تزهد فيه وتسافر عنه بهمتك وتشتغل فيه بطاعة ربك.
والحاصل إن الإنسان والكون يتسابقان ويتصارعان, فمن سبق الكون وغلبه برفع همته عنه والغيبة عما فيه, والزهد فيما اشتمل عليه خدمه الأكوان بأسره, وصار عونا له على السير إلى ربه, بل يصير عبد له, يتصرف فيه بهمته كيف شاء, قال الشاعر:
لك الدهر طوع والأنام عبيد ..... فعش: كل يوم من أيامك عيد
وقال ابن الفارض رضي الله عنه:
وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ..... ترى الدهر عبدا طائعا, ولك الحكم
وقال في الحكم: "أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون, فإذا شهدته كانت الأكوان من معك".
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: "يا دنيا أخدمي من خدمني وأتعبي من خدمك".
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: "الدنيا طالبة ومطلوبة, فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستكمل رزقه, ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة حتى يأخذ الموت بعنقه".
ومن سبقه الكون وغلبه بالرغبة فيه والحرص على ما اشتمل عليه, وبقي في يده أسيرا, وفي سجنه رهينا, وعن ربه بعيدا, فإذا مات صار في قبره فريدا, وبسبب ذلك عدم العلم والفهم وانقياده للحدس والوهم, كما قال الششتري رضي الله عنه:
تقيدت بالأوهام لما تداخلت ..... عليك ونور العقل أولئك السجنا
ولا يتخلص الإنسان من سجن الأكوان حتى يخلع نعله عن الكونين, ويتخطى بهمته حظوظ الدارين, كما قال القائل:
وعن الكونين كن منخلعا ..... وأزل ما بيننا من بيننا
وقال بعضهم: "طالب الدنيا أسير, وطالب الآخرة أجير, وطالب الحق أمير, فإذا تحرر العبد من رق الحظوظ, فقد تحقق سفره إلى ربه وظفر بوصله وقربه حققنا الله بذلك بمنه وكرمه وإلا بقي موثقا بحبل هواه, مكبلا في قيد حظوظه ومناه,
كما أشار إلى ذلك بقوله:
يا موثقا في موثق الممالك ..... تزهو أراك اليوم زهو المالك
قلت: الموثق: المحبوس, والوثائق ما يحبس به, والزهو الترفع والتكبر.
يقول رضي الله عنه: يا محبوسا في وثاق شهواته وحظوظ نفسه, لقد كنت حرا وهي مملوكة لك, لو غلبت عنها في محبة خالقها لخدمتك, فلما شغفت بحبها وخدمة نفسك في طلبها صرت مملوكا لها أسيرا في يدها, فابك على نفسك بكاء الثكلى, واضرع في فكاك نفسك إلى المولى, فعسى أن يفك أسرك ويصلح أمرك ويردك إلى أصلك, فتصير مالكا والهوى مملوكا, وتصير مخدوما والهوى خادمك, كما قال الشاعر:
كنت عبدا والهوى مالكي ..... فصرت حرا والهوى خادمي
قال آخر:
العبد حر ما عصى طمعا ..... والحر مهما طاعة عبد
وفي الحكم: "أنت حر مما أنت عنه آيس وعبد لما أنت له طامع".
وقال أيضا: ما أحببت شيئا إلا كنت له عبدا, وهو لا يحب أن تكون لغيره عبدا.
وقال بعض الملوك لبعض الأولياء: أطلب مني شيئا نعطك؟ فقال له وكيف اطلب منك وأنت عبد لعبدي, فقال له: وكيف ذلك؟ فقال له: أنا زهدت في الأشياء فخدمتني وأنت أحببت الأشياء فملكتك, أو كلاما هذا معناه لطول العهد به.
وإذا كنت أيها الراغب في الدنيا أسيرا في يدها, كيف يمكنك أن تزهو وتترفع على غيرك زهو المالك, وإنما أنت مملوك, فتنبه لمصيبتك واعرف قدرك, ولا تتعد طورك, واسأل الله تعالى أن يفك أسرك, وبالله التوفيق.
ثم وبخ المخاطب على قلة الاستماع فقال:
يا من أعاتبه على الدوام ..... حتام أجفان الدوا دوام
قلت: المعاتبة: اللوم والتقريع و"حتى" بمعنى "إلى" الغائية "وما" نافية حذف ألفها للوزن, وأجفان الدوا مبتدأ, ودوام: خبره منقوص مقدر رفعه, ودوام جمع دامية: أي سائلة بالدم, والمجرور بحتى محذوف, والتقدير إلى أي زمان تستمر مريضا, وليس أجفان عينك التي في بكائها شفاؤك سائلة بالدم.
يقول رضي الله عنه: "يا من نعاتبه على الدوام, وهو يسمع عتابي ويفهم خطابي, ومع ذلك لم ينكف عن العناد ولم يرجع عن الانتقاد, إلى متى تبقى عليلا, وقد أمكنك الدواء, فكيف لا تبكي على نفسك وقد تنشب في باطنك داء الهوى, فإذا كان الدواء في سكب دمعك, فكيف لا تبكي الدم في طلب شفاء نفسك, وفي الحكم "تمكن حلاوة الهوى من القلب هو الداء العضال, لا يخرج الشهوة في القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق".
فلا يخرج الداء من القلب إلا وارد قوي يأتي من حضرة قهار لا يصادم شيئا إلا دمغه إما بنفحة إلهية أو بسبب واسطة شيخ كامل عارف محقق.
والغالب أن من صدق في الطلب يبلغه الله ما طلب, كن طالبا تجد مرشدا, فمن طلب الله وجده وأنجز بالوفاء وعده, فإذا تضرع وبكى على نفسه كما قال الناظم, أخذ الله بيده وأطلعه على ولي من أوليائه حتى يوصله إلى ربه, والله أكرم من أن يلتجئ العبد إليه ولا يضمه إليه, وبالله التوفيق, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي بعض النسخ:
يا من أعاتبه على الدوام ..... حتى متى جفنك في منام
وهو يشير إلى قوله عليه الصلاة والسلام "الناس نيام فإذا ماتوا استيقظوا".
وقال بعض الشعراء:
إلى كم تمادى في غرور وغفلة ..... وكم هكذا نوم إلى غير يقظة
لقد ضاع عمر ساعة منه تشترى ..... بملء السما والأرض أية ضيعة
أتنفق هذا في هوى هذه التي ..... أبى الله أن تسوي جناح بعوضة؟
وترضى من العيش السعيد بعيشة ..... مع الملأ الأعلى بعيش البهيمة
ثم ذكر سبب إعراض المعاتب وعدم انزجاره, وهو البلادة والجهل, فقال:
كم أنت ذو وسائد عراض ..... لاه عن الجوهر بالأعراض؟
قلت: "كم" اسم استفهام يستفهم بها عند العدد, وهي هنا الأزمنة والأوقات, ووسائد جمع وساده, وصرفا للوزن, والمراد به هنا: الكناية عن عدم الفهم, يقال "فلان عريض الوسادة, وعريض القفا, إذا لم يفهم ولم يفطن, وقد قال عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم حيث لم يفهم قوله تعالى: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" فحمله على ظاهره فجعل خيطين تحت وسادته وجعل ينظر أليهما ويأكل حتى تبين أحدهما من الآخر, فلما قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنك لعريض القفا" وفي رواية "إن وسادك إذن لعريض" على بعض التأويلات, والجوهر هنا كناية عما يبقى, والإعراض كناية عما يبقى, والإعراض كناية عما يفنى, لأن العرض لا يبقى زمانين, يقول رضي الله عنه: كم تمكث أيها المعاند من السنين والأوقات, وأنت في سكرة الغفلات غبي جاهل, لا تسمع الخطاب ولا تنفع فيك العتاب, مشتغل بالعرض الفاني عن النعيم المقيم أما تسمع قوله تعالى: "يوم لا ينفع مال ولا بنون, إلا من أتى الله بقلب سليم" إلى كم تبقى غليظ الطبع عريض القفا معتنيا بإصلاح جسمك الذي هو معرض للفناء, لاهيا عن إصلاح جوهر روحك وقلبك الذي هو سبب النعيم على الدوام والبقاءِ, فبادر أيها الجاهل إلى دواء قلبك قبل أن يهجم عليك الحمام, وأنت على حالك من الأمراض والسقام, فانهض أيها الغافل إلى خلاص نفسك بالتوبة والندم قبل أن تندم ولا ينفعك الندم, وقد زلت بك القدم, وأنشدوا:
أما آن للنفس أن تخشعا ..... أما آن للقلب أن يقلعا
تقضي الزمان ولا مطمع ..... لما قد مضى منه أن يرجعا
تقضي الزمان فيها حسرتا ..... لما فات منه وما ضيعا
وقال آخر:
وما هي إلا ليلة ثم يومها ..... ويوم إلى يوم, وشهر إلى شهر
مطايا يقربن الجديد إلى البلا ..... ويدنين أشلاء الصحيح إلى القبر
ويتركن أزواج الغيور لغيره ..... ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوفر
وقال في الحكم "العجب كل العجب ممن لا يهرب مما لا انفكاك له عنه, ويطلب ما لا بقاء له ومعه "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".
والذي لا بقاء له معه هو شهواته وحظوظه الفانية والذي لا انفكاك له عنه هو قدر الله وقضاؤه والله تعالى اعلم.
ثم ذكر سبب حجاب الناس عن الله, فقال:
مهما تعديت عن الأجسام ..... أبصرت نور الحق ذا ابتسام
قلت: قد تقدم قريبا عند قوله, لم يتصل بالعالم الروحاني.. الخ.
الفرق بين العالم الروحاني والعالم الجسماني, فالعالم الجسماني هو محل ظهور حكمته تعالى, لأن من أسمائه تعالى الحكيم, وهو أيضا محل لظهور آثار تصرفات الأسماء والصفات, من إعزاز وإذلال, وقبض وبسط, وإحياء وإماتة, وغير ذلك من اختلاف الآثار, وهو أيضا محل لظهور العبودية التي بها كمال سر الربوبية, ومن مقتضى العبودية: الفقر والذل, والعجز, والضعف, والجهل, وهو أيضا محل ارتباط الأسباب بمسبباتها واقتران العلل بمعلولاتها, وبهذا وقع الحجاب عن شهود مسبب الأسباب, فوقف الناس مع الأسباب والعوائد, ومنعوا عن تحصيل المواهب والفوائد, وانهمكوا في طلب تحصيل هذه الأسباب لتحصيل مسبباتها, وارتبطوا معها حتى ظن أهل الجهل انه لا بد منها, قد خلهم بذلك هم الرزق وخوف الخلق لضعف أيمانهم وحجابهم عن ربهم فمن أراد الله عنايته رفع الحجاب عن قلبه, فأعرض عن هذا العالم بأسره, ورفع همته إلى ربه, فلاحت له الأسرار, وضحكت في وجهه الأنوار, فمهما تعديت أيها الإنسان بهمتك عن عالم الأجسام, وحصلت لك الغيبة عنه على التمام, أبصرت نور الحق في وجهه سرك ذا ابتسام, وهي أنوار الملكوت وأسرار الجبروت, وما حجبك عنها إلا شغل قلبك بأمر نفسك, فلو بعتها لربك يعوضك منها شهود أنوار قدسه, وما حجبك أيضا عن شهود تلك الأنوار إلا وقوفك مع خيال الحس وروية ألا غيار, كما أشار إلى ذلك بقوله:
مهما ارتقيت عن قبيل الحس ..... أدركت في نفسك معنى النفس
قلت: من اصطلاحات الصوفية أنهم يعبرون بالحس عما يدركه البصر من الأجسام الكثيفة, وبالمعنى عما يدركه بالبصيرة من المعاني اللطيفة القائمة: بالأجسام, وهي أسرار الذات ومعاني الصفات, فالوجود كله دائر بين حس ومعنى: الحس الظاهر, والمعنى الباطن, فالحس كأنه ظرف والمعنى مظروف, والحس لا ينفك عن المعنى, ومثال ذلك الثلجة: ظاهرها ثلجة وباطنها ماء, فالظاهر الجامد حس, والباطن المائي معنى, فالكون كله كالثلجة ظاهره كثيف ويسمى حسا, وباطنه لطيف ويسمى معنى,
وفيه قال الجيلي رضي الله عنه:
وما الكون في التمثال إلا كثلجة ..... وأنت لها الماء الذي هو نابع
فما الثلج في تحقيقنا غير مائه ..... وغير أن في حكم دهنه الشرائع
ثم أن الحق سبحانه جعل أحكام الحس مضادة لأحكام المعنى مع تلازمهما, فأحكام الحس أحكام العبودية, وهي النقائص, وأحكام المعنى أحكام الربوبية وهي الكمالات, فمن أراد أن يظفر بالمعاني بتمامها فليغب عن الحس وأحكامه, وهذا معنى قوله: "مهما ارتقيت عن قبيل الحس أدركت في نفسك معنى النفس" أي أدركت في ذلك معنى الروح, والروح لطيفة نورانية قائمة بالبدن, وهي من قبيل المعاني فمن عرف نفسه عرف ربه", ولا يفرق بين روحانيته وبشريته إلا من ترقى من عالم الحس إلى عالم المعاني.
والحاصل: أن الحس ما أظهره الله تعالى إلا لتقبض منه المعنى, وهي معرفة الحق سبحانه وتعالى, فلولا ظهور الحس ما قبضت المعنى, ولوا وجود المعنى ما قام الحس, وهو معنى قول الشيخ أبي مدين رضي الله عنه: "الحق مستبد, والوجود مستمد, والمادة من غين الجود, فإذا انقطعت المادة أنهد الوجود".
فالحق تعالى مستبد, أي قائم بنفسه, والوجود هو الحس الظاهر "مستمد" من المعنى الباطنية, فلو انقطعت مادة المعاني التي تمد الحس "انهد" الوجود أي اضمحل وتلاشى, لو ظهرت صفاته اضمحلت مكوناته "إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا" وهنا معاني تضيق عنها العبارة, وعلمنا كله إشارة, وفيما ذكرته كفاية, والله تعالى أعلم.
ثم عاتب من وقف مع الحس ولم ينفذ إلى المعنى, فقال:
يا من على القشر غدا يحوم ..... حتى عن اللب متى تصوم؟
قلت: القشر هو ظاهر الشيء, ويسمى الصوان بكسر الصاد, لأنه يصون ما في داخله, واللب هو باطن الشيء وقلبه, فالحس قشر والمعنى لب.
يقول رضي الله عنه: يا من وقف مع قشره الظاهر فاعتنى بإصلاح ظاهره وتدبير أمر بدنه أكلا وشربا وملبسا ومنكحا ومسكنا أو اعتنى برفعته وعزه وطلب رياسته وجاهه, أو اعتنى بإصلاح جوارحه الظاهرة ولم ينفذ إلى إصلاح باطنه, وغدا أي صار يحوم ويدور حول القشر الظاهر "متى" تتسمر صائما عن حلاوة المعاني الباطنية, وهي حلاوة الشهود ولذة معرفة الملك المعبود, ولم تذق منها ما ذاقت الرجال, ولم تزاحمهم على مراتب الكمال.
