اتقوا الله ويعلمكم الله
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
المواضيع الأخيرة
» الله لا يعرفه غيره وما هنا غير فلا تغفلوا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالسبت 2 مارس 2024 - 1:11 من طرف عبدالله المسافربالله

» فإن الكلام الحق ذلك فاعتمد عليه ولا تهمله وافزع إلى البدء من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 28 فبراير 2024 - 23:12 من طرف عبدالله المسافربالله

» وما تجليت إلا لي فأدركني عيني وأسمعت سمعي كل وسواس من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 28 فبراير 2024 - 0:49 من طرف عبدالله المسافربالله

» رسالة التلقينات الأربعة من مخطوط نادر من رسائل الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 28 فبراير 2024 - 0:25 من طرف عبدالله المسافربالله

» عقيدة الشيخ الأكبر محي الدين محمد ابن علي ابن محمد ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 25 فبراير 2024 - 22:43 من طرف عبدالله المسافربالله

» رسالة حرف الكلمات وصرف الصلوات من مخطوط نادر من رسائل الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 25 فبراير 2024 - 22:30 من طرف عبدالله المسافربالله

» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الرعد وابراهيم والحجر كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 25 فبراير 2024 - 3:42 من طرف عبدالله المسافربالله

» مما تنتجه الخلوة المباركة من سورة الفاتحة كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 25 فبراير 2024 - 3:40 من طرف عبدالله المسافربالله

» مقدمة المصنف لكتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 25 فبراير 2024 - 3:40 من طرف عبدالله المسافربالله

» مقدمة المحقق لكتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 25 فبراير 2024 - 3:39 من طرف عبدالله المسافربالله

» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الرحمن والواقعة والملك كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 25 فبراير 2024 - 3:39 من طرف عبدالله المسافربالله

» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة النبأ والنازعات والبروج كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 25 فبراير 2024 - 3:38 من طرف عبدالله المسافربالله

» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة العصر والهمزة والفيل كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 25 فبراير 2024 - 3:37 من طرف عبدالله المسافربالله

» فهرس موضوعات كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 25 فبراير 2024 - 3:30 من طرف عبدالله المسافربالله

» وهب نسيم القرب من جانب الحمى فأهدى لنا من نشر عنبره عرفا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 25 فبراير 2024 - 3:22 من طرف عبدالله المسافربالله

» فلم نخل عن مجلى يكون له بنا ولم يخل سر يرتقى نحوه منا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالجمعة 23 فبراير 2024 - 23:17 من طرف عبدالله المسافربالله

» ما في الوجود شيء سدى فيهمل بل كله اعتبار إن كنت تعقل من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 21 فبراير 2024 - 1:51 من طرف عبدالله المسافربالله

» إن كنت عبدا مذنبا كان الإله محسنا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالثلاثاء 20 فبراير 2024 - 1:25 من طرف عبدالله المسافربالله

» إن المهيمن وصى الجار بالجار والكل جار لرب الناس والدار من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالثلاثاء 20 فبراير 2024 - 1:08 من طرف عبدالله المسافربالله

» ويقول العقل فيه كما قاله مدبر الزمنا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 18 فبراير 2024 - 4:09 من طرف عبدالله المسافربالله

» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الدخان والجاثية والفتح كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 18 فبراير 2024 - 2:59 من طرف عبدالله المسافربالله

» فهرس المواضع كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالجمعة 16 فبراير 2024 - 20:25 من طرف عبدالله المسافربالله

» فعاينت آحادا ولم أر كثرة وقد قلت فيما قلته الحق والصدقا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالجمعة 16 فبراير 2024 - 20:15 من طرف عبدالله المسافربالله

» وصل يتضمّن نبذا من الأسرار الشرعيّة الأصليّة والقرآنيّة كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالجمعة 16 فبراير 2024 - 19:52 من طرف عبدالله المسافربالله

» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الزمر وغافر وفصلت كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالجمعة 16 فبراير 2024 - 19:30 من طرف عبدالله المسافربالله

» عشريات الحروف من الألف الى الياء من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 14 فبراير 2024 - 21:31 من طرف عبدالله المسافربالله

» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الأحزاب ويس وفاطر كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 14 فبراير 2024 - 21:10 من طرف عبدالله المسافربالله

» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الفرقان والشعراء والقصص كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 14 فبراير 2024 - 20:44 من طرف عبدالله المسافربالله

» خواتم الفواتح الكلّيّة وجوامع الحكم والأسرار الإلهيّة القرآنيّة والفرقانيّة وأسبابها كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 14 فبراير 2024 - 20:22 من طرف عبدالله المسافربالله

» حاز مجدا سنيا من غدا لله برا تقيا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 14 فبراير 2024 - 2:29 من طرف عبدالله المسافربالله

» وصل في بيان سرّ الحيرة الأخيرة ودرجاتها وأسبابها كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 14 فبراير 2024 - 2:05 من طرف عبدالله المسافربالله

» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة مريم وطه والانبياء كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 14 فبراير 2024 - 1:43 من طرف عبدالله المسافربالله

» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة يونس وهود ويوسف كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 12 فبراير 2024 - 18:41 من طرف عبدالله المسافربالله

»  قال الشيخ من روح سور من القرآن الكريم من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 12 فبراير 2024 - 17:47 من طرف عبدالله المسافربالله

» مراتب الغضب مراتب الضلال كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 12 فبراير 2024 - 16:28 من طرف عبدالله المسافربالله

» صورة النعمة وروحها وسرّها كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 12 فبراير 2024 - 16:08 من طرف عبدالله المسافربالله

» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الأنعام وبراءة كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 12 فبراير 2024 - 0:11 من طرف عبدالله المسافربالله

» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة النساء كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 12 فبراير 2024 - 0:01 من طرف عبدالله المسافربالله

»  في الإمام الذي يرث الغوث من روح تبارك الملك من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 11 فبراير 2024 - 19:43 من طرف عبدالله المسافربالله

» بيان سرّ النبوّة وصور إرشادها وغاية سبلها وثمراتها كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 11 فبراير 2024 - 18:50 من طرف عبدالله المسافربالله