قال إبراهيم بن أدهم أو مالك بن دينار: خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا شيئا, قالوا: وما فاتهم؟ قال: حلاوة المعرفة, فكل من وقف مع الرسوم الظاهرة لا يطمع أن يذوق حلاوة المعاني الباطنية, وكل من اشتغل بحلاوة الرسوم لا يذوق حلاوة شهود الحي القيوم, وكل من اشتغل بحلاوة العبادة الحسية لا يذوق حلاوة المعاني القدسية,
ولله در الششتري حيث يقول:
جميع العوالم رفعت عني ..... وضوء قلبي قد استفاق
تراني غائبا عن كل أين ..... كأس المعاني حلو المذاق
وقال ابن الفارض رضي الله عنه:
ولو خطرت يوما على خاطر امرئ ..... أقامت به الأفراح وارتحل الهم
والحاصل أن كل من اشتغل بالحس علما أو عملا لا يذوق حلاوة الشهود أبدا, ولا يطمع أن ينتقل من شغل الحس إلى شهود المعنى إلا بصحبة أهل المعنى. وإلا بقي متعوبا في عبادة الحس على الدوام, منكرا على أهل المعاني على الدوام, إلا من عصم الله, والله تعالى أعلم.
والى هذا المعنى "أي دوام الإنكار ممن لم يصحب أهل المعاني" أشار بقوله:
يا من إذا قيل له تعال ..... لمنهج التحقيق قال: لا لا
قلت: تعال فعل أمر بمعنى أقبل, ومنهاج التحقيق هو طريق الوصول إلى معرفة الحق معرفة حقيقية عيانية لا برهانية.
يقول: رضي الله عنه لهذا المنكر لطريق الخصوص: هلم إلى طريق التحقيق: طريق أهل العناية والتوفيق, طريق أهل الجمع بين التشريع والتحقيق.
قال بعضهم في تفسير قوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم" "هو الجمع بين الشريعة والحقيقة المفهومة", من قوله تعالى "إياك نعبد وإياك نستعين" فلما دعا هذا المنكر إلى منهاج التحقيق أجاب بأنه ليس من أهل هذه الطريق, لأنها طريق الأبطال, لا يسلكها إلا فحول الرجال, فقال مستمرا على إنكاره لا, لا أجيبك إلى ما دعوتني, إذ لا طريق أفضل مما أنا عليه, قال تعالى: "كل حزب بما لديهم فرحون".
وسبب إنكار هذه الطريق مع أنها مؤسسة على التحقيق, أمران: أحدهما أنها مبنية على قتل النفوس وخرق العوائد, وهذا الأمر ثقيل على النفوس, لا يقبله إلا من أراد الله وصوله إليه, وأهلها ثقيلون على النفوس الحية, لأن الميت لا يأوي إليه إلا مثله.
الثاني: أن عمل أهلها خفي, جله باطني, بين فكرة ونظرة, فكل من ينظر إلى أعمالهم الظاهرة استحقرها في عينه, فلا يقنع بطريقتهم.
قال ابن ليون التجيبي رضي الله عنه: المنكرون على الفقراء ثلاثة أصناف: أرباب الدنيا وأتباعهم, والجامدون من الفروعية وأتباعهم, والمتعمقون في الأعمال المتنمسون وأتباعهم.
فأما أرباب الدنيا فلأن الفقراء أضداد لهم, لرثة ثيابهم وقلة جاههم, والضد يبغض ضده, والدنيا تورث القساوة وطول الأمل, وأتباعهم يمشون في مرضاتهم.
وأما الجامدون من الفروعية "وهم علماء الظاهر" فإنهم يعتقدون الإحاطة بالشريعة, وينكون على من ترك طريقهم: وتتبعهم العوام على ذلك, والإحاطة بالشريعة متعذر, ثم قال: وحقيقة الفقه ما أدى إلى ترك الدنيا وطلب الآخرة.
وأما المتعمقون في الأعمال المتنمسون ففتنهم الشيطان برؤية الأعمال, وجعلهم يزيدون أعمالا قد نهوا عنها, فعظمهم الناس فهم ينقصون لأن الفقراء لا يتصنعون, والفقير إذا رأى أعماله أشرك, وإذا رأى انه قد أخلص احتاج إلى إخلاص يخلصه من شرك نفسه, ثم قال: وقد ذهب الفقراء والصوفية مذهب أهل القرآن والحديث, وعلومهم مكارم الأخلاق التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم ليكملها ويتمها, وعامة الخلق مطلوبون بها, انتهى" انتهى المراد منه.
ثم ضرب مثلا لمن جهل قدر نفسه وهي بين جنبيه, فقال:
يا جاهلا من داره سكناها ..... وهو يؤدي أبدا كراها
قلت: قد تقدم قوله:
ولم تزل كل نفوس الأحيا ..... علامة دراكة للأشياء
فأصل الروح قطعة نور جبروتي, انظر قوله تعالى: "ونفخت فيه من روحي" فلما ركبت في هذا الهيكل نسيت أصلها وجهلت أمرها بحكمة الحكيم العليم, فجعلت التعشق إلى أصلها وتجتهد في معرفة خالقها ومظهرها, وتتعب نفسها في الخدمة الحسية طلبا للوصول, فيقال لها إلى كم تتعبين نفسك والشيء أقرب إليك منك, اعرفي أصلك تعرفي ربك.
قال يحيى بن معاذ الرازي: "من عرف نفسه عرف ربه" فلما انكشف عنها حجاب الوهم وجدت في الحضرة, وهي الدار التي جهلت سكناها, فاستراحت من تعبها, ووجدت الدار التي كانت تسكن فيها, كانت لها وهي لا تشعر, فهي كانت مولاة الدار, ولكن لم تشعر, فهي بمثابة من كان يسكن دارا يظنها لغيره وهو يؤدي كراها, فلما علم بحقيقة الأمر ترك الكراء, كذلك الإنسان كان قبل الوصول: يظن أن المطلوب بعيد عنه, فلما زال حجاب الوهم وجد نفسه في الحضرة وهو لا يشعر.
وفي ذلك يقول بعض المشارقة:
قبل اليوم كنت مقيد بقيود البين
محجوب بالوهم نحسب مفردي اثنين
لما تبدى جمالك زال عني الغين
شاهدت عيني بعيني وصرت عين العين
وقال بعض التلامذة لشيخه: أين الله؟ فقال له: أسحقك الله وأبعدك, هل تطلب مع العين أين؟
وقال الششتري: في هذا المعنى:
أنا شيء عجيب لمن رآني
أنا المحب والحبيب ليس ثم ثاني
وقال غيره:
يا قاصدا عين الخبر غطاه أينك
الخبر الخمر منك والخبر والسر عندك
أرجع لذاك واعتبر ما ثم غيرك
وقال غيره:
كم ذا تموه بالشعبين والعلم ..... والأمر أوضح من نار على علم
أراك تسأل عن نجد وأنت بها ..... وعن تهامة, هذا فعل متهم
وقال في الحكم "وصولك إلى الله, وصولك إلى العلم به, وإلا فجل ربنا أن يتصل به شيء, أو يتصل به شيء".
وقال أيضا: "لا مسافة بينك وبينه حتى تطويها رحلتك, ولا قطعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك".
فمن من قوله "من داره" ابتدائية, وسكناها مفعول بجاهل, والمراد بالدار ذاته الحسية, والسكنى الخمرة الأزلية التي قامت بها, فهو ساكن في الحضرة وهو لا يشعر, أي يا جاهلا بسكنى الحضرة من ذاتها وهو يطلبها ويؤدي كراءها, والله تعالى أعلم.
ثم وبخه على جهله بنفسه الذي كان سببا في جهله بربه, فقال:
أتدري من أنت؟ وكيف تدري ..... وأنت قد عزلت والي الفكر
قلت: "والي الفكر" هو العقل, لأنه هو الذي يلي الفكر ويستعمله, عزله عن ذلك, هو اشتغاله بحظوظه وهواه, حتى بعد عن حضرة مولاه, وهذا منه رحمة الله تنبيه وإيقاظ للغافل, وتقريع وتوبيخ للجاهل, يقول له: أتدري من أنت أيها الإنسان؟ ولماذا خلقت؟ وما المراد منك؟ أنت نخبة الأكوان, وأنت في الأصل قطب الزمان, أنت المقصود الأعظم من هذا الكون, فلو تفكرت في أمر نفسك لعلمت عظمة ربك فسارعت إليه بجسمك وقلبك, لكن عزلت عقلك عن الفكر والاعتبار, وشغلت نفسك بالفضول والاغترار, فلا جرم انك هوت نفسك في دار البوار, فلو تفكرت في عجائب نفسك لتحققت بمعرفة ربك,
قال تعالى: "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" فتأمل في أول نشأتك, وفي تركيب صورتك: "فانظر رحمك الله إلى أصلك حين كنت نطفة مهينة فقلت الحق تعالى عرف دم الحيض مددا لك في رحم أمك, ثم صرت علقة, ثم مضغة, ثم فصل سبحانه تلك المضغة إلى العظم واللحم والعصب والعروق والدم والجسد والظفر والشعر, ووضع كل واحد منها لحكمة لولاها لاختل الجسد, بحسب العادة, فالعظام منها هي عمود الجسد, فضم بعضها إلى بعض بمفاصل وأقفال من العضلات والعصب, ربطت بها, ولم تكن عظما واحدا لأنه إذ ذاك يكون مثل الحجر أو الخشبة, لا يتحرك ولا يقوم ولا يجلس ولا يركع ولا يسجد لخالقه الحي القيوم, وجعل سبحانه وتعالى العصب على مقدار مخصوص, ولو كان أقوى مما هو, لم تصح في العادة حركة الجسم ولا تصرفه في منافعه, ثم خلق تعالى الخ.
في العظام لين في غاية الرطوبة ليرطب يبس العظام وشدتها, وتتقوى العظام برطوبته, ولولا ذلك لضعف قوتها وانخرم نظام الجسد بحسب جري العادة, ثم خلق سبحانه اللحم وأعفاه وعلاه على العظام, وسد به خلل الجسد كله, فصار مستويا لحمة واحدة, واعتدلت هيئة الجسد واستوت, ثم خلق سبحانه العروق في جميع الجسد جداول لجريان الغذاء فيها إلى أركان الجسد, لكل موضع من الجسد عدد معلوم من العروق صغارا وكبارا, ليأخذ الصغير من الغذاء حاجته, والكبير حاجته, ولو كانت أكثر مما هي عليه أو أنقص أو على غير ما هي عليه من الترتيب ما صح شيء من الجسد عادة, ثم أجرى الدم في العروق سيالا خاثرا ولو كان يابسا أو أكثف مما هو عليه لم يجر في العروق, ولو كان ألطف مما هو عليه لم تتغذ به الأعضاء, ثم كسا سبحانه اللحم بالجلد, ستره كله كالوعاء, ولولا ذلك لكان قشرا أحمر, وفي ذلك هلاكه عادة, ثم كساه الشعر وقاية للجلد, وزينة في بعض المواضع وما لم يكن فيه شعر على له اللباس عوضا عنه, وجعل أصوله مغروزة في اللحم ليتم الانتفاع به, ولين أصوله ولم يجعلها يابسة مثل رؤوس الإبر, إذ لو كانت كذلك لم يهنأ عيش, وجعل الحواجب والأشفار وقاية للعينين, ولولا ذلك لأهلكهما الغبار والسقيط, وجعلها سبحانه على وجه ليتمكن بسهولة من رفعها على الناظر عند قصد النظر, ومن إرخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النظر إلى ما تؤذي رؤيته دينا ودنيا, وجعل شعرها صفا واحدا لينظر من خللها, ثم خلق سبحانه شفتين ينطبقان على الفم يصونان الحلق والفم من الرياح والغبار, وينفتحان بسهولة عند الحاجة إلى الانفتاح, ولما فتحهما أيضا من كمال الزينة وغيرها, ثم خلق سبحانه بعدها الأسنان ليتمكن بها من قطع مأكوله وطحنه, ولم يخلق له الأسنان في أول الخلقة لئلا يضر بأمه في حال رضاعه, ولأنه لا يحتاج لها حينئذ لضعفه عما كثف من الأغذية, فعوضه الله منها برأفته لبن أمه دافئا في الشتاء باردا في الصيف, فلما قوي وصلح للغذاء الخشن خلق له الأسنان, لأن الطعام لو جعل في الفم وهو قطعة واحدة لم يتيسر ابتلاعه, فيحتاج إلى طاحونة يطحن بها الطعام, فخلق اللحيين من عظمين وركب منهما الأسنان وطبق الأضراس من العليا على السفلى, لتطحن بهما الطعام طحنا, ثم الطعام تارة يحتاج إلى الكسر, وتارة يحتاج إلى القطع, ثم يحتاج إلى الطحن بعد ذلك, فجعل سبحانه الأسنان على ثلاثة أصناف: بعضها عريضة طواحن كالأضراس, وبعضها حادة قواطع تصلح القطع كالرباعية, وبعضها صلبة للكسر كالأنياب.
ثم جعل سبحانه مفصل اللحيين متخللا بحيث يتقدم الفك الأسفل ويتأخر, حتى يكون على الفك الأعلى على, دوران الرحا, ولولاهما لم يتم إضراب أحدهما على الآخر, مثل تصفيق اليدين, ثم جعل الأسفل يتحرك حركة دورية, و"اللحي الأعلى ثابت لا يتحرك"
فانظر إلى عجيب صنع الله تعالى, فان رحى الحلق الأعلى يدور, والأسفل ثابت, ورحى الله تعالى معكوسة الأسفل يتحرك والأعلى ثابت, ثم هب أنك وضعت الطعام في الفم فكيف يتحرك الطعام إلى ما تحت الأسنان؟ وكيف تستجره الأسنان إلى نفسها؟ وكيف يتصرف باليد في داخل الفم؟ فانظر كيف أنعم الله عليك فخلق اللسان يطوف في جوانب الفم ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة؟ كالمجرفة ترد الطعام إلى الرحا, هذا مع ما فيه من فائدة الذوق وعجائب قوة النطق, ثم هب أنك قطعت الطعام وطحنته وهو يابس فلا تقدر على ابتلاعه, إلا بأن يزلق إلى الحلق بنوع رطوبة أنبع الله تعالى في الفم عينا نباعة على الدوام, أحلى من كل حلو, وأعذب من كل عذب, فيحرك اللسان بالغذاء ويمزجه بذلك الماء فيعود زلقا فينحدر في الحلق بلا مؤنة, ولهذا إذا أعدم الله تلك العين من حلق المريض لم يمض على الحلق شيء, وإن مضى فبمشقة عظيمة.
ومن عجب هذه العين أنها مع عدم انقطاعها لم يكن ماؤها يملأ الفم في كل وقت, حتى يتكلف الإنسان طرحها, بل جرت على وجه ألجمت فيه أن تتعدى وجه منفعتها, فتبارك الله أحسن الخالقين.
ثم لما كنت تحتاج إلى مناولة الطعام, وجعله في الفم خلق الله لك اليدين؛ ولم يجعلك كالبهيمة تأكل على فمك, فأنعم عليك باليدين, وهما طويلتان فتمتدان إلى الأشياء مشتملتين على مفاصل كثيرة, لتتحرك في الجهات فتمتد وتنثني إليك, فلم تكن كالخشب
علها في صفين بحيث يكون الإبهام في جانب يدور على الأربعة الباقية, ولو كانت مجتمعة لم يحصل بها تمام غرضك, ووضعها وضعا إن بسطتها كانت مجوفة, وإن ضممتها وثنيتها كانت لك مغرفة, وإن جمعتها كانت آلة للضرب, وإن نشرتها ثم قبضتها كانت لك آلة للقبض, ثم خلق سبحانه أظفارا وأسند إليها رؤوس الأصابع لتشتد بها أطرافها لكثرة حركتها والتصرف بها في الأمور حتى لا تتفتت, وحتى تلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تأخذها الأصابع, ولتحك بها جسدك, ولما كان الشعر والظفر مما يطول, لما في طولهما في المصلحة لبعض الناس, ولتحك في جسدك, في بعض الأوقات, وكان جزهما مما يحتاج إليه في بعض الأوقات, لم يجعلا كسائر الأعضاء في تألم الإنسان بقطعهما, فانظر إلى دقائق هذه النعم, هل تقوم بشكرها؟!
ثم إذا نظرت إلى الطعام كيف تجذبه الحنجرة وتبتلعه؟ ثم إلى المعدة كيف تطبخه بالحرارة التي فيها؟ ثم إذا طبخ كيف يأخذ القلب اللباب الذي صعد على وجه المعدة؟ ثم كيف يجري في العروق المتصلة به من قرنك إلى قدمك, ثم إلى نعمة الرجلين, كيف تمشي بهما إلى حاجتك؟ وجدت نفسك مغمورا بالنعم, قال تعالى: "وإن تعدّوا نعمت الله لا تحصوها" هذه كلها نعم حسية, فكيف بالنعم الباطنية, كنعمة الإسلام والإيمان والمعرفة, والعلم, وغير ذلك بما لا يحصره العقل ولا يعده النقل: "فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون" ولذلك كانت عبادة التفكر قدرها عند الله عظيما, إذ لا يتوصل إلى هذه العجائب إلا بالتفكر.
ففي الحديث: " تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة".
وقال كعب: "من أراد شرف الدنيا والآخرة فليكثر من التفكر".
وقال الجنيد: أفضل المجالس مجلس الفكرة في ميدان التوحيد.
وقال في الحكم: "الفكرة سراج القلب, فإذا ذهبت فلا إضاءة له".
وفضائل التفكر كثيرة وقد شفى الغزالي في "الإحياء" فيها الغليل, والله تعالى أعلم.
ثم بين شرف الإنسان وعظيم قدره إن استقام مع ربه, فقال:
يا سابقا في موكب الإبداع ..... ولاحقا في جيش الاختراع
قلت: "الموكب" هو الجمع العظيم, و"الاختراع" هو الإيجاد, أشار رحمه الله إلى أن الإنسان له وجودان: أحدهما سابق في الأزل, والآخر لاحق فيما لا يزال, فيحتمل أن يشير بالسابق إلى الوجود الأصلي, وباللاحق إلى التجلي الفرعي, أو إلى أصل ظهور القبضة أولا, ثم ظهور الفروقات ثانيا, وهذا يناسب قوله "موكب الإبداع", وحديث القبضة مروي عن جابر رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول شيء خلقه الله؟ فقال: نور نبيك يا جابر, خلقه ثم خلق منه كل خير, وخلق بعده كل شيء, وحين خلقه أقامه قدامه في مقام القرب اثنتي عشر ألف سنة, ثم جعله أربعة أقسام فخلق العرش من قسم, والكرسي من قسم, وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم.
وأقام القسم الرابع في مقام الحب اثنتي عشرة ألف سنة, ثم جعله أربعة أجزاء, فخلق القلم من قسم, واللوح من قسم, والجنة من قسم.
وأقام القسم الرابع في مقام الخوف اثنتي عشرة ألف سنة, ثم جعله أربعة أجزاء فخلق الملائكة من جزء, والشمس من جزء, والقمر والكواكب من جزء.
وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء اثنتي عشرة ألف سنة, ثم جعله أربعة أجزاء, فخلق العقل من جزء والعلم من جزء, والحلم والعصمة والتوبة من جزء.
وأقام الجزء الأربع في مقام الحياء اثنتي عشرة ألف سنة, ثم نظر الله تعالى إليه فرشح النور عرقا فقطر منه مائة ألف وأربع وعشرون ألف قطرة, فخلق الله من كل قطرة روح نبي أو رسول, ثم تنفست أرواح الأنبياء, فخلق الله من أنفاسهم نور الأولياء, والسعداء والشهداء والمطيعين من المؤمنين إلى يوم القيامة, في حديث طويل.
وهذا الحديث وإن كان ضعيفا, فله شواهد تعضده.
منها حديث عمر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من أنا؟ أنا الذي خلق الله تعالى أول كل شيء نوري فسجد له, فبقي في سجوده سبع مائة عام, "فأول شيء سجد له نوري" ولا فخر, يا عمر أتدري من أنا؟ أنا الذي خلق الله العرش من نوري, والكرسي من نوري, واللوح والقلم من نوري, والشمس والقمر من نوري, ونور الأبصار من نوري, ونور العقل الذي في رؤوس الخلق من نوري, ونور المعرفة في قلوب المؤمنين من نوري ولا فخر.
وذكر الورتجيبي في تفسير قوله تعالى: "قل أن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين" عن جعفر الصادق, قال أول ما خلق الله نور محمد صلى الله عليه وسلم قبل كل شيء, وأول من وحد الله عز وجل ذرة محمد صلى الله عليه وسلم, وأول ما جرى به القلم "لا اله إلا الله محمد رسول الله" صلى الله عليه وسلم.
وقال في تفسير الآية: فيها إشارة إلى أوليته عليه الصلاة والسلام في عبودية الله, وإشارة إلى بدء وجوده في إتيانه من العدم بنور القدم, وانقياده في أول تجلى جلاله.
قلت: وعلى هذا المحققون من الصوفية, وانظر قول العارف القطب الكبير الشيخ ابن مشيش رضي الله عنه في تصليته مشهورة "اللهم صلي على من منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار".
ثم قال: "ولا شيء إلا وهو به منوط, إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط".
وقال في بردة المديح:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ..... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
وقال أيضا:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ..... ومن علومك علم اللوح والقلم
ولا يعترض على مثل هذا إلا جاحد محجوب, نعوذ بالله من غم الحجاب وسوء الحساب وشدة العذاب, وبالله التوفيق, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم حض على التفكير والاعتبار ليعرف ما عليه من النعم الغزار, فقال:
اعقل فأنت نسخة الوجود ..... لله ما أعلاك من موجود
قلت: ذكر أهل التأريخ أن الوجود كله خلقه الله على صورة الآدمي, من عرشه إلى فرشه, ولعل تلك القبضة النورانية النبوية كانت على صورة الإنسان, ثم تفرعت منها الأكوان كلها, فاختصر الله الوجود بأسره من هذا الآدمي, فهذا دليل على شرفه على الكون, هذا معنى قوله: "فأنت نسخة الوجود" أي مختصر منه, ويقال: الولد نسخة أبيه.
وقال الجيلي رضي الله عنه:
ونفسك تحوي بالحقيقة كلها ..... أشرت بجد القول ما أنا خادع
وقال الششتري رضي الله عنه:
وأنت مرآة للنظر ..... قطب الزمان وفيك يطوي ما انتشر
من الأواني ...,...........,...؛....
وقوله: "لله ما أعلاك من موجود" تعجب من شرفه, كقولك: لله دره, أي أمرك لله لا يفهمه غيره, ما أعلا قدرك عند الله, إن عرفت أصلك وفصلك, وقمت بواجب ذلك, وإلا فأنت في أسفل سافلين.
قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: قرأت مرة والتين والزيتون, إلى أن انتهيت إلى قوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم, ثم رددناه أسفل سافلين" ففكرت في معنى الآية فكشف عن اللوح المحفوظ, فإذا فيه مكتوب لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحا وعقلا ثم رددناه أسفل سافلين نفسا وهوى.
ثم بين وجه كونه نسخة الوجود, فقال:
أليس فيك العرش والكرسي ..... والعالم العلوي والسفلي
قلت: اشتمال الإنسان على العالم العلوي والسفلي, يحتمل أن يكون ذلك من جهة معناه, أو من جهة حسه, أما من جهة المعنى فلا شك أن الروح أصلها ملكوتية, لا يحصرها كون, كما قال في الحكم:
"وسعك الكون من حيث جثمانيتك, ولم يسعك من حيث ثبوت روحانيتك".
لكن الإنسان لما جهل نفسه وتركها محجوبة بهواها, أنحجبت روحه, وانحصرت في هذا الكون, فإذا عرفها وخرق عوائدها انخرقت له العوائد وخرجت روحه عن الكون بأسره, فلم يحجبها عن الله أرض ولا سماء, ولا عرض ولا كرسي, فحينئذ تستوي روحه على الوجود بأسره من عرشه إلى فراشه, فينطوي في جوفه العرش والكرسي والأفلاك وغير ذلك,
وهو الذي قصده الششتري رضي الله عنه بقوله:
أغمض طرفك ترى ..... وتلوح أسرارك
وأفن عن الورى ..... تبدو لك أخبارك
وبصقل المرأ ..... به يزول إغبارك
قال:
الفلك فيك يدور ..... ويضيء ويلمع
والشموس والبدور ..... فيك تغيب وتطلع
فاقرأ معنى السطور ..... التي فيك أجمع
لا تغادر سطر واحد ..... من سطورك وادر
أش هو القمر الذي فيك يسري
وقوله: "فاقرأ معنى السطور" إلخ: اعلم أن الصوفية رضي الله عنهم يطلقون على هذه الأجرام الحسية رسوما وأشكالا وسطورا, ووجه الإطلاق الدلالة على المعاني, فكما أن الحروف تدل على المعاني, كذلك هذه الأجرام الحسية, المقصود منها هو قبض المعاني اللطيفة, وكما أن القارئ, إذا حفظ المعنى محي الرسوم, كذلك العارف إذا قبض المعنى غاب عن الرسوم, ولا يحتاج إليها.
بل تمتحي من نظره, قال ابن العريف رضي الله عنه وتفتيق صورته وتشكيلها وتسويتها وتحسينها سطور, مكتوب فيها بقلم القدرة, سبحان البديع الصانع, سبحاني ما أعظم شأني, إن وحدتني تعرفني.
فهذا معنى السطور التي في الإنسان, فإذا حفظ هذا المعنى محي رسمه واسمه, وبقي معناه, والله تعالى أعلم.
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
وأما من جهة حسه فقد قال بعضهم: إن جسد بني آدم مشتمل على ما اشتمل عليه العالم بأسره, جعله الحق تعالى نسخة الوجود, يحاكي بصورته كل موجود, ففيه جسم كثيف ونور لطيف, نصفه ساكن, ونصفه متحرك, نصفه نور ونصفه ظلمة,، وجعل فيه العناصر الأربعة, واستودع فيه قوة الجلب والدفع, الضرر والنفع, وجعل قلبه خزانة لسره, ولسانه ترجمان ذلك, وعيناه حارستان وأذناه مخبرتان, ورجلاه مطيتان, ويداه خادمتان, وجعل رأسه عرشه, وصدره كرسيه, وجانباه شرقه وغربه, وجعل حركته كحركة الشمس والقمر والنجوم, وتركيبه على تركيب العالم العلوي, فجعل في ظهره أربعة وعشرين فقارة, على عدد الساعات, وفي جسده ثمانية وعشرين مفصلا, على عدد المنازل, وفي جوفه اثنا عشر معنى, على عدد البروج والشهور, وفيه ثلاثمائة وستة وستون عرقا نافضا ومثلها ساكنة على عدد أيام العام, وجعل معدته بيت ماله, وكبده قسامه, وجعل لحمه كالتراب, وعظامه كالجبال, وشعره كالنبات, وعروقه كالأنهار, وجواهره معادن وهي تسعة: لحم, ودم, وعظم, وعصب, ومخ, وشحم فهذه ستة خفية, وثلاثة ظاهرة وهي: الجلد, والشعر, والظفر, وفيه اثنا عشرة عنصرا, سبعة في الرأس: العينان, والأذنان, والمنخران والفم, والباقي في الجسد: الثديان والمخرجان والسرة, إلى غير ذلك لا يدرك, كما ذكره الشطيبي, في الفصل الأول, فانظره.قال الشيخ عبد الوارث: فأنت لباب هذه العوالم كلها فإذا أطعت الله أطعته بها كلها, وإذا عصيته فكذلك, فلأجل ذلك عظمت المعاصي منها, فتواعدنا عليها بالعذاب الأليم, وعظمت الطاعة فوعدنا الله عليها بالثواب الجسيم.
قلت: وفي هذا المعنى انشدوا:
إذا كنت كرسيا وعرشا وجنة ..... ونارا, وأفلاكا تدور وأملاكا
وكنت من السر المصون حقيقة ..... وأدركت هذا بالحقيقة إدراكا
ففيم التأني في الحضيض تثبطا ..... مقيما مع الأسرى أما آن إسراكا
وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: الخلق كلهم عبيد مسخرة, وأنت عبد الحضرة,
ثم جمع ما تقدم, فقال:
ما الكون إلا رجل كبير ..... وأنت كون مثله صغير
قلت: قد تقدم أن الإنسان نسخة من العالم حسا ومعنى, ولا يستغرب هذا, فقد قالوا: إن الناموسة فيها ما في الفيل, وزادت عليه بالجناح, فانظر كيف اجتمع في البعوضة ما افترق في الفيل, مع صغر جرمها, فكذلك الإنسان: اجتمع فيه ما افترق في الكون, وزاد عليه بسر الروح, وهو العقل الأكبر, وكون الإنسان رجلا صغيرا هو في حق من غلبت عليه البشرية, وأما من غلبت روحانيته فقد صار هو العالم الأكبر, والكون العالم الأصغر, لأن الروح تستولي عليه, ويصير في جوفها كشيء تافه, بل ينمحي بالكلية, والى هذا أشار ابن الفارض بقوله:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ..... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
والمعنى الذي هو فيه اللطيفة الروحانية السابقة في موكب الإبداع على جيش الاختراع, والله تعالى أعلم.
ومما عظم به أمر الإنسان, جمعه بين الضدين, والى ذلك أشار بقوله:
فأنت لست من قبيل الأرض ..... حتى إذا رميت فيها تمضي
قلت: قد خص هذا الإنسان بعجائب لم توجد في غيره, فهو سماوي أرضي, روحاني جسماني, نوراني ظلماني لطيف كثيف.
واعلم أن الله سبحانه لما أراد أن يتعرف إلى هذا الإنسان, وضع هذا الروح في هذه الجثة الجثمانية: لطيفة لاهوتية مودعة في كثيفة ناسوتية, فمن غلبت لطافته على كثافته كان روحانيا والتحق بالروحانيين, ومن غلبت كثافته على لطافته كان جسمانيا والتحق بالبهائم, ومن توسط نال شيئا من طبع البهائم وشيئا من طبع الروحانيين, وكان من أهل اليمين, فأنت أيها الإنسان لست من قبيل الأرض كالبهائم, حتى إنك مت صرت ترابا وتمضي هباء, لكنك مركب من روح وشبح, فإذا مات الشبح بقيت الروح, إما في غبطة أو حسرة, فالموت ليس عدما محضا, وإنما هو انتقال من دار إلى دار, ومن حال إلى حال, قال تعالى: "فأما إن كان من المقربين, فروح وريحان وجنات نعيم". الآية.