» فاتحة القسم الثالث من أقسام أمّ الكتاب كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 11 فبراير 2024 - 12:20 من طرف عبدالله المسافربالله

» مما تنتجه الخلوة المباركة من سورة آل عمران كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 11 فبراير 2024 - 0:42 من طرف عبدالله المسافربالله

» وصل العبادة الذاتيّة والصفاتيّة كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالسبت 10 فبراير 2024 - 21:59 من طرف عبدالله المسافربالله

» حروف أوائل السور يبينها تباينها إن أخفاها تماثلها لتبديها مساكنها من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالسبت 10 فبراير 2024 - 21:20 من طرف عبدالله المسافربالله

» مما تنتجه الخلوة المباركة من سورة البقرة كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالجمعة 9 فبراير 2024 - 16:27 من طرف عبدالله المسافربالله

» نبدأ بـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالجمعة 9 فبراير 2024 - 16:12 من طرف عبدالله المسافربالله

» علمت أن الله يحجب عبده عن ذاته لتحقق الإنساء من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالجمعة 9 فبراير 2024 - 9:26 من طرف عبدالله المسافربالله

» كل فعل انسان لا يقصد به وجه الله يعد من الأجراء لا من العباد كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالجمعة 9 فبراير 2024 - 1:04 من طرف عبدالله المسافربالله

» أشرقت شمس المعاني بقلوب العارفينا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالجمعة 9 فبراير 2024 - 0:52 من طرف عبدالله المسافربالله

» المزاج يغلب قوّة الغذاء كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 8 فبراير 2024 - 7:11 من طرف عبدالله المسافربالله

» ذكر الفواتح الكلّيّات المختصّة بالكتاب الكبير والكتاب الصغير كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 8 فبراير 2024 - 4:33 من طرف عبدالله المسافربالله

» تفصيل لمجمل قوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 8 فبراير 2024 - 4:09 من طرف عبدالله المسافربالله

» فلله قوم في الفراديس مذ أبت قلوبهم أن تسكن الجو والسما من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 8 فبراير 2024 - 0:31 من طرف عبدالله المسافربالله

»  التمهيد الموعود به ومنهج البحث المؤلف كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 7 فبراير 2024 - 2:16 من طرف عبدالله المسافربالله

» مقدمة المؤلف كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن العارف بالله الشيخ صدر الدين القونوي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالثلاثاء 6 فبراير 2024 - 23:35 من طرف عبدالله المسافربالله

» في باب أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالثلاثاء 6 فبراير 2024 - 19:57 من طرف عبدالله المسافربالله

» في باب الأوبة والهمة والظنون والمراد والمريد من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالثلاثاء 6 فبراير 2024 - 2:03 من طرف عبدالله المسافربالله

» في باب البحر المسجور من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالثلاثاء 6 فبراير 2024 - 1:30 من طرف عبدالله المسافربالله

» الفهرس لكتاب ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالثلاثاء 6 فبراير 2024 - 1:08 من طرف عبدالله المسافربالله

» قصائد ودوبيتات وموشّحات ومواليات ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالثلاثاء 6 فبراير 2024 - 1:02 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية الحروف بالمعشرات ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 4 فبراير 2024 - 22:17 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف اللام ألف والياء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالسبت 3 فبراير 2024 - 23:31 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف الهاء والواو ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالسبت 3 فبراير 2024 - 21:57 من طرف عبدالله المسافربالله

» كتاب أخبار الحلاج لابي المغيث الحسين بن منصور الحلاج
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالسبت 3 فبراير 2024 - 17:01 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف النون ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالسبت 3 فبراير 2024 - 1:49 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف الميم ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 1 فبراير 2024 - 18:48 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف اللام ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 1 فبراير 2024 - 1:39 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف الكاف ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالثلاثاء 30 يناير 2024 - 17:12 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف الغين المعجمة والفاء والقاف ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 29 يناير 2024 - 1:30 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف الظاء المعجمة والعين ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 28 يناير 2024 - 2:51 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف الشين والصاد والضاد والطاء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالسبت 27 يناير 2024 - 3:03 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف الزاي والسين المعجمة ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالجمعة 26 يناير 2024 - 14:25 من طرف عبدالله المسافربالله

» ديوان الحلاج لابي المغيث الحسين بن منصور الحلاج
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 25 يناير 2024 - 22:25 من طرف عبدالله المسافربالله

» لئن أمسيت في ثوبي عديم من ديوان الحلاج
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 25 يناير 2024 - 22:16 من طرف عبدالله المسافربالله

» سبحان من أظهر ناسوته من ديوان الحلاج
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 25 يناير 2024 - 22:08 من طرف عبدالله المسافربالله

» ما يفعل العبد والأقدار جارية من ديوان الحلاج
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 25 يناير 2024 - 22:03 من طرف عبدالله المسافربالله

» العشق في أزل الآزال من قدم من ديوان الحلاج
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 25 يناير 2024 - 21:58 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف الذال المعجمة والراء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 25 يناير 2024 - 20:33 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف الخاء والدال ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 24 يناير 2024 - 23:22 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف الحاء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأربعاء 24 يناير 2024 - 16:59 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف الثاء والجيم ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالثلاثاء 23 يناير 2024 - 23:49 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف التاء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالثلاثاء 23 يناير 2024 - 18:35 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف الباء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالثلاثاء 23 يناير 2024 - 0:58 من طرف عبدالله المسافربالله

» تمهيد كتاب المهدي وقرب الظهور وإقترب الوعد الحق
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 22 يناير 2024 - 23:18 من طرف عبدالله المسافربالله

» أنتم ملكتم فؤادي فهمت في كل وادي من ديوان الحلاج
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 22 يناير 2024 - 23:01 من طرف عبدالله المسافربالله

» والله لو حلف العشاق أنهم موتى من الحب من ديوان الحلاج
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 22 يناير 2024 - 22:51 من طرف عبدالله المسافربالله

» سكرت من المعنى الذي هو طيب من ديوان الحلاج
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 22 يناير 2024 - 22:45 من طرف عبدالله المسافربالله

» مكانك من قلبي هو القلب كله من ديوان الحلاج
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 22 يناير 2024 - 22:36 من طرف عبدالله المسافربالله