ومما ينسب للغزالي رضي الله عنه بعد موته وجدت عند رأسه, وقيل لغيره:
قل لإخوان رأوني ميتا ..... فبكوني ورثوني حزنا
أتظنون بأني ميتكم ..... ليس ذاك الميت والله أنا
أنا في الصور, وهذا جسدي ..... كان لباسي وقميصي زمنا
أنا كنز وحجاب طلسم ..... من تراب, قد تهيا للفنا
أنا در قد حواني صدف ..... حرت عنه فتخلى وهنا
أنا عصفور وهذا قفصي ..... كان سجني, فألفت السجنا
أشكر الله الذي خلصني ..... وبنا لي في المعالي وطنا
كنت قبل اليوم ميتا بينكم ..... فحييت, وخلعت الكفنا
فأنا اليوم أناجي ملكا ..... وأرى الحق جهارا علنا
عاكفا في اللوح أقرأ وأرى ..... كل ما كان ويأتي أو دنا
وطعامي وشرابي واحد ..... وهو رمز, فافهموه حسنا
ليس خمرا سائغا أو عسلا ..... لا, ولا ماء, ولكن: لبنا
هو مشروب رسول الله إذ ..... كان لسر من فطره فطرتنا
فحيي ذي الدار نوم مغرق ..... فإذا مات طار الوسنا
لا تظنوا الموت موتا انه ..... لحياة وهو غاية المنى
لا ترعكم هجمة الموت فما ..... هو إلا انتقال من هنا
فاخلعوا الأجساد من أنفسكم ..... تبصروا الحق عيانا بينا
وخذوا في الزاد جهدا لا تنوا ..... ليس بالعاقل هنا من ونا
أحسنوا الظن برب راحم ..... تشكروا السعي وتأتوا أمنا
ما أرى نفسي إلا أنتم ..... واعتقادي أنكم انتم أنا
عنصر الأنفاس منا واحد ..... وكذا الأجسام جسم عمنا
فمتى ما كان خير فلنا ..... ومتى ما كان شر فمنا
فارحموني ترحموا أنفسكم ..... واعلموا أنكم في إثرنا
أسأل الله لنفسي رحمة ..... رحم الله صديقا أمنا
وعليكم مني سلام طيب ..... وسلام الله بر وثنا
ثم قال:
فاحتل على النفس فرب حيلة ..... أنفع في النصرة من قبيلة
قلت: يقول رضي الله عنه: احتل أيها الإنسان على نفسك وسايسها جهدك, حتى تردها إلى مولاها فإذا رجعت إلى مولاها أتتك بطرائف العلوم, وفتح لك مخازن الفهوم, ولا حيلة أنفع فيها من أن تأخذ بزمامها وتدفعها إلى شيخ التربية يفعل بها ما يشاء, وتمتثل ما يأمرك به, وأما غير هذا فتعب وعنت لا يجدي ولا يفيد, وجرب ففي التجريب علم الحقائق, والتوفيق بيد الله, ولا حول لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فائدة: قال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: اعلم أن البيبان, أي الأبواب كلها مغلوقة بين الله وعبده إلا باب نفسه, من لم يدخل على الله من باب نفسه لا يدخل أبدا, من عادى نفسه فاز بإقبال الخلق عليه, ومن صادق نفسه فاز بإقبال مولاه عليه, لكن مصادقة النفس هذه التي ذكرنا لا تكون إلا بصحبة عارف بالله إن وجده, وأما قبل وجوده فلا, فإذا عادى الإنسان نفسه فلا بأس به, لأن هذه النفس خيرها ما له حصر, لا يعلم قدره إلا الله, وشرها ما له حصر, لا يعلم قدره إلا الله, ومن استشرف على خيرها هام فيه وفاته شرها, ومن استشرف على شرها هام فيه وفاته خيرها, ويرحم الله القائل:
وسمعت الخطاب: ما ذاتي ..... من مكان قريب
يا حياتي وأنت في ذاتي ..... حاضر لا تغيب
هذا والله ممن دخل على مولاه من باب نفسه, ويكفيك في النفس شرفا قوله صلى الله عليه وسلم:
"من عرف نفسه عرف ربه".
ومن كلام شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب نفعنا الله بالجميع.
من أين جيتي يا ذي الروح الهايما روحانيا ... الساكنا في أبساط أحوالها ربانيا
وقال أيضا:
راعي من النفس جهدك ..... ومسي وصبح عليها
لعلها تدخل بيدك ..... تعود تصطاد بيها
صار الأمر كما قلنا: عداوة النفس تمكنك من نواصي الخلق, أنت تزيد عداوة لنفسك والخلق يزيد إقبالا عليك, وأنت تزيد بعدا من مولاك ومصاحبة لنفسك تجمع بينك وبين هواك, أنت تزيد عداوة من نفسك وأنت تزيد قربا من ربك وإقبالا منه عليك, وأنت تزيد قربا من مولاك, وأنت تزيد بعدا من الخلق, وذلك لأنك إذا قربت من مولاك يشم الخلق فيك رائحة لا يعرفونها, فيحصل الإنكار منهم عليك, لأن "من جهل شيئا عاداه".
جرت عادة الله تعالى أن الداخل إلى الله منكور, والخارج إلى الخلق مبرور.
قال الشاعر:
من يخطب الحسناء ... يصبر على البذل.
ثم رجع إلى التوبيخ من ينكر عالم المعاني, وهو العالم الروحاني, فقال:
يا منكر المعقول والمعاني ..... ما الصنع في أمثلة القرآن
قلت: مضمن كلامه في الرد على من ينكر المعاني ويقر المحسوسات أن يقال له: لو كان الأمر محصورا في المحسوسات ما احتاج الله تعالى أن يضرب لنا الأمثال للأمور المعنوية بالأمور الحسية, لنفهم بسرعة, كضربة مثلا للعلم النافع بالماء النازل من السماء الذي يطهر الأرض وتمتلئ منه الأودية في قوله "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها" الآية, فإن العلم يطهر النفوس من ظلمات الجهل والشك والشرك, ويطهر القلوب من كدر الأغيار, والأرواح من لوث الأنوار, وتمتلئ منه القلوب: كل على قدر وسعه, كما أن الماء يطهر الأرض من الأدناس والأنجاس, وتمتلئ منه الأودية, كل على قدر وسعه وكقوله تعالى: "مثل نوره كمشكاة". الآية,
وكقوله تعالى: "ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء" الآية. إلى غير ذلك, فدل ذلك على أن الأمر على قسمين, منه ما هو حسي يدرك بالحس, ومنه ما هو معنوي يدرك بالعقل والروح, أو السر, ولما كان قد يخفى على بعض الناس ضرب الله له الأمثال بالأمور المحسوسة, تقريبا للفهم, والله تعالى أعلم.
فما تقول أيها المنكر لعالم المعاني في هذه الأمثلة التي ضربها الله في كتابه تقريبا لفهم المعاني.
قلت: وهذا الذي قاله الناظم لا ينهض في الرد على المنكر, لأن المعاني التي يثبتها الصوفية إنما هي معاني الصفات وأسرار الذات التي قامت به الأشياء, لا هذه المعاني التي ضرب الله لها الأمثال, فإنما هي أمور عقلية يدركها العقل ويقرها أهل الظاهر, ولا ينكرها أحد.
نعم عندنا آيات تشهد بظاهرها لعالم المعاني, كقوله تعالى: "الله نور السماوات والأرض", "إن الذين يبايعونك", "قل انظروا ماذا في السماوات"الآية, "هو الأول والآخر والظاهر والباطن. الآية. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على غوامض التوحيد وأسرار التفريد, ومن لم يبلغ فهمه هذا فشأنه التسليم, وإلا وقع في الإنكار على أولياء الله, فيصبح من الصم البكم الذين لا يعقلون.
والحاصل: أن عالم المعاني لا يدرك إلا بصحبة أهل المعاني, ولا يؤدى بالعبارة, وإنما يرمز عليه بالإشارة, فمن لم يفهم الإشارة فلا سهم له فيه, كما أشار إلى ذلك بقوله:
بعدا أرى فيك عن الإشارة ..... هل تنكرن رواية العبارة
قلت: يقول رضي الله عنه لهذا المنتقد: أرى فيك بعدا عن فهم الإشارة, فكيف تفهم المعاني وهي لا تؤدى إلا بالإشارة؟ وإذا بعدت عن فهم الإشارة فقد وردت رواية العبارة بإثبات ما تنكر من المعاني, هل تنكر رواية العبارة بعد أن بعدت عن فهم الإشارة , فما تقول في آيات وأحاديث تدل على ثبوت المعاني والعالم الروحاني, وكأنه يشير إلى الآيات التي قدمنا آنفا من قوله: الله نور السماوات والأرض الخ.
والحديث القدسي: "ويقول الله تعالى: عبدي مرضت فلم تعدني" الحديث ففيه ثبوت عالم المعاني, والله تعالى أعلم.
ثم وبخه على وقوفه من عقله فقال:
يا جاهلا أقصي الكمال وقفا ..... على عقول وهمها لا يخفى
قلت: عقول بني آدم ضعيفة محصورة, لا تدرك من التوحيد والمعرفة إلا افتقار الصنعة إلى صانعها, ثم تستدل على صفات هذا الصانع بما تدرك من المصنوعات, كوحدانيته وقدمه وبقائه وقدرته وحياته, إلى سائر صفاته المعلومة, وهي لا تأمن الخطأ ولا تسلم من الوهم والخواطر, لأنها في محل البعد, ومالها إلا الإيمان بالغيب, فمن وقف مع عقله وجعل ما أدركه به هو أقصى غاية الكمال, فهو مغبون, وبالجهل المركب مفتون, قال تعالى: "وخلق الإنسان ضعيفا" وهو عام يصدق بضعف العقل وغيره, أي ضعيفا من كل شيء, وقال ابن الفارض:
ثم وراء النقل علم يدق عن ..... مدارك غايات العقول السليمة
بخلاف ما أدركته الروح أو السر من المعاني اللطيفة والأسرار القديمة, فإن ذلك أذواق وكشوفات ومشاهدات, لا يبقى معها وهم ولا ظن ولا خاطر,
وقال المجذوب:
طلع النهار على قلبي ..... حتى نظرت بعينيّا
أنت دليلي يا ربي ..... أنت أولى مني بيا
واعلم أن النفس والعقل والقلب والروح والسر: تطورات للروح اللطيفة النورانية كما تقدم, وكل واحد من هذه التطورات له حد من العلم والإدراك لا يتجاوزه.
أما النفس فحد إدراكها: زينة ظاهر الكون اغترارا بمتعة ظاهره, وغفلة عن عبرة باطنة, لاشتغالها بحظوظها وهواها, فهي لا تلتفت إلى خالقها ومولاها, فإذا نبهت أقرت حينئذ, ثم رجعت إلى نومها, كمن طرش قائما فأفاق, ثم رجع إلى نومه.
وأما العقل فحد إدراكه وعلمه: افتقار الصنعة إلى صانعها على ما تقدم: معقول عن غير ذلك.
وأما القلب فحد إدراكه تعشقه وتوجهه إلى خالقه بترك الأغيار وطلب الأنوار, انطلق من المقال في طلب الكمال, ولكنه من وراء الحجاب, لم يفتح له الباب.
وأما الروح فحد علمها وإدراكها مواجهة أنوار الملكوت, طالبة أسرار الجبروت, قد استراحت من تعب السير, لكنها لم تتمكن من السر:
وأما السر فمنتهى إدراكه أسرار الجبروت, فقد نفذت البصيرة من الوقوف مع أنوار الملكوت, وهذا منتهى السير, قال تعالى: "وأن إلى ربك المنتهى".
ثم يبقى الترقي في المكاشفات والمشاهدات والعلوم والأسرار, إذ لا نهاية لها وقل رب زدني علما_.
قال في العوارف: وأعلم أن الاتصال والمواصلة أشار إليه الشيوخ, وكل من وصل إلى صفو اليقين بطريق الذوق والوجدان فهو في رتبة من الوصول, ثم يتفاوتون:
فمنهم من يجد الله بطريق الأفعال, فيغني عن فعله وفعل غيره, لوقوفه مع فعل الله ويخرج في هذه الحالة من التدبير والاختيار, وهذه رتبة في الوصول.
ومنهم من يترقى إلى مقام الفناء, مشتملا على باطنه أنوار اليقين والمشاهدة, مغيبا في شهوده عن وجوده, وهذا ضرب من تجلي الذات لخواص المقربين, وهذا رتبة في الوصول وفوق هذا مقام حق اليقين, ويكون في ذلك في الدنيا للخواص لمح وهو: سريان نور المشاهدة في كلية العبد حتى يحظى به روحه وقلبه ونفسه, حتى قالبه, وهذا من أعلى رتب الوصول, وإذا تحققت الحقائق يعلم العبد من هذه الأحوال الشريفة أنه بعد أول المنزل فأين الوصول, هيهات, منازل طريق الوصول لا تنقطع أبد الآباد في عمر الآخرة الأبدي فكيف في العمر القصير الدنيوي؟ انتهى.
وذكر الناظم للإنسان تطورا آخر, فقال:
أول أطوارك منذ أول ..... الحس والتمييز والتخيل
والعقل والذكر معا والفكر ..... هيهات, بل وراء ذلك طور
قلت: الأطوار هي الأحوال التي ينتقل إليها الإنسان من أول نشأته, كطور اجتنانه وطور طفوليته, ثم شبوبيته, ثم كهولته ثم شيخوخته, قال تعالى: "وقد خلقكم أطوارا" هذا باعتبار الذات الحسية, وأما اعتبار المعاني الباطنية فأول ما يدرك الإنسان الحس, فيحس بألم الجوع وأضراره والبرودة وغير ذلك من الأمور الضرورية, ثم التمييز بين أمه وغيرها, وبين القريب والبعيد, ثم الخيال, وهو أول منشأ الخوف والوهم, فيخاف من أمور يعتقد أنها تضر, ويحب أمورا يعتقد أنها تنفع.
ثم عقل التمييز بين الضار والنافع الحقيقي, والمراد بالعقل: نهايته, لأن هذه الأمور كلها أطوار للعقل, لكن لما كان ضعيفا جعل يتطور هكذا, وأول خلق العقل عند اجتنان الولد في بطن أمه, ثم لا يزال ينمو حتى يكمل, وهو نور خص به هذا الآدمي من دون الحيوانات شرفا له, وهو يتفاوت في النور بحسب القسمة الأزلية.
ثم بعد العقل: القلب, وهو محل الذكر.
ثم بعد القلب: الروح, وهي محل الفكر وهو التفكر, في عجائب المصنوعات.
هذا غاية ما أدركه العامة, وبقي مرتبة السر, وهي محل الشهود, والنظرة, وهو الذي حجب عن العوام, وهو الذي أشار إليه بقوله "هيهات" بل وراء ذلك طور وهو مقام السر, وهو خارج عن مدارك العقول, لا يناله إلا الأفراد الفحول, والى ذلك أشار بقوله:
ما ناله الجمهور والوراد ..... وإنما يناله الأفراد
قلت الوراد: جمع وارد, وهو الذي يقصد الماء للشرب, يعني أن هذا السر الذي هو وراء العقول والأفكار القصيرة ما ناله جمهور الناس, ولا كل من قصده وأراده, وإنما ناله الأفراد من الرجال, دلهم الحق تعالى أولا على أوليائه من أهل هذا السر, وأطلعهم على ما أودعهم من خصوصية اصطفائه, فأسلموا إليهم أنفسهم, وانقادوا إليهم بكليتهم, حتى قالوا لهم: ها أنتم وربكم, فهؤلاء هم الذين أطلعهم على مكنون سره, وأسرار غيبه, فإن باحوا بها أبيحت دماؤهم غيرة عليه من مولاهم, كما تقدم, وهو الذي أشار إليه الشيخ أبو مدين بقوله:
وفي السر أسرار دقاق لطيفة ..... تراق دمانا جهرة لو بها بحنا
ثم قسم العقل على ثلاثة مراتب على اصطلاح القدماء, فقال:
منفعلا يدعى ومستفاد ..... وعقل تخصيص لمن أراد
قلت: هذا اصطلاح القدماء, جعلوا العقول ثلاثة: عقلا يسمى منفعلا, وهو العقل الغريزي المجعول فيه من غير اكتساب, وعقلا يسمى مستفادا, وهو المكتسب بالمجاهدات والرياضات والتجريبات, ولذلك يقول العامة: كل محنة تزيد عقلا, وعقلا يسمى عقل التخصيص, وهو: الذي خص الله به أنبياءه ورسله, وقد ينتهي إلى بدايته العقل المستفاد بالرياضة, وهو عقل أكابر الأولياء, فنهاية كمال عقل الأولياء بداية عقل الأنبياء, ولذلك كانت نهاية الولي بداية النبي, كما أشار إلى ذلك بقوله:
وحيث فيه ينتهي الولي ..... فمن هناك يبتدي النبي
قلت: فنهاية الولي بداية النبي, ونهاية النبي بداية الرسول, ونهاية الرسول بداية نبينا "محمد" صلى الله عليه وسلم:
وكلهم من رسول الله ملتمس ..... غرفا من البحر أو رشفا من الديم
وواقفون لديه عند حدهم ..... من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
فأول قدم النبي: الجمع بين الحقيقة والشريعة, لأنه لا سير له, لأن السير في ميادين النفوس, وهم مطهرون منها, فقد خاضوا بحر التحقيق, ثم رجعوا إلى التشريع, وأما قول أبي يزيد: "خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله" فمراده أنه دخل البحر ولم يخرج إلى ساحل بر الشريعة, فهو إقرار منه بالتقصير, لأنه قال هذا في حال الجذب, والمجذوب ناقص حتى يصحو من سكره ويرجع إلى البقاء, بخلاف الأنبياء عليهم السلام, فقد عرفوا البحر وخاضوه, وخرجوا إلى البر ليسلكوا الناس.
وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه في تأويله: فمعنى وقفت الأنبياء بساحله من الجانب الآخر, على ساحل الفرق, يدعون الخلق إلى الخوض فيه, أي فلو كنت كاملا لوقفت حيث وقفوا.
قال في لطائف المنن: وهذا الذي فسر به الشيخ هو اللائق بمقام أبى يزيد, وقد قدمنا عنه أنه قال: جميع ما أخذ الأولياء كزق مملوء عسلا, ثم رشحت منه رشاحة, فما في باطن الزق للأنبياء, وتلك الرشاحة هو للأولياء, والمشهور عن أبى يزيد هو التعظيم لمراسم الشريعة والقيام بكمال الأدب, انتهى.
وأما قول من قال: إن دائرة الولي أوسع من دائرة النبي, فمراده بذلك أن الأنبياء عليهم السلام لشدة قربهم من الحضرة مشدد عليهم في الأدب والحضر والهيبة والتعظيم والإجلال, فأقل شيء يصدر منهم يعاتبون عليه, بخلاف الأولياء فدائرتهم أوسع من جهة طلب الأدب والحضور, فهم موسع عليهم من جهة الأدب, وكذلك دائرة الشهداء, وهم المجاهدون نفوسهم في طلب الحق, دائرتهم أوسع, وبعدهم دائرة الصالحين, وبعدهم العوام.
وهذه صورة الدوائر في الحس, فالنقطة هي الحضرة مثلا, والدائرة الأولى للنبيين, والثانية للصديقين, وهم الأولياء, والثالثة للشهداء, وهم السائرون والرابعة للصالحين, ومن ورائهم عموم المسلمين.
وكلما كثر القرب وقع التضييق في الطلب للقيام بحسن الأدب, وبقدر التضييق في الطلب يقع التوسع في العلوم, لأن المدد على قدر القرب.
وأعلم أن ترقي الأنبياء محجوب عن الأولياء, كما أن ترقي الأولياء محجوب عن العوام.
قال الغزالي رضي الله عنه: اعلم أن منازل السلوك لا غاية لها, ولا يعرف السالك منها إلا ما رقي عنه, ولا يعرف ما بين يديه إلا بطريق الإيمان بالغيب, كما أخبر الله به, فكما أن الأجنة لا تعرف أحوال الطفولية, والطفولية لا تعرف أحوال العقلاء, والعقلاء لا يعرفون أحوال القضايا الربانية "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها" والله تعالى أعلم.
ثم كمل الكلام على عقل التخصيص الذي اختص به الخواص, فقال:
وفيه تجلى جمل المعارف ..... فمن رآها قيل له عارف
قلت: الضمير لعقل التخصيص, أي وفي عقل التخصيص تظهر وتجلى جمل المعارف الربانية والعلوم اللدنية, لأنه ما سمي عقل التخصيص حتى تطهر من الأغيار وتهذب من الرعونات والأكدار, إما بالأصالة أو بالمجاهدة, فإذا تطهر من ألا غيار ملئ بالمعارف والأسرار, فالمعارف هي العلوم, والأسرار هي الأذواق, فمن رآها وذاقها يقال له: عارف, ومن لم يصل لهذا المقام وكان من أهل الدليل يقال له: عالم.
والفرق بين العالم والعارف: أن العالم دون ما يقول, والعارف فوق ما يقول.
العالم يصف الطريق بالنعت, والعارف يصفها بالعين, لأنه سار معها وعرفها, والعالم إنما نعتت له فقط.
العالم محجوب, والعارف محبوب.
العالم من أهل اليمين, والعارف من المقربين.
العالم من أهل البرهان, والعارف من أهل العيان.
العالم من أهل الفرق, والعارف من أهل الجمع.
العالم من أهل قوله تعالى "إياك نعبد" والعارف من أهل قوله تعالى "وإياك نستعين".
العالم يدل على العمل, والعارف يخرجك عن شهود العمل.
العالم يحملك حمل التكليف, والعارف يروحك بشهود التعريف.
العالم يدلك على محافظة الصلوات, والعارف يدلك على ذكر الله مع الأنفاس واللحظات.
العالم يدلك على الأسباب, والعارف يدلك على مسبب الأسباب.
العالم يدلك على شهود الوسائط, والعارف يدلك على محرك الوسائط.
العالم يحذرك من الوقوف مع الأغيار, والعارف يحذرك من الوقوف مع الأنوار فيزج بك في حضرة الجبار.
العالم يحذرك من الشرك الجلي, والعارف يخلصك من الشرك الخفي.
العالم يعرفك بأحكام الله, والعارف بذات الله.
العالم يدلك على العمل لله, والعارف يدلك على العمل بالله.
العالم يدلك على العمل خوفا وطمعا, والعارف يدلك على العمل محبة وشكرا.
والحاصل: أن من لم يسعده الله بملاقاة العارف, فلا شك أنه في نفسه تالف, ولله در صاحب بداية السلوك, حيث يقول:
إن لم تلاق عارفا في مدتك ..... لا عاش عمر عيشه كعيشتك
وحقيقة العارف هو: الذي فني عن نفسه وبقي بربه, وكمل غناه في قلبه لا يحجبه جمعه عن فرقه, ولا فرقه عن جمعه, يعطي كل ذي حق حقه, ويوفي كل ذي قسط قسطه, والله تعالى أعلم بغيبه.
وهذا المقام الكريم لا يناله إلا من له حظ عظيم, كما أبان ذلك بقوله:
فهذه ميادين الأبطال ..... ليست لكل جبان بطال
قلت: الميادين جمع ميدان بالفتح والكسر, وهو مجال الخيل, استعير هنا للخروج من ضيق الأشباح, إلى عالم الأرواح, وهو فضاء الشهود والتنزه في حضرة الملك المعبود, لأن فيه تتسع دائرة العلوم, وتجري نتائج الفهوم فيه تجول الأفكار في عظمة الواحد القهار.
والأبطال: جمع بطل, وهو الشجاع, والجبان هو: الخواف.
يقول رضي الله عنه: هذه العلوم والمعارف التي تتجلى في قلوب العارفين, وتجول في سعة رياضها أفكار المقربين, هي ميادين الأبطال, ومجاري أسرار الرجال, لا ينالها البطالون ولا يدخل في هيجائها الخوافون, بل ما نالها إلا أهل الحزم, وما طلب جهادها إلا ألو العزم. وفي ذلك يقول الجيلي رضي الله عنه:
وإياك جزعا لا يهولك أمرها ..... فما نالها إلا الشجاع المقارع
وقال آخر:
أيها العاشق معنى حسننا ..... مهرنا غال لمن يخطبنا
جسد مضنى وروح في العنا ..... وجفون لا تذوق الوسنا
وفؤاد ليس فيه غيرنا ..... فإذا ما شئت أد الثمنا
وفي التحقيق ما ثم إلا سابقة التوفيق, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم قرر ما تقدم, وهو أن دخول الميدان لا يصلح للجبان, فقال:
هل يصلح الميدان للجبان ..... أو يكمل الزرع بلا إبان
قلت: الإبان هو الوقت, يعني أن ميادين القتال لا يدخلها إلا أبطال الرجال, فالجبان لا يتركه الفزع أن يدخل الميدان.
قال شيخ شيخنا رضي الله عنه: ثلاثة أصناف من الناس لا ينالون من هذا الطريق شيئا: الخواف, والمستحي, والمتكبر, وإذا شجع نفسه ودخل في طريق الخصوص فلا يستعجل الفتح قبل أبانه, لئلا يعاقب بحرمانه, فمن غرس شجرا أو زرع فلا يطمع أن يثمر قبل وقته, كذلك شجرة المعرفة تنبت في قلب المريد حين ملاقاته إن كان يحرسها ويخدم عليها ويسقيها, طلعت متناهية في الخضورة والبهجة, وأطعمت سريعا, وإن فرط فيها أبطأت, وربما ماتت, وحرسها هو: العزلة وعدم خلطة العوام, وخدمتها هو: الذكر والفكر, وسقيها هو الجلوس بين يدي الأشياخ واستعمال الأحوال والواردات, ونهاية إطعامها هو الطمأنينة بالله والتمكين في المعرفة بالله, والغنى بالله عن كل شيء, فحينئذ يكون من الأبطال, ويصلح لدخول الميدان, فتربية الشيوخ إنما هي لهذه الشجرة التي هي شجرة المعرفة, فما دام صاحبها يفتقر إلى من يسقيها له, فلا بد من مدد الشيخ, فإذا أثمرت واشتدت عروقها استغنت عن ماء غيرها, وبالله التوفيق.
ثم تعجب من إنكار الناس ما لم يحيطوا به علما, فقال:
ما أنكر الناس لما لم يعرفوا ..... ما أهجر الولاف لما لم يألفوا؟
قلت: ما تعجبية مبتدأ بمعنى شيء, والجملة بعدها خبر, والولاف جمع والف, من ألف الشيء إذا أولع به, أي شيء عظيم صير الناس منكرين ما لم يعرفوا, وهاجرين ما لم يألفوا, تعجب رضي الله عنه من إسراع إنكار الناس على أهل هذه الطريق, مع أنهم لا معرفة لهم بها, ومن إسراعهم في هجران أهلها لتعاطيهم أمورا لم يألفوها, ولا غرابة في ذلك, إذ الإنكار على الخصوص سنة ماضية, فان ثلث القرآن كله في الإخبار عن تكذيب الصادقين, وكذلك إنكار ما لم يؤلف فإنه هو السبب في تكذيب الرسل, قالوا: "وما سمعنا بهذا في آباءنا الأولين", "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون", "قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا", فكل من أتى بخرق العوائد التي اعتادها أهل زمانه فلا بد من إنكار عليه: سنة ماضية, ولن تجد لسنة الله تبديلا.
قال في لطائف المنن: وأعلم أن الله تعالى ابتلى هذه الطائفة بالخلق, ليرفع بالصبر على من آذاهم مقدارهم, وليكمل بذلك أنوارهم, ولتحقيق الميراث فيهم ليؤذوا كما أوذي من قبلهم فيصبروا كما صبر من قبلهم, ولو كان كل من أتى بهدي أطبق الخلق على تصديقهم هو الكمال في حقهم, لكان الأولى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد صدقه قوم هداهم الله بفضله, وحرم من ذلك آخرون حجبهم الحق عن ذلك بعدله, فانقسم العباد في هذه الطائفة إلى معتقد ومنتقد, ومصدق ومكذب, وإنما يصدق بعلومهم وأسرارهم من أراد الحق سبحانه أن يلحقه بهم, والمعترف بتخصيص الله وعنايته فيهم قليل, لغلبة الجهل واستيلاء الغفلة على العباد, وكراهة الخلق أن يكون لأحد منهم شفوف في منزله واختصاص بمنة, ألم تسمع قوله تعالى "ولكن أكثر الناس لا يعلمون" ومن أين لعموم العباد أن يعلموا أسرار الحق في أوليائه, وشروق نوره في قلوب أصفيائه, انتهى المراد منه.
قلت: واحتجاب الأولياء عن العامة لطف كبير من الله بأوليائه, واعتناء عظيم منه بأسرار أحبائه, فإن إقبال الناس على الولي قبل التمكين فتنة كبيرة, وانظر ما قال الشيخ ابن مشيش: أسألك اعوجاج الخلق عليّ حتى لا يكون لي ملجأ إلا إليك, ولله در القائل:
استتار الرجال في كل أرض ..... تحت سوء الظنون قدر جليل
ما يضر الهلال في حندس الليل ..... سواء السحاب, وهو جميل
وفيه أيضا لطف كبير بعامة عباده, إذ لو أظهر سرهم لعامة الناس لكان كل من آذاهم حارب الله ورسوله, لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: يقول الله عز وجل من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب, فقد قيد الحديث بعد معرفتهم, فأخفاهم الله لطفا بخلقه.
وقد ضرب بعضهم مثلا لهذا, فقال: مثل إذاية العامة لأخفياء أولياء الله كمثل الأعمى إذا رمى بعكازته على رجل صاحب بصر فأوجعه, فانه يقوم إليه حتى إذا وجده أعمى كف عنه وعذره, ولم يبق في قلبه حرج عليه, وربما أخذ بيده ودله على الطريق.