» إن الحبيب الذي يرضيه سفك دمي من ديوان الحلاج
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 22 يناير 2024 - 22:30 من طرف عبدالله المسافربالله

» كم دمعة فيك لي ما كنت أُجريها من ديوان الحلاج
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 22 يناير 2024 - 22:19 من طرف عبدالله المسافربالله

» يا نَسيمَ الريح قولي لِلرَشا من ديوان الحلاج
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 22 يناير 2024 - 22:12 من طرف عبدالله المسافربالله

» قافية حرف الهمزة ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالإثنين 22 يناير 2024 - 14:24 من طرف عبدالله المسافربالله

» ترجمة المصنّف ومقدمة المؤلف ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالأحد 21 يناير 2024 - 15:19 من طرف عبدالله المسافربالله

» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي النون والياء شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالسبت 20 يناير 2024 - 21:36 من طرف عبدالله المسافربالله

» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي القاف واللام والعين شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالسبت 20 يناير 2024 - 21:27 من طرف عبدالله المسافربالله

» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي السين والضاد والعين والفاء شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالجمعة 19 يناير 2024 - 16:39 من طرف عبدالله المسافربالله

» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي الجيم والدال والراء شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالجمعة 19 يناير 2024 - 16:28 من طرف عبدالله المسافربالله

» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي الألف والباء والهمزة شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 18 يناير 2024 - 20:40 من طرف عبدالله المسافربالله

» القوافي في ديوان الحلّاج الهاء والواو والياء شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Emptyالخميس 18 يناير 2024 - 20:28 من طرف عبدالله المسافربالله

المواضيع الأكثر نشاطاً
منارة الإسلام (الأزهر الشريف)
أخبار دار الإفتاء المصرية
فتاوي متنوعة من دار الإفتاء المصرية
السفر الأول فص حكمة إلهية فى كلمة آدمية .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
السفر‌ ‌السابع‌ ‌والعشرون‌ ‌فص‌ ‌حكمة‌ ‌فردية‌ ‌في‌ ‌كلمة‌ ‌محمدية‌ ‌.موسوعة‌ ‌فتوح‌ ‌الكلم‌ ‌في‌ ‌شروح‌ ‌فصوص‌ ‌الحكم‌ ‌الشيخ‌ ‌الأكبر‌ ‌ابن‌ ‌العربي
السفر الخامس والعشرون فص حكمة علوية في كلمة موسوية .موسوعة فتوح الكلم في شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
السفر الثاني فص حكمة نفثية فى كلمة شيثية .موسوعة فتوح الكلم فى شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
السـفر الخامس عشر فص حكمة نبوية في كلمة عيسوية .موسوعة فتوح الكلم في شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي
مكتب رسالة الأزهر
السـفر السادس عشر فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية .موسوعة فتوح الكلم في شروح فصوص الحكم الشيخ الأكبر ابن العربي




البحث في جوجل

الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني

اذهب الى الأسفل

15102023

مُساهمة 

الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني Empty الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني




الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني

موسوعة القرآن العظيم ج 1  د. عبد المنعم الحفني

621 . سورة غافر

السورة مكية ، وتسمى « غافر » ، و « الطّول » ، للآية فيها في وصف اللّه تعالىغافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ( 3 ) ، وأصل الطول الإنعام والفضل ، ومنه قوله تعالى :وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا( 25 ) ( النساء ) أي : غنى وسعة . وهو « ذو الطول » يعنى أنه المستغنى إذا لم تقل : « لا إله إلا اللّه » ، وهو « شديد العقاب » عدلا لمن لم يقل : « لا إله إلا اللّه » وقيل : « ذي الطول » يعنى « ذي المنّ » ؛ وقيل : « ذي التفضل » ، والفرق بين المنّ والتفضّل : أن المنّ عفو عن ذنب ، والتفضّل إحسان غير مستحق . وقيل : الطّول مأخوذ من الطّول ، كأنه طال بإنعامه على غيره ، أو لأنه طالت مدة إنعامه .
وتسمى السورة أيضا « سورة المؤمن » ، لاشتمالها على قصة « المؤمن من آل فرعون في قوله تعالى :وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ( 28 ) ؛ وهي من السور الحواميم ، أي التي تبدأ بالحرفين المقطّعين « حم » ، وعددها سبع سور ، أولها سورة غافر .

وحم ( 1 ) ، ون ( 1 ) ، والر ( 1 ) وغيرها تبدأ بها بعض سور القرآن ، باعتبارها حروف الهجاء التي تصنع الكلمات التي هي وحدات بناء آيات كتاب اللّه المقروء ، أي القرآن ، كمقابل للعناصر الفيزيائية التي تصنع الكائنات التي هي وحدات بناء آيات كتاب اللّه المرئى والمشاهد والمحسوس ، أي الكون .
وقيل : « حم » اسم من أسماء اللّه ، أو اسم من أسماء القرآن ؛ وقيل : إن الحروف المقطّعة كلها في الحواميم وفي غيرها هي فواتح للسور ؛ وقيل : الحاء في « حم » افتتاح أسمائه : حميد ، وحنّان ، وحليم ، وحكيم ، والميم : افتتاح اسمه : ملك ، ومجيد ، ومنّان ، ومتكبّر ، ومصوّر . ولمّا سئل النبىّ صلى اللّه عليه وسلم : « ما حم فإنّا لا نعرفها في لساننا ؟
قال : « بدء أسماء وفواتح سور » . وقيل : حم كأنها حمّ أي قضى ووقع ما هو كائن ، والمعنى قرب نصره لأوليائه وانتقامه من أعدائه .

وقيل : سورة « غافر » مكية ، إلا الآيتين السادسة والخمسين والسابعة والخمسين فإنهما مدنيتان ، وهما :إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 56 ) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ( 57 ) ،
ومن قال أنهما مدنيتان اعتمد في ذلك على ما في الآية الأولى من « الجدل » ، باعتبار أن الجدل كان من اليهود ، غير أن ما جاء عن الجدل في السور المكية أكثر منه في السور المدنية . ولم يحدث أن جادل اليهود في اللّه وإنما جدالهم في الشريعة وفيما حولها ، وأما الذين جادلوا في اللّه فهم كفّار مكة ، ولذا فإن السورة جميعها في اعتقادنا مكية ، على عكس ما يذهب إليه الكثير من المفسرين . والجدل في اللّه وفي التوحيد ، كان موضوع كفار مكة وميّز كل السور المكية عن السور المدنية .

وسورة غافر نزلت بعد سورة الزمر ، وترتيبها في المصحف الأربعون ، وفي التنزيل الستون ، وآياتها خمس وثمانون آية ، وموضوعها الصراع بين الحق والباطل ، وبين الهدى والضلال ، وتبدأ السورة بتأكيد أن القرآن نزل من عند اللّه ، وأنه تعالى العزيز العليم ، فمن صفاته تعالى يناسب هذه السورة هاتان الصفتان : أنه تعالى عزيز لا ينال منه أحد ، وعليم يعلم ما تخفى الصدور ، وكل ما يأتي في السورة من حوادث إنما تحكمها هاتان الصفتان من صفات اللّه تعالى ، ومع عزته ومنعته وعلمه بما يجرى ، فإنه تعالى غافر يغفر الذنوب ، وتوّاب يقبل التوبة ، وشديد العقاب يطول من لا يؤمن به وحده لا شريك له . وتنبّه السورة إلى أن من يجادلون في القرآن هم أهل الباطل ، وأصحاب النار ، وهم المترفون يتقلبون في النعم ، وقبلهم كذب قوم نوح ، وكذبت أمم وأقوام بعد قوم نوح ، وهؤلاء من يسميهم القرآن بمصطلحه :وَالْأَحْزابُ( 5 ) ، هموا أن يأخذوا أنبياءهم ، وجادلوا بالباطل ، فأخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر عليم ، وحقّت عليهم كلمة اللّهأَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ( 6 ) .
وتقارن السورة بينهم وبين « أصحاب الجنة » يستغفر لهم حملة العرش ، ويدعون ربّهم :رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ( 7 ) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 8 ) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( 9 ) ،
و« جَنَّاتِ عَدْنٍ »من مصطلحات القرآن ، وهي جنات النعيم والإقامة ، وعلى عكس ذلك حال الكافرين يناديهم الملائكة أن اللّه تعالى يبغضهم أكثر من بغضهم لأنفسهم ، لأنه دعاهم إلى الإيمان فكفروا ، فلما صاروا إلى النار دعوا اللّه أنه تعالى أماتهم اثنتين ، وأحياهم اثنتين ، فذلك يطمعهم أن تكون لهم حياة ثالثة ينزلون فيها إلى الدنيا ، ويصلحون هذه المرة .
والموتتان : الأولى كانت وهم في العدم ، والثانية كانت وهم في الدنيا ، والحياتان : الأولى في الدنيا ، والثانية بعد البعث .
ولقد كفروا في الحياة الأولى برغم كل الدلائل على وجود اللّه ، وعلى وحدانيته ، وعلى البعث والحساب والثواب والجزاء ، وأنّى للكافر أن يتّعظ ويتوب ؟ !
مع أنه تعالى يرعاهم خير الرعاية ، ويرزقهم خير الرزق ! وأما المؤمن الشاكر فذلك الذي يدعوه مخلصا له دينه ، وهو اللّه أولا وأخيرا ، له الدرجات الرفيعة ، والعرش العظيم ؛ وهو ينزل وحيه على من يشاء من عباده ويرسله ينذر يوم التلاق : وهو اسم ليوم القيامة ، سمّى كذلك لأن الناس فيه يلتقون ويبرزون ، لا يخفى على اللّه منهم أحد ، وله حينئذ الملك ، وهو الواحد القهّار ، لا يشاركه أحد في ملكه ، وهو قهّار لأنه عزيز كما جاء في أول السورة ، ويقهر بالغلبة كل ما سواه .
واسم يوم القيامة أيضا : يوم الآزفة من أزف الوقت يعنى قد حان ، والآزفة هي الساعة قد دنت ، وحينئذ يقضى اللّه تعالى بالحق ، فهل يقضى به من يدعون دونه ؟
ودلائل وجوده وقدرته تحفل بها الأرض ، وكم من الأمم والأقوام كانوا أكثر قوة ولهم الآثار الجليّ ، فما كان لهم من اللّه من واق .
وتضرب السورة المثل للكفّار بموسى وقوم فرعون ، فلما عتى قوم فرعون ، أرسل لهم موسى ، واحتمى فرعون من سلطان موسى بقومه ،
وانتحى الطغاة : فرعون وهامان وقارون ، والأول من دهاقين أهل السياسة وطواغيتهم ، والثاني من دهاقين الحرب ،
والثالث من دهاقين المال والاقتصاد ،

وبات الأمر سجالا بين الطرفين ، طرف موسى يمثّل الحقّ ، وطرف فرعون وهامان وقارون ، وبدا كأن كفة هؤلاء الطغاة الدهاقين هي الراجحة ، وبدا كأن السورة قد شحنت بالعنف والشدّة ، وكأننا قد صرنا في معركة ، الطعان فيها سجال ، وأن الأمر وإن طال فحتما سيسفر عن نتيجة معروفة مقدما ، تنتصر فيها السياسة والعسكرية والمال ، إلا أن اللّه كان مع موسى الداعي له ، وأسفرت المعركة عن مصارع الطغاة . وتدخل رجل مؤمن ، يريد أن ينتصر لموسى ، ويهدى قومه ، ودفاع المؤمن كان خير دفاع عن قضية الحق ، ونجّى اللّه موسى وقومه ، وغرق آل فرعون فهم في النار ، يعرضون عليها غدوا وعشيا إلى يوم الساعة ، وفيه الناس فريقان ، ففريق في النار ، وفريق في الجنة ، والأولون هم المستكبرون ، والآخرون هم المستضعفون ، وتخلص السورة إلى أن الجدل في اللّه يردى أصحابه ، ويخاطب اللّه نبيّه صلى اللّه عليه وسلم أن يترك الجدل ، وينحّيه جانبا ، وأن يصرف عنه أصحابه ، وأن يكونوا على اليقين بأن كل البراهين تثبت وجوده وقدرته تعالى ، وهو اللّه الخالق الذي لا إله إلا هو ، قرّ الأرض ، وبنى السماء ، وصوّر الناس ، ورزق الطيبات ، فتبارك اللّه .
وتختتم السورة بالأمر للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم وللمؤمنين بالصبر ، فإن وعد اللّه حق ، وكل الأنبياء لاقوا العنت ، وصبروا .
وليست قصة موسى ، ولا مؤمن آل فرعون إلا  نموذجا من القصص ، بعضها يقصّه اللّه على نبيّه ضمن القرآن ، وبعضها لم يقصه .
وتختتم السورة كما بدأت ، ببيان مصارع المكذّبين ، وصدق اللّه في قوله عن نفسه أنه تعالى :غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ( 3 ) ، فكل من كذّب وفرح بما عنده من العلم سيحيق به حتما ما كان به يستهزئ ، ولمّا يرى العذاب فعندئذ سيؤمن ، فما ينفعه إيمانه لمّا رأى عذاب اللّه ، وهذه سنّة اللّه في عباده ، والكافرون هم الخاسرون .