وقد سأل رجل إبراهيم بن ادهم رضي الله عنه على العمران, فدله على المقبرة, فضربه حتى شجه, فلما قيل له هذا إبراهيم بن أدهم, فجعل الرجل يقبل يده ورجله, ويقول له: أعذرني فإني لا أعرفك, فقال له إبراهيم: والله ما رفعت يديك من ضربي إلا وأنا أسأل لك المغفرة.
ثم دعاهم إلى كتاب الله ليحكم بينهم, فقال:
أليس قد جبلت العقول ..... على الذي جاء به التنزيل
قلت: جبل على الشيء: طبع عليه وألفه, ولا شك أن العقول مجبولة على تصديق ما جاء في القرآن, وهو قد جاء بالحقيقة والشريعة, وإلا أن التشريع فيه كثير, وذكر الحقيقة قليل, لأن أهلها قليلون, وإذا تأملت في القرآن وجدته يشرع, ثم يحقق, يقول سبحانه وتعالى افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا, حتى يظن الجاهل أن الأمر بيد الخلق, ثم يقول: "ولو شاء ربك ما فعلوه", "ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد", "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة, ولا يزالون مختلفين", "وما تشاءون إلا أن يشاء الله".
فقوم وقفوا مع ظاهر الشريعة, فحجبوا عن الحقيقة, وهم أهل الحجاب, وقوم نفذوا إلى شهود الحقيقة وأنكروا الحكمة, وهم أهل الجذب, وقوم جمعوا بينهما, وهم أهل الكمال.
فعلم الحقيقة هو علم الباطن, وهو علم العالم الروحاني, وعلم عالم المعاني الذي ينكره المنكر, وليس ثم شيء غير هذا.
فثبت أن القرآن ورد بما أنكروا, فقامت الحجة, وتبينت المحجة, وبالله التوفيق.
ثم ضرب مثلا للحقيقة والشريعة في الحس, فقال:
هل ظاهر الشرع مع الحقيقة ..... إلا كأصل الفرع في الحديقة
قلت: الشريعة عمل الجوارح, والحقيقة معرفة البواطن, فالشريعة أن تعبده, والحقيقة أن تشهده, فالشريعة من وظائف البشرية, والحقيقة من وظائف الروحانية, والشريعة قوت البشرية, والحقيقة قوت الروحانية, وما نقص من أحدهما يزاد في الآخر, فأفهم, وما مثل الشريعة الظاهرة مع الحقيقة الباطنية, وإلا كأصل شجرة في بستان, وهو الحديقة فأصل الشجرة المغروزة في الأرض مثل الحقيقة, والفرع الظاهر على وجه الأرض, مثل الشريعة, فلا قيام للشريعة إلا بالحقيقة الباطنة, ولا ظهور للحقيقة إلا بالشريعة, فمن نظر إلى الباطن ووحد الله وجد كل شيء قائما بالله, ولا فاعل سواه, ومن نظر إلى ظاهر العبد وجد له اختيارا في الجملة, يقوم إذا شاء ويجلس إذا شاء, ويفعل ويترك باختياره في الظاهر, وعلى هذا وقع التكليف, وهو الشريعة, ويسمى الكسب عند المتكلمين.
فالتحقيق أن العبد مجبور, لكن في قالب الاختيار, فمن نظر للجبر الباطني سماه حقيقة, ومن نظر لقالب الاختيار سماه شريعة.
أو تقول: من نظر لعالم القدرة وجد الحقيقة محضة, ومن نظر لعالم الحكمة وجد الشريعة محضة, فالواجب على الإنسان أن تكون له عينان: إحداهما تنظر لعالم القدرة فيوحد الله, والأخرى تنظر لعالم الحكمة فيتأدب مع الله, وليس اسمه القادر بأولى من اسمه الحكيم, فمن أهمل إحداهما سقط من عين الله, فمن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق لإبطاله الحكمة, ومن تشرع ولم يتحقق فقد تفسق لقصور نظره عن شهود القدرة, فلا يخلو من شرك خفي, وإنما لم يكفر, لأنه يقر بوجود القدرة, لكنه لم يعمل بما علم, فهو عالم غير عامل, والله تعالى أعلم.
تنبيه: قد يبلغ الولي إلى مقام في الوصول يقال له "أفعل ما شئت فقد غفرت لك".
ومعنى ذلك: أن الله تعالى يتولاه ويأخذه عن نفسه, ويغطي وصفه بوصفه, ونعته بنعته, فيكون محفوظا من شهود نفسه, فيكون فعله كله بالله.
وفي القوت في "كتاب المحبة" - إذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب -.
وفي البخاري: "وما يدريك لعلّ الله اطلع على أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وفي كتاب "القصد" للشاذلي: يبلغ الولي مبلغا يقال له اصحبناك السلامة, وأسقطنا عنك الملامة, افعل ما شئت.
وليس هذا قولا بإسقاط التكليف, فما دامت البشرية موجودة فلا بد من التكليف, فإذا انهدمت البشرية, وتخلصت الروحانية إلى مولاها, سقط حينئذ التكليف, فافهم.
قال في نوادر الأصول "من حظه من أهل التقريب الجلال والجمال, وقد أقيم في الهيبة والأنس, قد غاب عن العقوبة, ولكنه يخاف التحويل والهوى والسقوط لما ركب في نفوس بني آدم من الشهوات فهي أبدا تهوي بصاحبها إلى الإخلاد والبطء, وإنما يسكن خوف التحويل إذا خلص إلى الفردانية, وتحقق بالوحدانية, لتلاشي الهوى منه والشهوة بكشف الغطا ولا يذهب خوف ذلك وإن سكن, لبقاء خيال ذلك في حق غير الأنبياء, أما الأنبياء فلم يبق لهم ظل الهوى فبشروا بالنجاة, فلم تضربهم البشرية لأنهم لم يبق لهم نفوسهم فتستد وتحرر إذا أمنت السقوط, ومن بعدهم بقي لهم في نفوسهم شيء, فمنعوا البشرى وأبهم عليهم الأمر صنعا لهم, لتكون نفوسهم منقمعة بخوف الزوال, هذا هو الأصل فافهمه, هذا بعد أن قرر أن الشوق وخوف القلق من حبه لا يذهب على المجذوب المحدث, وإن كان بينه وبين مولاه من الأسرار ما يسكن عنه خوف التحويل, وإنما يتوهم ذلك من وقف في الجلال والجمال, فسكن شوقه بلذة ما نال من القربى, فأنظره.
ثم ضرب مثلا آخر, فقال:
والشرع جار وصحيح العقل ..... كحذوك النعل معا بالنعل
قلت: حاصل كلامه أن ظاهر الشريعة وباطن الحقيقة كتطبيق النعل على النعل بحيث لا يفوت أحدهما على الآخر, كذلك الحقيقة الباطنية مع الشريعة الظاهرة, متلازمتان, لا تفوت إحداهما الأخرى, فما ظهر على العبد من عمل الشريعة, فإنما هو من مدد الحقيقة قال تعالى: "وربك يخلق ما يشاء ويختار, ما كان لهم الخيرة". وقال تعالى: "وما تشاءون إلا أن يشاء الله".
أو تقول: ما ظهر على العبد من عمل الحكمة, فإنما هو من فعل القدرة, فالقدرة باطنة والحكمة ظاهرة.
وسأذكر لك شيئا من بحر القدرة وشيئا من بحر الحكمة, ليظهر لك الفرق بينهما مع اتحادهما محلا, فنقول وبالله التوفيق.
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
الفصل الرابع في الرد على من رد التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
بحر القدرة بحر زاخر وأمره قاهر, ليس له أول ولا آخر, يظهر ويبطن, ويحرك ويسكن, ويقبض ويدفع, ويعطي ويمنع, ويخفض ويرفع, بيده مقادير الأمور, وعلى قطب دائرة الأفلاك تدور, وتطير إليه قلوب المشتاقين, وتعوم في طرق لجته أرواح السائرين, وتخوض في وسط لججه أسرار الواصلين, ولا تعرف كنه عظمته قلوب العارفين, غاية منتهاها الدهش والحيرة, ثم العكوف في الحضرة.وأما بحر الحكمة فهو أيضا بحر زاخر, وأمره ظاهر, يظهر الأسباب ويسدل الحجاب, يربط الأحكام بالعلل, ويقرر الشرائع والملل, يغطي ما يبرز من عنصر القدرة بردائه, ويستمر ما يبدو من أسرار الربوبية بعز كبريائه, ينور الطريقة, ويصون الحقيقة يظهر العبودية, ويبطن الحرية, ومن وقف معه كان محجوبا, ومن نفذ منه إلى بحر القدرة كان واصلا مجذوبا, ومن نظر إليهما معا كان كاملا محبوبا, وبالعناية مصحوبا.
واعلم أن القدرة والحكمة: كل واحدة تنادي على صاحبتها بلسان حالها, أما القدرة فتقول للحكمة: أنت تحت قهري ومشيئتي, لا تفعلي إلا ما نشاء, ولا يصدر منك إلا ما أريد, فان أردت خلافي رددتك, وإن سبقتيني أدركتك.
وتقول الحكمة للقدرة: أنت تحت حكمتي وعند أمري ونهي, فإن عصيتني أدبتك, وربما قتلتك, ثم إن اتفق فعلهما كان ذلك الفعل طاعة وحقيقة نورانية, وإن اختلف فعلهما, بان أظهرت القدرة خلاف ما تريد الحكمة, كان معصية, وهي حقيقة ظلمانية, فتبين أن الحقيقة لا تفارق الشريعة, إذ لا قيام لها إلا بها, والشريعة لا تخرج عن الحقيقة لأنها ستر لها ورداء يصونها.
فان قلت: ظهور المعاصي والذنوب حقيقة بلا شريعة, فأين التلازم الذي ذكرت؟
قلت: النهي عن فعلها وتسميتها معاصي هو من جهة الشريعة, فلولا الشريعة, ما سميت معاصي, وانظر ما قاله صاحب العينية:
فإن كنت في حكم الشريعة عاصيا ..... فإني في حكم الحقيقة طائع
فلولا الشريعة لم تتميز الطاعة من المعصية, فالشريعة صادقة بالواجبات والمباحات والمحرمات, فمهما صدر شيء من هذه الثلاثة فهو شريعة, فثبت التلازم, وهو معنى قول الناظم "والشرع جار" و "صحيح العقل" الخ وهو على حذف المضاف, أي: ومدرك صحيح العقل, والمراد بالعقل: عقل التخصيص المتقدم, الذي اختص به الأنبياء, وينتهي إليه عقل الأولياء, لأنه هو الذي يدرك علم التحقيق, لا مطلق العقل كما تقدم, ويحتمل أن يريد الناظم: أن ما أتى به الشرع كله موافق لإدراك العقول, كما قال البوصيري رضي الله عنه:
لم يمتحنا بم تعيا العقول به ..... حرصا علينا, فلم نرتب ولم نهم
فمسائل الشريعة كلها موافقة لما يقتضيه العقل, فما حرم الله تعالى شيئا إلا لحكمة, وهي ما فيها من البعيد عن الله, وما أوجب شيئا إلا لحكمة, وهي كونه يقرب إلى الله, ومسائل الفقه كلها لحكمة, فمنها ما أدركه الناس, ومنها ما لم يدركوه, ويقولوه فيه: إنه تعبدي, لكن هذا الاحتمال وإن كان ظاهر الناظم ليس فيه رد المنكر لإثبات علم الحقيقة, لأن هذا الأمر يثبته الظاهر ويقررونه, وسياق الكلام إنما هو في الرد على أهل الحقائق فتأمله, والله أعلم.
ثم ضرب أيضا مثلا للشريعة الظاهرة مع الحقيقة الباطنة باليواقيت التي تكون في البحر, فقال:
ما مثل المعقول والمنقول ..... إلا كدر زاخر مجهول
حتى إذا أخرجه الغواص ..... لم يكن للدر إذن خلاص
وإنما خلاصه في الكشف ..... عن الغطاء حيث لا يستخف
فالصدف الظاهر ثم الدر ..... معقوله والجهل ذاك البحر
قلت: المراد بالمعقول هنا هو علوم الحقائق العرفانية والأسرار الربانية, وتسميتها معقولا مجاز, ولكنه قد قدم أن عقل التخصيص الذي هو للخواص يدرك علم الحقيقة, فيسمى حينئذ ما أدركه معقولا بهذه النسبة, وحاصل هذا المثال أن الروحانية التي هي محل علوم الحقائق مثلها كالدرة, وهي الياقوتة الكبيرة, والبشرية التي هي محل العلوم النقلية كالصدف لتلك الياقوتة, والجهل الذي عم الناس وأحاط بهم كالبحر, فمن دوخه بحر الجهالة لم يلتفت إلى در ولا صدف, بل غرق في بحر الجهالة وأتلف, ومن أيقظه الله من دوخته, ونبهه من غفلته, غاص بفكره يمينا وشمالا فاستخرج ياقوتة سوداء مستورة في صدفها, لا يظهر منها إلا الصدف وهي نفسه, فإذا قنع بالاغتناء بظاهرها ولم يذهب إلى من يخلصها ويكشف له عن باطنها, بقي فقيرا على الدوام, وان أراد أن يخلصها بنفسه بقي متعوبا معها على الدوام, وربما أفسدها, كذلك إن ذهب بها إلى غير عارف ماهر بتصقيل اليواقيت أفسدها له أيضا, وإن ذهب بها إلى عارف ماهر غواص في البحر بتصقيل اليواقيت كشف له عنها في أقرب ساعة, فصار غنيا موسعا عليه ينفق منها كيف يشاء, قال تعالى: "لينفق ذو سعة من سعته".
قال في الحكم في تفسيرها "لينفق ذو سعة من سعته" الواصلون إليه "ومن قدر عليه رزقه" السائرون.
هذا حاصل كلام الناظم مع ما في حمله عليه من التعسف, لكن بهذا الحمل يجري على نسق ما قبله, ويمكن حمله على ظاهره, فتكون الألفاظ كالصدف, والمعاني كالدر, والجهل بذلك كالبحر, لكن هذا الأمر لا نزاع فيه بين أهل الظاهر وأهل الباطن, والكلام إنما هو في المعاني التي هي ضد المحسوسات وهو الذي شرحنا به.
فقوله: "ما مثل المعقول والمنقول" وهو على حذف مضاف: أي محل المعقول ومحل المنقول.
وقوله: "إلا كدر زاخر" يقرأ بالإضافة لزاخر على حذف مضاف, أي كدر بحر زاخر وقوله "مجهول": نعت لدر, لا لزاخر, وقوله: لم يكن للدر الخ، معناه أن الدر حين يخرجه الغواص لم يكن مستخلصا من صدفه, وإنما خلاصه بالكشف عنه من عارف به كما تقدم, بحيث يصير ظاهرا لا يستخفي, وباقي الكلام ظاهر.
ثم قال رحمه الله:
وإنما المعقول في شكل الحروف ..... كما يكون الدر في جوف الصدوف
قلت: هذا البيت من تتمة ما قبله, والمراد بالحروف رسوم البشرية الظاهرة, وقد تقدم أن اصطلاح الصوفية يطلقون الحروف والرسوم والأشكال على صور الأكوان الحسية, والمعنى: وإنما المعقول الذي هو المعاني اللطيفة في شكل الرسوم الحسية كالدر في الصدف.