وفي السورة من المصطلحات : أن « حملة العرش » هم المستغفرون للناس ، وهم أشراف الملائكة ؛ و « العرش » هو الكون كله والوجود بأسره ؛ وفي قوله تعالى :فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ( 14 ) أن من شرط الدعاء الإخلاص فيه ؛ و « يوم الآزفة » ، و « يوم التلاق » ، و « يوم التناد » من أسماء يوم القيامة ؛ وفي السورة أن الجدل نوعان : جدل بالباطل يقال له « الجدال » ، وجدل بالحق وهو « الحجاج » ، نسأل اللّه الهداية ، وأن يتقبّل منّا ، وله الحمد والمنّة .
  * * *

622 . سورة فصّلت

السورة مكية ، وآياتها أربع وخمسون آية ، وترتيبها في المصحف الواحدة والأربعون ، وفي التنزيل الواحدة والستون ، وكان نزولها بعد سورة غافر ، واسمها « فصّلت » بسبب ابتدائها بالآية :فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( 3 ) ، ومعنى « فصّلت » بيّنت ووضّحت ، فتميز بها الحلال من الحرام ، والحق من الباطل ، تقول : فصّل الكلام أي بيّنه ، ضد أجمله ؛ والآيات في السورة مفصّلة ، وعكس ذلك أن تكون مجملة ، والدلائل فيها موضّحة لقدرته تعالى ووحدانيته ، وتستفتح بالحرفين المقطّعين حم ، تنبيها إلى أن القرآن مؤلّف من الحروف الأبجدية العربية ، وهي حروف معروفة للجميع ، ومع ذلك لم يستطع أحدهم أن يركّب منها آية واحدة ، دليلا على إعجاز القرآن ، وأن منزّله هو اللّه تعالى ، وأن مبلّغه لا بد أن يكون نبيّا . والسورة إحدى سور سبع تبدأ بالحرفين حم ، أولا غافر ، ثم فصّلت ، فالشورى ، فالزخرف ، فالدخان ، فالجاثية ، فالأحقاف . وتنزّلهامِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ( 2 ) تقريرا لهذه الحقيقة ، أنه لولا رحمة ربّك ما تنزّل القرآن بالكلية ، وهو الكتاب المفصّل الآيات ، والعربي اللغة ، الذي جاء قوما يعلمون هذه اللغة واشتهروا بها ، ومع علمهم بها فقد عجزوا عن مثله ، ولو كان القرآن غير عربى لما علموه . والسورة تقريع وتوبيخ وتحدّ لقريش في إعجاز القرآن ، فقد أعرضوا عنه وادّعوا ثلاثة ادعاءات : أن قلوبهم في أكنّة ، يعنى لا تتأثر بشيء ؛ وآذانهم فيها وقر ، يعنى لا يسمعونه ؛ وبينهم وبين النبىّ صلى اللّه عليه وسلم وهو يتلوه عليهم - حجاب فلا يرونه ، ولا يدرون به .
والنبىّ صلى اللّه عليه وسلم بشر مثلهم ، ولقد آمن مع ذلك ، ولأنهم بشر فكان يتوقع أن يتعاطفوا معه ، وما ينقله إليهم هو وحىّ من اللّه ، وما يقوله لهم ليس إلا كلاما طيبا لا يستفيد هو به ، وفائدته عليهم إذا آمنوا ، ورسالته إليهم أن هذا الكون له إله ، وأنه واحد ، فليستقيموا وليتوجّهوا إليه ، وليستغفروه ، والويل للمشركين ، وأمّا من آمن وعمل صالحا فلهم أجر غير مقطوع ولا محسوب .
والعجيب أن يكون كفرهم باللّه خالق الأرض في يومين ، والذي قدّر أقواتها في يومين ، وقضى السماوات السبع في يومين ، وكان الأحرى بهم أن يخشونه ، لأنه قادر أن يدمرهم تدميرا ، مثلما فعل بعاد وثمود ، فعاد أهلكهم بريح صرصر في أيام نحسات ، لأنهم استكبروا في الأرض واستعلوا على الناس ، وجحدوا بآيات اللّه ؛ وثمود استحبّوا العمى على الهدى ، فأخذتهم الصاعقة بعذاب مهين ، ونجّى اللّه المؤمنين . والذين يكفرون يحشرون يوم القيامة إلى النار ، ويوزعون ويدفعون ، لأنهم أعداء اللّه ، وتشهد عليهم جلودهم وسمعهم وأبصارهم بما كانوا يعملون ، وبما كانوا يستترون من اللّه ، وكان لهم في الدنيا القرناء يزينون لهم الشر ، ودأبوا عليه حتى استحقوا النار مثوى لهم ، لا محيص لهم عنها ، ولا هم يستعتبون ويسترضون . وكانوا لا يسمعون للقرآن ، ويحضّون الآخرين على عدم السماع لتلاوته ، وأن يلغوا فيه بالتشويش ، ويوم القيامة يتمنون لو يضعوا أيديهم على قرنائهم ليدوسوا عليهم ويجعلوهم تحت أقدامهم سافلين . وأمّا الذين قالوا ربّنا اللّه ثم استقاموا فلهم الجنة واللّه وليّهم في الدنيا والآخرة ، ومن أحسن قولا ممن دعا إلى اللّه وإلى الإسلام وعمل صالحا ، ولا تستوى الكلمة الحسنة من الداعية والكلمة السيئة من الكافر ، والداعية عليه أن يدفع بأحسن الكلام ، والدفع به هو منهج القرآن ، وهو السبيل لإنهاء العداوة واكتساب محبة الناس ، وهذا المنهج وتلك الطريقة لا يتقنها ولا يحسنها إلا من تدرّب عليها وصبر ، وإذا صارت له فهي من حظّه العظيم ، وإذا الداعية وسوس إليه الشيطان ليوقعه في مكايده فليستعذ باللّه .
ومن آياته تعالى أن خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، والشمس والقمر آيتان لا يتعبّد لهما وإنما التعبّد للّه خالقهما .
والمتكبّرون كإبليس يرفضون الإسلام لأن فيه السجود للّه ، وهم لا يريدون السجود ، واللّه مستغن عنهم ، وله الملائكة في السماوات يسبّحون بالليل والنهار ولا يسأمون . وهذا القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فهو عزيز ، أعزّه اللّه ، ويمتنع على الناس أن يقولوا مثله ، وأن يحرّفوه ويبدّلوه ، وما كان الرسول بدعا بين الرسل ، وما قيل له من الرفض والجحود ،قيل مثله من قبل لمن سبقوه من الرسل ، وهذا القرآن تنزّل باللسان العربي وليس بالأعجمى ، ولو قد تنزل بلغة غير عربية لطلبوا أن يكون بالعربية ؛ وليس فيه باطل ، وهداه هو الهدى ، وفيه شفاء لقلوب الناس وعقولهم من الشك .
ومثلما عابوا على النبىّ صلى اللّه عليه وسلم القرآن عابوا على موسى التوراة ، واختلفوا فيه ولولا أن اللّه قد سبق منه الحكم بإمهال الكافرين لعجّل لهم بالعذاب ، إلا أن وقت العذاب هو الساعة ، وعلمها عنده ، ومن يعمل صالحا فلنفسه ، ومن يعمل السيئة فعليها ، ويوم القيامة يضلّ عنهم ما كانوا يدعون قبلا ، ويعلمون أنه لا محيص من النار ، وسيظل اللّه يطلع الناس كل يوم على الجديد من الكشوف في الكون وفي أنفسهم ، كعلامة على وجوده وقدرته ووحدانيته ، إلى أن يتبيّن لهم أنه الحق أو تكون الساعة ، وهو تعالى يكفى عباده الأدلة والعلامات ، وسيشهد عليهم ، ولكنهم في شك من لقاء اللّه ، وهو تعالى المحيط بكل شئ علما وقدرة ، وهو المحصى والمطّلع على كل شئ . والحمد للّه ربّ العالمين .