أو تقول: وإنما المعاني في رسوم الأواني كاليواقيت في أصدافها, فالأواني, أصداف, والمعاني يواقيت, فمن وقف مع الحروف والأشكال, وقنع بتحسين خطوطها وتزين أشكالها, فاته الاطلاع على جواهر العلوم ويواقيت الفهوم, وبقي جاهلا مضيقا عليه في أرزاق العلوم, ومقترا عليه في نتائج الفهوم, ومن نفذ إلى ما في باطنها في الدرر والجواهر الحسان كان من الأغنياء: أهل الشكر والإحسان.
ويحتمل أن يريد الحروف معناه الأصلي, وهي الألفاظ الدالة على المعاني, والمراد بالمعقول علم الباطن, فإنه موجود في القرآن, لكنه باطني خارج عن ظاهر ما تؤديه الحروف.
قال سيدنا علي كرم الله وجهه: "إن للقرآن ظاهرا وباطنا, وحدا ومطلعا" قالوا: فالظاهر للنحاة والقراء, والباطن للمفسرين وأصحاب المعاني, والحد للفقهاء والعلماء, والمطلع لأرباب الكشف والتحقيق".
والمطلع بفتح اللام هو محل الاطلاع, كأن القرآن مشكاة يطلع منها على أسرار غيبه تعالى, وبالله التوفيق.
ثم ضرب مثلا آخر للعلم الظاهر والباطن, فقال:
هل ظاهر الشرع وعلم الباطن ..... إلا كجسم فيه روح ساكن
قلت: ظاهر الشرع هو العلم الظاهر, وهو العلم المنقول, والعلم الباطن هو العلم الموهوب.
أو تقول: العلم الظاهر هو علم الحكمة, والعلم الباطن هو علم القدرة.
أو تقول: العلم الظاهر هو علم البشرية, والعلم الباطن هو علم الروحانية.
أو تقول: العلم الظاهر هو علم العبودية, والعلم الباطن هو علم الربوبية, فالأول: علم الأوراق, والثاني: علم الأذواق, وعلم الربوبية هو: علم الفناء والبقاء والسكر والصحو والجمع وجمع الجمع, وغير ذلك, وهذا العلم لا يؤدى بالعبارة, وإنما يرمز إليه بالإشارة, لأنه ذوقي لا علمي.
فان قلت: علم البواطن متعلق بالقلوب, وهي باطنية, فكيف لا يكون من علم الباطن؟
قلنا: لما كان يؤدى بالعبارة, والعبارة تظهره وتوضحه, صار من قبيل علم الظاهر, وهو تصوف أهل الظاهر, وأما تصوف أهل الباطن فلا يدرك بالعبارة, وقد تقدم قول الشيخ:
إياك أن تطمع أن تحوزه ..... من دفتر أو شعر أو أرجوزة
وهذا هو علم الباطن عند المحققين.
وقال الشيخ عبد الوارث: العلوم ثلاثة: ظاهر, وباطن, وباطن الباطن, كما أن الإنسان له ظاهر وباطن, وباطن الباطن.
فجعل علم الشريعة ظاهرا, وعلم الطريقة باطنا, وعلم الحقيقة باطن الباطن, وهو حسن, إلا أن الجمهور حصروا العلم في القسمين والأمر قريب.
فمثال: العلم الظاهر مع العلم الباطن, كجسم فيه روح كامن, فالجسد لا يقوم بغير روح, والروح لا تظهر من غير جسد, وإذا خلى الجسد من الروح كان ميتا, ولا عبرة به, ولذلك كان من تشرع ولم يتصوف فقد تفسق, لأن أعماله أشباح بلا أرواح, وإذا خلت الروح من الجسد بطنت ولم يظهر لها وجود, ولذلك كان من تحق ولم يتشرع بطنت ولم يظهر لها وجود, ولذلك كان من تحقق ولم يتشرع فقد تزندق لأنه تصير حقيقته عريانة بلا كسوة, فيقتل عليها, فان كان محقا وغلبه السكر كان شهيدا وان كان مدعيا كان بعيدا, ومن الحضرة طريدا, والله يعصمنا من الزلل ويوفقنا لصالح القول والعمل, بجاه الحبيب مولانا محمد صلى الله عليه وسلم وعظم وبجل.
ثم ذكر أصل النزاع الذي بين أهل الظاهر والباطن, فقال:
لو عمل الناس على الإنصاف ..... لم تر بين الناس من خلاف
قلت: الإنصاف هو: الرجوع لقول الغير بعد وضوح دليله, أو الإقرار بالحق بلا مكابرة, فلو اتفق الناس على الإنصاف, واقروا بالحق أينما ظهر من غير مراء ولا جدال, لم يبق خلاف بين الناس, إذ الطريق واضح, والحق لائح, والداعي قد أسمع, ما التحير بعد هذا إلا من العمى كما قال البلخي, لكن طباع النفوس لا ترضى بحط الرؤوس, ومن كان رئيسا لا يرضى أن يصير مرؤوسا, وهذا سبب الخلاف والاختلاف بين الأمم: فريق في الجنة وفريق في السعير, واتفاق الناس كلهم على الحق خلاف الحكمة قال تعالى: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين, إلا من رحم ربك, ولذلك خلقهم". قيل: للاختلاف وقيل: للرحمة, فالله يرحمنا وأحباءنا برحمته الخاصة والعامة آمين.
ثم إن الحق غريب وأهله غرباء في كل زمان, قال عليه الصلاة والسلام "طوبى للغرباء".
والى هذه أشار بقوله:
واعلم رعاك الله من صديق ..... أن الورى حادوا عن التحقيق
إذ جهلوا النفس والقلوبا ..... وطلبوا ما لم يكن مطلوبا
واشتغلوا بعالم الأبدان ..... فالكل ناء منهم ودان
وأنكروا ما جهلوا وزعموا ..... أن ليس بعد الجسم شيء يفهم
قلت: ذكر رحمه الله أن الخلق حادوا, أي أعرضوا عن طريق التحقيق التي هي علم الحقيقة في عين الشريعة, أو علم الربوبية, في عين العبودية, وذلك أن سبب إعراضهم عن ذلك أربعة أمور:
الأول:جهلهم بحال نفوسهم وقلوبهم, فلم يدروا هل هي مريضة أو صحيحة, وهل هي باقية على أصلها أو تغيرت, ومن شعر بشيء أنكر وجود الطبيب, ومن يردها إلى أصلها يبقى مريضا على الدوام والتحق بمرتبة العوام.
الثاني: انطماس بصيرتهم حتى اشتغلوا بطلب ما لم يطلب منهم, وفرطوا فيما طلب منهم فاشتغلوا بطلب الرزق المقسوم والحرص على الدنيا وجمعها واحتكارها, وتركوا ما طلب منهم من حقوق مولاهم والتفكر فيما أولاهم, فحادوا عن الطريق, وأنكروا معالم التحقيق.
وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما بال أقوام يشرّفون المترفين ويستخفون بالعابدين, ويعملون بالقرآن الكريم ما وافق أهواءهم, وما خالف أهواءهم تركوه فعند ذلك يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض, يسعون فيما يدرك بغير سعي من القدر والمقدور والأجل المكتوب والرزق المقسوم, ولا يسعون فيما لا يدرك إلا بالسعي من الجزاء, الموفور والسعي المشكور, والتجارة التي لا تبور".
قال إبراهيم الخواص: العلم كله في كلمتين "لا تتكلف ما كفيت, ولا تضيع ما استكفيت".
الثالث اشتغالهم بعالم الأشباح دون التعريج إلى عالم الأرواح, فاشتغلوا بخدمة الحس, وعلم الحس وعمل الحس, وغفلوا عن علم القلوب وعمله, وأنكروا ما يدل عليه, فصارت خدمتهم حسية وعلومهم حسية رسمية, وأعمالهم بدنية حرفية, والحق من وراء ذلك كله, وهذا كله بعد عن الوصول إلى التحقيق إلا بسابقة التوفيق, فكل من اشتغل بخدمة الحس فهو بعيد في حال قربه, منقطع في حال وصوله, وهذا معنى قوله: "فالكل ناء منهم ودان" أي فالكل منهم ناء أي بعيد, وهو دان أي قريب.
وفي مناجاة الحكم: "الهي ما أقربك مني, وما أبعدني عنك" الخ.
الرابع: إنكارهم لهذا المقام الذي جهلوا وهو علم التحقيق, الذي هو الزوال, ويسمى العالم الروحاني, وزعموا أنه ليس شيء زائد على الأجسام الحسية, وهم معذورون في الإنكار, إذ لا يعرف البلد إلا من وصلها:
لا يعرف الشوق إلا من كابده ..... ولا الصبابة إلا من يعانيها
وبالله التوفيق, وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم هؤلاء الجهال لم يقنعوا بالإنكار حتى كفروا من قال بشيء من ذلك, كما قال:
وكفّروا وزندقوا وبدّعوا ..... إذا دعاهم اللبيب الأورع
قلت: هذا هو الحرمان, وعلامة الخذلان, إذا دعاهم أحد إلى التحقيق قالوا: إنه زنديق, وإذا خرق عوائد نفسه في دواء قلبه قالوا: انه صاحب بدعة, وهذا كله حجاب وستر لأوليائه, فإذا سمع المريد شيئا من ذلك فليطلب نفسا, فتلك عناية به نعم ينبغي أن يجزم نفسه في ستر السر الذي عنده, فإذا أفشى شيئا من ذلك فسيف الحلاج فوق رأسه, ثم المنكر على الصوفية في أقوالهم وأحوالهم إن كان ذلك من عدم فهمه فقد يعذر بجهله, لضعف مدركه وضيق عطنه كما قال الحضرمي رضي الله عنه في كتابه "صدر المراتب ونيل المراغب" ونصه بعد كلام: والجاحد لمن يوحي إليه بشيء من هذا الكلام وما يفهمه فهو معذور مسلم له حاله من باب الضعف والتقصير, وهو مؤمن إيمان الخائفين, ومن يفهم شيئا من ذلك فهو لقوة إيمان واتساع دائرة, ومشهده مشهد واسع, سواء كان مورد نور أو ظلمة بحسب ما في القوابل من الودائع الموضوعة على أي صفة كانت. انتهى.
وإن كان تعصبا وتزكية لنفسه, وإرادة الترفع على غيره فهو هالك مبثور, وعلامة الأول الوقوف على حد ما يقع به التعبير من غير زيادة ولا تشنيع, وعلامة الثاني التشنيع واتساع الدعوى والهروب من مواطن التحقيق, ومن رزقه الله التسليم فهو أولى.
وقد سئل النووي رحمه الله عن ابن العربي الحاتمي فقال: الكلام كلام صوفي و "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت" الآية. وكذلك قال ابن أبي زرعة في شأنه أيضا, وابن الفارض, وذكر فيه كلام الناس من المنكرين وغيرهم, وقال: إن يعترض على الكلام وينكره القائل لاحتمال توبته.
قلت: وإنكار أهل الظاهر على أهل الباطن لعدم فهم مقصودهم, ولعدم الوصول إلى مقامهم, ولذلك كان التسليم أولى, بل هو نصف الولاية, والله أعلم.
ثم ذكر سبب إعراضهم عمن دعاهم إلى الله فقال:
كل يرى أن ليس فوق فهمه ..... فهم ولا علم وراء علمه
محتجبا عن رؤية المراتب ..... عل يسمى عالما وطالب
قلت: هذه سنة الله في خلقه, قال تعالى: "كل حزب بما لديهم فرحون" كل من كان في مقام يرى أنه لا مقام فوق مقامه, فإن شوّق إلى ما وراء ذلك أنكره, وحكمة ذلك تمام الحكمة الكلمة التي سبقت له في الأزل, فإن كان ممن سبق له شيء من هذه الخصوصية إذا شوقته تشوق وطلب فيوصله الله إلى ما سبق له, بخلاف ما إذا لم يسبق له شيء من ذلك, إذا ذكرت له مراتب الرجال أنف وقال: "كان ذلك فيما مضى" خوفا أن يسقط له جاهه ومرتبته من عين الناس, فباء بالخيبة والإفلاس, واحتجب عن مراتب الكمال, وتخلف عن مقامات الرجال, والعياذ بالله من مثل ذلك, ودعواه أن لا فهم فوق فهمه, ولا علم فوق علمه, جهل عظيم, فإن فوق كل ذي علم عليم, ومنتهى العلم إلى الله العظيم, كما أخبر تعالى في كتابه الحكيم وقال تعالى: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" واتساع دائرة العلوم, وفتح مخازن الفهوم إنما هي منح إلهية, ومواهب اختصاصية, لا تنال بكسب ولا احتيال, وإنما تنال بفضل الكبير المتعال مع حكمة صحبة الرجال, والله يختص برحمته من يشاء, والله ذو الفضل العظيم.
وقوله "عل" الخ لغة في "لعل" أي إنما أنكر لعله يسمى عالما وطالبا للعلم, وهذه علامة الرياء أعاذنا الله منها بمنه وكرمه, ثم استبعد الناظم أن يصدر مثل هذا ممن له عقل كامل, فقال:
هيهات هذا كله تقصير ..... يأنفه الحاذق والنحرير
قلت: النحرير هو: الذي يحقق الأمور ويحررها, يعني أن القناعة بعز الناس ومدحهم مع فوات الحظ من الله بمعرفته الحقيقية لا يرضاها من كان صادقا نحريرا, بل لا يرضاها الجاهل فضلا عن العالم.
قال في الحكم "استشرافك أن يعلم الناس بخصوصيتك, دليل على عدم صدقك في عبوديتك".
ثم حرض على النهوض إلى الله تعالى, فقال:
فمن يرد موارد المواهب ..... فكيف يرضى هذه الغياهب
فالعلم ما يلفي إليه حد ..... بل ظاهر يخفي, وخاف يبدو
والعلم لو كانت له نهاية ..... يوقف عند حدها أو غاية
من كان أذكى مرسل وأسمى ..... قيل له: قل رب زدني علما
فعش بما لديك ما حييت ..... وجنب التعنيف والتعنيت
والكل قد يعجبه الكلام ..... فالزم هدي نفسك والسلام
قلت: حاصل كلامه أن من أراد أن ينهل من موارد المواهب والأسرار, وتشرق عليه شموس الأنوار, فلا يرضى لنفسه الإنكار على أولياء الله, فيحارب بذلك مولاه, ولا يحصر العلم فيما عنده, وينكر أن يكون فوق علمه علم, أو فوق حاله حال, أو فوق مقامه مقام, فلا يرضى بهذه المذاهب السخيفة إلا ذووا الهمم الضعيفة, فالعلم لا يوجد إليه حد ينتهي إليه, بل هو كالشموس والأقمار والنجوم, لا يزال غاربا وطالعا ومتوسطا ما دام الدهر, فعلوم العارفين كالشموس, وعلوم السائرين كالأقمار, وعلوم عامة أهل اليمين كالنجوم, وهي في الجميع, تارة تظهر وتشرق بقوة الواردات, وتارة تخفى بضعف الواردات, ولا حد للعلوم والمعارف والأسرار, فلو كان لها حد تنتهي إليه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى له: "وقل رب زدني علما".
وهو سيد العارفين, فدل على أن العلم لا نهاية له, قال تعالى: "وفوق كل ذي علم عليم", وأعلم أن جميع العلوم الرسمية كلها يبقى معها الافتقار إلى غيرها, أو إلى الزيادة منها, إلا علم الشهود إذا تحقق واطمأن العبد بالله, فإنه يحصل له الغنى الأكبر, ولا يلتفت إلى علم آخر أبدا, كمن عنده الفلوس أو الدراهم أو الذهب, ثم وجد الإكسير, فلا شك أن يزهد فيما كان عنده, ولا يلتفت إليه, كذلك العارف لم تبق له حاجة إلى شيء إلا إلى مولاه.
قال سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه: كنت أعرف أربعة عشر علما, فلما أدركت الحقيقة سرطت ذلك كله, ولم يبق لي إلا التفسير والحديث والمنطق. فإذا حصل لك أيها المريد علم المعرفة, فعش بما لديك منها ما حييت, فهذه هي الحياة الطيبة التي لا يعقبها موت أبدا, وجنب التعنيف والتعنيت, فالتعنيف التغليظ في الكلام, والتعنيت المنازعة والمغالبة, لأن هذه الحال من شأن الجهال, فلا تبدي ما يفتح به عليك, ولا تنكر ما لا ينتهي إليه علمك, ولا تنازع من نازعك, فللحقيقة رب يحميها, وللطريقة نفس تصطفيها والنزاع لا يجلب إلا الشر في الدنيا والنقص في الدين, وكلام القوم يعجب كل سامع إليه, فلا يغرنّك من الناس استحسانهم له, حتى تطالبهم بحقائقه وتطمع في سلوكهم عليه, فإن ذلك يتعبك ويفتح لك باب الدعوى والرعونة والشهوة, فالزم إصلاح نفسك وهداها, ولا تلتفت إلى ما سواها, قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم". الآية.
وقال الفضيل رضي الله عنه: هذا زمان أحفظ فيه لسانك, وأخف مكانك, وخذ ما تعرف, ودع ما تنكر, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت شحا مطاعا, وهوى متبعا, وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك".
رزقنا الله العمل به إلى الممات في عافية دائمة وستر جميل, آمين.
هذا آخر الفصل الرابع بحول الله وقوته.
* * *
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
مواضيع مماثلة
» الفصل الأول في أصل التصوف الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
» الفصل الثاني شرف علم التصوف وفضيلته الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
» الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (1) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
» الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (3) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
» الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (4) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
» الفصل الثاني شرف علم التصوف وفضيلته الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
» الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (1) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
» الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (3) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
» الفصل الثالث في أحكام التصوف وهي تسعة (4) الفتوحات الإلهية فى شرح قصيدة المباحث الأصلية للشيخ ابن البنا السرقسطى شرح الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت 2 مارس 2024 - 1:11 من طرف عبدالله المسافربالله
» فإن الكلام الحق ذلك فاعتمد عليه ولا تهمله وافزع إلى البدء من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأربعاء 28 فبراير 2024 - 23:12 من طرف عبدالله المسافربالله
» وما تجليت إلا لي فأدركني عيني وأسمعت سمعي كل وسواس من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأربعاء 28 فبراير 2024 - 0:49 من طرف عبدالله المسافربالله
» رسالة التلقينات الأربعة من مخطوط نادر من رسائل الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي
الأربعاء 28 فبراير 2024 - 0:25 من طرف عبدالله المسافربالله
» عقيدة الشيخ الأكبر محي الدين محمد ابن علي ابن محمد ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي
الأحد 25 فبراير 2024 - 22:43 من طرف عبدالله المسافربالله
» رسالة حرف الكلمات وصرف الصلوات من مخطوط نادر من رسائل الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي
الأحد 25 فبراير 2024 - 22:30 من طرف عبدالله المسافربالله
» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الرعد وابراهيم والحجر كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:42 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من سورة الفاتحة كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:40 من طرف عبدالله المسافربالله
» مقدمة المصنف لكتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:40 من طرف عبدالله المسافربالله
» مقدمة المحقق لكتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:39 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الرحمن والواقعة والملك كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:39 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة النبأ والنازعات والبروج كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:38 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة العصر والهمزة والفيل كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:37 من طرف عبدالله المسافربالله
» فهرس موضوعات كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:30 من طرف عبدالله المسافربالله
» وهب نسيم القرب من جانب الحمى فأهدى لنا من نشر عنبره عرفا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:22 من طرف عبدالله المسافربالله
» فلم نخل عن مجلى يكون له بنا ولم يخل سر يرتقى نحوه منا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الجمعة 23 فبراير 2024 - 23:17 من طرف عبدالله المسافربالله
» ما في الوجود شيء سدى فيهمل بل كله اعتبار إن كنت تعقل من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأربعاء 21 فبراير 2024 - 1:51 من طرف عبدالله المسافربالله
» إن كنت عبدا مذنبا كان الإله محسنا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الثلاثاء 20 فبراير 2024 - 1:25 من طرف عبدالله المسافربالله
» إن المهيمن وصى الجار بالجار والكل جار لرب الناس والدار من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الثلاثاء 20 فبراير 2024 - 1:08 من طرف عبدالله المسافربالله
» ويقول العقل فيه كما قاله مدبر الزمنا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأحد 18 فبراير 2024 - 4:09 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الدخان والجاثية والفتح كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 18 فبراير 2024 - 2:59 من طرف عبدالله المسافربالله
» فهرس المواضع كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الجمعة 16 فبراير 2024 - 20:25 من طرف عبدالله المسافربالله
» فعاينت آحادا ولم أر كثرة وقد قلت فيما قلته الحق والصدقا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الجمعة 16 فبراير 2024 - 20:15 من طرف عبدالله المسافربالله
» وصل يتضمّن نبذا من الأسرار الشرعيّة الأصليّة والقرآنيّة كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الجمعة 16 فبراير 2024 - 19:52 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الزمر وغافر وفصلت كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الجمعة 16 فبراير 2024 - 19:30 من طرف عبدالله المسافربالله
» عشريات الحروف من الألف الى الياء من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 21:31 من طرف عبدالله المسافربالله
» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الأحزاب ويس وفاطر كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 21:10 من طرف عبدالله المسافربالله
» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الفرقان والشعراء والقصص كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 20:44 من طرف عبدالله المسافربالله
» خواتم الفواتح الكلّيّة وجوامع الحكم والأسرار الإلهيّة القرآنيّة والفرقانيّة وأسبابها كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 20:22 من طرف عبدالله المسافربالله
» حاز مجدا سنيا من غدا لله برا تقيا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 2:29 من طرف عبدالله المسافربالله
» وصل في بيان سرّ الحيرة الأخيرة ودرجاتها وأسبابها كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 2:05 من طرف عبدالله المسافربالله
» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة مريم وطه والانبياء كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 1:43 من طرف عبدالله المسافربالله
» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة يونس وهود ويوسف كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الإثنين 12 فبراير 2024 - 18:41 من طرف عبدالله المسافربالله
» قال الشيخ من روح سور من القرآن الكريم من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الإثنين 12 فبراير 2024 - 17:47 من طرف عبدالله المسافربالله
» مراتب الغضب مراتب الضلال كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الإثنين 12 فبراير 2024 - 16:28 من طرف عبدالله المسافربالله
» صورة النعمة وروحها وسرّها كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الإثنين 12 فبراير 2024 - 16:08 من طرف عبدالله المسافربالله
» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الأنعام وبراءة كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الإثنين 12 فبراير 2024 - 0:11 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة النساء كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الإثنين 12 فبراير 2024 - 0:01 من طرف عبدالله المسافربالله
» في الإمام الذي يرث الغوث من روح تبارك الملك من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأحد 11 فبراير 2024 - 19:43 من طرف عبدالله المسافربالله
» بيان سرّ النبوّة وصور إرشادها وغاية سبلها وثمراتها كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الأحد 11 فبراير 2024 - 18:50 من طرف عبدالله المسافربالله
» فاتحة القسم الثالث من أقسام أمّ الكتاب كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الأحد 11 فبراير 2024 - 12:20 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من سورة آل عمران كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 11 فبراير 2024 - 0:42 من طرف عبدالله المسافربالله
» وصل العبادة الذاتيّة والصفاتيّة كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
السبت 10 فبراير 2024 - 21:59 من طرف عبدالله المسافربالله
» حروف أوائل السور يبينها تباينها إن أخفاها تماثلها لتبديها مساكنها من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
السبت 10 فبراير 2024 - 21:20 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من سورة البقرة كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الجمعة 9 فبراير 2024 - 16:27 من طرف عبدالله المسافربالله
» نبدأ بـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الجمعة 9 فبراير 2024 - 16:12 من طرف عبدالله المسافربالله
» علمت أن الله يحجب عبده عن ذاته لتحقق الإنساء من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الجمعة 9 فبراير 2024 - 9:26 من طرف عبدالله المسافربالله
» كل فعل انسان لا يقصد به وجه الله يعد من الأجراء لا من العباد كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الجمعة 9 فبراير 2024 - 1:04 من طرف عبدالله المسافربالله
» أشرقت شمس المعاني بقلوب العارفينا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الجمعة 9 فبراير 2024 - 0:52 من طرف عبدالله المسافربالله
» المزاج يغلب قوّة الغذاء كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الخميس 8 فبراير 2024 - 7:11 من طرف عبدالله المسافربالله
» ذكر الفواتح الكلّيّات المختصّة بالكتاب الكبير والكتاب الصغير كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الخميس 8 فبراير 2024 - 4:33 من طرف عبدالله المسافربالله
» تفصيل لمجمل قوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الخميس 8 فبراير 2024 - 4:09 من طرف عبدالله المسافربالله
» فلله قوم في الفراديس مذ أبت قلوبهم أن تسكن الجو والسما من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الخميس 8 فبراير 2024 - 0:31 من طرف عبدالله المسافربالله
» التمهيد الموعود به ومنهج البحث المؤلف كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الأربعاء 7 فبراير 2024 - 2:16 من طرف عبدالله المسافربالله
» مقدمة المؤلف كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن العارف بالله الشيخ صدر الدين القونوي
الثلاثاء 6 فبراير 2024 - 23:35 من طرف عبدالله المسافربالله
» في باب أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الثلاثاء 6 فبراير 2024 - 19:57 من طرف عبدالله المسافربالله
» في باب الأوبة والهمة والظنون والمراد والمريد من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الثلاثاء 6 فبراير 2024 - 2:03 من طرف عبدالله المسافربالله
» في باب البحر المسجور من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الثلاثاء 6 فبراير 2024 - 1:30 من طرف عبدالله المسافربالله
» الفهرس لكتاب ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الثلاثاء 6 فبراير 2024 - 1:08 من طرف عبدالله المسافربالله
» قصائد ودوبيتات وموشّحات ومواليات ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الثلاثاء 6 فبراير 2024 - 1:02 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية الحروف بالمعشرات ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الأحد 4 فبراير 2024 - 22:17 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف اللام ألف والياء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
السبت 3 فبراير 2024 - 23:31 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الهاء والواو ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
السبت 3 فبراير 2024 - 21:57 من طرف عبدالله المسافربالله
» كتاب أخبار الحلاج لابي المغيث الحسين بن منصور الحلاج
السبت 3 فبراير 2024 - 17:01 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف النون ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
السبت 3 فبراير 2024 - 1:49 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الميم ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الخميس 1 فبراير 2024 - 18:48 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف اللام ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الخميس 1 فبراير 2024 - 1:39 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الكاف ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الثلاثاء 30 يناير 2024 - 17:12 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الغين المعجمة والفاء والقاف ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الإثنين 29 يناير 2024 - 1:30 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الظاء المعجمة والعين ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الأحد 28 يناير 2024 - 2:51 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الشين والصاد والضاد والطاء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
السبت 27 يناير 2024 - 3:03 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الزاي والسين المعجمة ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الجمعة 26 يناير 2024 - 14:25 من طرف عبدالله المسافربالله
» ديوان الحلاج لابي المغيث الحسين بن منصور الحلاج
الخميس 25 يناير 2024 - 22:25 من طرف عبدالله المسافربالله
» لئن أمسيت في ثوبي عديم من ديوان الحلاج
الخميس 25 يناير 2024 - 22:16 من طرف عبدالله المسافربالله
» سبحان من أظهر ناسوته من ديوان الحلاج
الخميس 25 يناير 2024 - 22:08 من طرف عبدالله المسافربالله
» ما يفعل العبد والأقدار جارية من ديوان الحلاج
الخميس 25 يناير 2024 - 22:03 من طرف عبدالله المسافربالله
» العشق في أزل الآزال من قدم من ديوان الحلاج
الخميس 25 يناير 2024 - 21:58 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الذال المعجمة والراء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الخميس 25 يناير 2024 - 20:33 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الخاء والدال ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الأربعاء 24 يناير 2024 - 23:22 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الحاء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الأربعاء 24 يناير 2024 - 16:59 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الثاء والجيم ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الثلاثاء 23 يناير 2024 - 23:49 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف التاء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الثلاثاء 23 يناير 2024 - 18:35 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الباء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الثلاثاء 23 يناير 2024 - 0:58 من طرف عبدالله المسافربالله
» تمهيد كتاب المهدي وقرب الظهور وإقترب الوعد الحق
الإثنين 22 يناير 2024 - 23:18 من طرف عبدالله المسافربالله
» أنتم ملكتم فؤادي فهمت في كل وادي من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 23:01 من طرف عبدالله المسافربالله
» والله لو حلف العشاق أنهم موتى من الحب من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 22:51 من طرف عبدالله المسافربالله
» سكرت من المعنى الذي هو طيب من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 22:45 من طرف عبدالله المسافربالله
» مكانك من قلبي هو القلب كله من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 22:36 من طرف عبدالله المسافربالله
» إن الحبيب الذي يرضيه سفك دمي من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 22:30 من طرف عبدالله المسافربالله
» كم دمعة فيك لي ما كنت أُجريها من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 22:19 من طرف عبدالله المسافربالله
» يا نَسيمَ الريح قولي لِلرَشا من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 22:12 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الهمزة ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الإثنين 22 يناير 2024 - 14:24 من طرف عبدالله المسافربالله
» ترجمة المصنّف ومقدمة المؤلف ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الأحد 21 يناير 2024 - 15:19 من طرف عبدالله المسافربالله
» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي النون والياء شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
السبت 20 يناير 2024 - 21:36 من طرف عبدالله المسافربالله
» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي القاف واللام والعين شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
السبت 20 يناير 2024 - 21:27 من طرف عبدالله المسافربالله
» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي السين والضاد والعين والفاء شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الجمعة 19 يناير 2024 - 16:39 من طرف عبدالله المسافربالله
» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي الجيم والدال والراء شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الجمعة 19 يناير 2024 - 16:28 من طرف عبدالله المسافربالله
» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي الألف والباء والهمزة شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الخميس 18 يناير 2024 - 20:40 من طرف عبدالله المسافربالله
» القوافي في ديوان الحلّاج الهاء والواو والياء شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الخميس 18 يناير 2024 - 20:28 من طرف عبدالله المسافربالله