  * * *

623 . سورة الشورى

السورة مكية ، نزلت بعد سورة فصّلت ، وآياتها ثلاث وخمسون آية ، وترتيبها في المصحف الثانية والأربعون ، وفي التنزيل الثانية والستون ؛ وقيل من آياتها أربع آيات نزلت في المدينة ، هي : 23 و 24 و 25 و 27 ؛ واسمها الشورى من قوله تعالى فيها :وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ( 38 ) ، فكانت للشورى مكانة كبيرة في الإسلام ، فلا يبرم المسلمون أمرا من مهام الدنيا والدين إلا بعد المشورة ، ويأخذون بها ، فكانت الآية تعليما للمسلمين أن يقيموا حياتهم على منهج الشورى ،
فلا يستأثر بعضهم بالحكم دون الآخرين ، وما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد الحلول والطرق ، وأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بالشورى ، قال تعالى :وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ( 159 ) ( آل عمران ) ،
وتشاور الصحابة في الخلافة ، وفي أمر أهل الردة ، وفي الزواج والطلاق والميراث ، وفي حدّ الخمر وعدده ، وفي الحروب . وتبدأ سورة الشورى بالحروف المقطعة حم ( 1 ) عسق( 2 ) ، فكانت إحدى سور سبع تبدأ بالحرفين « حم » ، وكانت الوحيدة التي قطع بينحم( 1 )عسق( 2 ) ،
على خلاف سورة مريم التي بدأت بالحروف المقطعة كهيعص( 1 ) . غير مفصولة عن بعضها البعض .
والحروف المعجمة في القرآن التي تبدأ بها بعض السور واحدة في معناها ، فهي إشارة إلى إعجاز القرآن ، وأنه مؤلف من هذه الحروف التي يتقنها الجميع ، ومع ذلك لم يفلح واحد أن يأتي بآية مؤلّفة من هذه الحروف كآيات القرآن ، واللّه تعالى يقسم بها كما يقسم بآيات الكون ، وجواب القسم أن هذا القرآن المؤلّف من هذه الحروف هو وحىّ من اللّه العزيز الحكيم إلى إلى نبيّه الكريم ، وتنزّلت عليه قرآنا ، ولم يكن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم بدعا بين الرسل أن أوحى اللّه إليه ،
فقد أوحى إلى رسل آخرين من قبله ، وهذا القرآن لسانه عربى لأنه مرسل إلى العرب ، ولينذر به الرسول صلى اللّه عليه وسلم أم القرى مكة وما حولها ، بأن يوم القيامة - يوم الجمع - لا ريب فيه ،
وأن الناس في ذلك اليوم فريقان : فريق في الجنة ، وفريق في السعير - أي جهنم ؛ ولو شاء اللّه لجعل الناس جميعا على دين واحد ، وما يختلفون فيه مردّه للّه الذي ليس كمثله شئ ، وليس كذاته ذات ، ولا كاسمه اسم ، ولا كفعله فعل ، ولا كصفته صفة ؛ ودينه تعالى المشرّع للناس هو ما وصّى به نوحا ، ومحمدا ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى : أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه . فمن كان من الناس يريد حرث الآخرة يزد اللّه له في حرثه ، أي يوفّقه للعبادة ويسهّلها عليه ، ومن كان يريد حرث الدنيا يؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ، وحرث الدنيا هو المال .
ويوم القيامة يشفق الظالمون مما كسبوا ، ويدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات روضات الجنات ، لهم ما يشاءون عند ربّهم .
وما محمد إلا رسول ، ولم يسأل الناس أجرا على إبلاغه لرسالته ، وما كان يرجو منهم إلاالْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى( 3 ) ، وأن يراعوا قرابتهم به فيصدّقوه ، وينتهوا عن القول بأنه افترى القرآن على اللّه ، ولو افتراه لختم اللّه على قلبه فأنساه القرآن ، وسلبه من صدره ، كقوله تعالى :وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ( 46 ) ( الحاقة ) .
ولو بسط اللّه الرزق لعباده في الأرض لبغوا ، وإنما ينزّل الأرزاق بقدر وحكمة ، وفي الحديث القدسي : إنّ من عبادي ما لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه .

وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه » .
وما يصاب الناس من مصائب في النفس والمال إلا بسبب معاصيهم ، وعبّر اللّه تعالى بالأيدي فقال :فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ( 30 ) لأن أكثر الأفعال تزاول بها ، وهو تعالى يعفو عن كثير فلا يعاقب عليه ، ولو يؤاخذهم بكل ما كسبوا لهلكوا ،
وفي الحديث : « ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم ، واللّه أكرم من أن يثنّى عليكم العقوبة في الآخرة ، وما عفا عنه في الدنيا فاللّه أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه » .
ولمّا نزلت هذه الآية قال النبىّ صلى اللّه عليه وسلم : 
« ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ، ولا نكبة حجر إلا بذنب ، وما يعفو اللّه عنه أكثر » .
ونظير ذلك قوله تعالى :مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ( النساء 123 ) .
وخيرات الدنيا كثيرة ، ومتعها لا حدّ لها ، وما يؤتى الناس من ذلك من غنى وسعة إنّ هو إلا لأيام وتنقضى ، وما عند اللّه هو الباقي ، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش هم المؤمنون حقا ، وجزاؤهم الجنة ؛ والفواحش والكبائر بمعنى واحد ، وهي المعاصي ؛ وقيل كبائر الإثم هي الشرك ، والفواحش
هي موجبات الحدود .
وهؤلاء المستحقون للجنة : إذا غضبوا يغفرون ، ويستجيبون للّه ، ويقيمون الصلاة ، ويتشاورون فيما بينهم ، وقيل هؤلاء هم الأنصار ؛ وإذا أصابهم البغى ينتصرون لأنفسهم من الباغي ، والسيئة يجازونها بالسيئة مثلها ، والعفو والصلح أفضل ؛ ولا سبيل على من ينتصر لنفسه ، وإنما السبيل على من يظلم ويبغى في الأرض بغير الحق ؛ والصبر والعفو من عزائم اللّه وعزائم الصواب ؛ والخاسرون هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ؛ والظالمون في العذاب المقيم ؛ والإنسان كفور ، فحين يذيقه اللّه منه رحمة يفرح بها ، وإن تصبه سيئة بما قدّمت يداه يقنط وييأس ؛ واللّه تعالى يخلق ما يشاء من الذكور والإناث ، وقد يهب للناس أيا منهما ، أو يزاوج بينهما ، أو لا يرزقهم شيئا ويجعلهم بلا عقب .
ولكل أمة نبىّ ، وكل نبىّ يكلمه اللّه إما وحيا أو من وراء حجاب ، أو يرسل إليه رسولا فيوحى إليه ، وكذلك أوحى اللّه إلى نبيّنا صلى اللّه عليه وسلم ، فأرسل إليه جبريل ، روحا من عنده تعالى ، وما كان نبيّنا يدرى قبل ذلك ما معنى كتاب ولا إيمان ، ولكن الفضل للّه لمّا بعثه ، فعرّفه الكتاب وأنزله عليه ، وعلّمه الإيمان ، وفهّمه الأحكام والفرائض ، وجعله نورا وهدى للناس ، يهديهم إلى صراطه تعالى المستقيم ، أي القرآن والإسلام .
وكل ما نعمل ونقول ينتهى مصيره إلى اللّه ، وإليه تصير الأمور جميعها في الأرض وفي السماء . والحمد للّه ربّ العالمين .

  * * *

624 . سورة الزخرف

السورة مكية ، وقيل إلا الآية 89 فمدنية . والسورة نزلت بعد الشورى ، وآياتها تسع وثمانون آية ، وترتيبها في المصحف الرابعة والخمسون ، وفي التنزيل الثالثة والستون ، وسميت سورة الزخرف لقوله تعالى فيها :وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ( 33 ) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ ( 34 ) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ( 35 ) ،
فوصف تعالى الدنيا وصفا رائعا ، فلولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة من الرزق ، فيصيروا أمة واحدة في الكفر ، لخصّصت هذه الدنيا للكفّار ، ولجعلت لهم القصور المزخرفة المزدانة بأنواع النقوش والزينة ، وكانت سقوفها من الفضة ، ولها السلالم والمصاعد من الفضة ، يرتقون عليها ويصعدون ، ولجعلت لبيوتهم أبواب من فضة ، وسرر من فضة يتكئون عليها ويريحون ، ولجعلت لهم الزينة من نقوش الفضة والذهب ، إلا أن كل ذلك النعيم من متاع الدنيا الزائل ولا بقاء له ، لأن الدنيا نفسها إلى زوال . وتبدأ سورة الزخرف  بالحرفين المقطّعين حم( 1 ) ،
تذكيرا بأن القرآن من حروف الأبجدية العادية ، ومع ذلك ظلت آياته معجزة . 

وسورة الزخرف من الحواميم ، أي السور التي تبدأ بهذين الحرفين حم ، وهي سبع سور . وتبدأ السورة بوصف القرآن ومكانته ، فقالت إنه قرآن عربى ، لأن من أنزل عليهم هم العرب ، ولسانهم عربى مبين ، فلعلهم لذلك يفهمونه ويعقلونه ويؤمنون به .
وفي القرآن عموما يأتي أن القرآن عربى في إحدى عشرة سورة ؛ وفي سورة الزخرف أن القرآن عربى ليتعقّله أهل العربية ، وهو كتاب مصون في أم الكتاب - أي في اللوح المحفوظ ، وهو كتاب علىّ حكيم ، أي عظيم القدر لما فيه من الحكمة البالغة ، ولإحكامه ، فلا يوجد فيه اختلاف ولا تناقض ، كقوله :إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ( 77 ) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ( 78 ) ( الواقعة ) ، وقوله :بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ( 21 ) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ( 22 ) ( البروج ) ،
فهل هذا أفضل ، أم كان العرب يتركون دون ذكر ، ويضرب عن تذكيرهم صفحا ، ويسقطهم اللّه من حسابه ، فلا يعظهم بأي كتاب ، لأنهم أسرفوا في التكذيب والعصيان ؟

بل الأفضل أن يوعظوا ، ولو أن هذا القرآن ردّ لهلكوا ، ولكنه برحمته تعالى ظل يكرره عليهم مدة عشرين سنة ، ليهتدى به من يهتدى ، وتقوم به الحجة على من كتبت عليهم الشقاوة .
ويقول اللّه تعالى للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، تسلية له : ما أكثر من أرسلوا من الأنبياء ، وما أكثر ما كذّبوا واستهزئ بهم ، وما كانت دعوتهم إلا إلى اللّه ، ولو سئلوا : من خالق السماوات والأرض لقالوا اللّه ، ولأقرّوا له بالإيجاد ، ولكنهم عندما عبدوا توجّهوا لغيره ، جهلا وسفها . وقدّم تعالى الدليل على صدق البعث ، فضرب المثل بالمطر ينزل على المكان الجدب فتنمو به النباتات فيضج بالحياة ، فكذلك النشور . ومع ذلك كفروا باللّه ، وجعلوا مما خلق أولادا له ، فقالوا : الملائكة بنات اللّه ، فما أشدّ كفر الإنسان ؟ !
وما أشدّ جهله حين يخص اللّه بالبنات ويجعل لنفسه البنين ؟ ! مع أنه إذا بشّر بالأنثى اسودّ وجهه ، وكظم غيظه وغضبه ، وليس البنات كالبنين ، لأن البنت تربّى في الحلية - أي الزينة - ولا تقوى على الجدل إذا قامت تدافع عن نفسها بالكلام ، والمعنى أن الأنثى ضعيفة لا تقوى على الانتصار لنفسها .
وادّعوا أنهم ما عبدوا الملائكة إلا لأن اللّه شاء لهم ذلك ، فكيف يشاء أن تعبد الأصنام أو الملائكة ؟ وما تكلموا الحق وإنما يخرصون ويكذبون . وادّعوا أنهم ما عبدوا إلا ما عبده آباؤهم ، وهذه حجة المترفين في كل زمان ومكان : أنهم على ما كان عليه آباؤهم ، فهل لو جئ لهم بأهدى مما كان عليه آباؤهم ، هل كانوا سينبذونه ويرفضونه ؟
ومثل هؤلاء كمثل قوم إبراهيم ، وكانوا يعبدون الأصنام ، فما صنع إبراهيم صنيعهم ، ولا قلّدهم ، وإنما تبرّأ مما عبدوا ، وأعلن أن اللّه إلهه ، وهو الذي فطره ، وجعل كلمة « لا إله إلا اللّه » هي الكلمة الباقية في ذريته .
وما كانت قريش ببعيدة عن ملّة إبراهيم ، وملل كل الأنبياء ، ولا جهلوا ما فعله بهم أقوامهم ، وقالت قريش لنبيّهم صلى اللّه عليه وسلم مثلما قال هؤلاء لأنبيائهم ، ورفضوا أن يتركوا عبادة الأوثان ، ووصفوا القرآن بأنه سحر ، وادّعوا أن النبىّ مسحور ، فلو لا نزّل هذا القرآن على رجل عظيم من مكة أو الطائف ، بدلا من أن ينزل على محمد هذا المغمور ؟ وسبحان اللّه ! ؟
فهل أصبحت لهم الهيمنة حتى راحوا يوزّعون رحمة اللّه ، فيجعلون النبوة لهذا ويحجبونها عن ذاك ؟ !
وإنما اللّه هو الذي له هذا الحق ، وهذه القدرة ، وهو الذي يرفع الناس درجات ليستعمل بعضهم بعضا ، ومن ينكر اللّه ويجحد الحقّ ، يجعل له الشيطان قرينا ، يصدّه عن السبيل ، ويزيّن له عمله ، ويحسب الذين صدّوا أنهم مهتدون ، فإذا كان يوم القيامة تمنّوا لو كان بينهم وبين القرين بعد ما بين المشرقين .
ومثل ذلك كان مع موسى ، فلما أرسل إلى فرعون ضحك فرعون من آياته ، فأنزل اللّه به العذاب ، فجأر يستصرخ موسى ويقول : يا أيها الساحر ، بما لك عند ربّك من عهد السحر ، ادعه أن يرفع عنا العذاب فنهتدى !
فلما رفع عنهم العذاب ما صدّقوا ، وكانوا كاذبين ، وقال فرعون : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى ، وأنا أفضل من موسى هذا الزرىّ في ثيابه ؟
فلو لا أن يبرهن لنا على صدقه ويهدينا أسورة من ذهب ، أو يستصحب معه بعض الملائكة ؟ !
واستخفّ فرعون قومه فأطاعوه على الكفر ، فانتقم اللّه منهم وأغرقهم أجمعين . ومريم أم عيسى ضربت مثلا آخر ، وابنها علم للساعة ، أي علامة على قربها ، لأن إحياءه للموتى دليل على الساعة وبعث الموتى ، أو أن نبيّنا لعلم للساعة ،
بدليل قوله : « بعثت أنا والساعة كهاتين » وضمّ السبابة والوسطى وما دعاهم عيسى إلا إلى اللّه ، واختلف الناس عليه ، والويل للذين كذّبوا وافتروا عليه ما لم يقله ، وأما المؤمنون فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ولأنهم كانوا مسلمين أدخلوا الجنة ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، بينما الذين كفروا ينادون على مالك - خازن النار ، أن يميتهم ليستريحوا من العذاب ! .
ولقد جاءهم اللّه بالحق فكرهوه وعزفوا عنه ، وأبرموا أمرهم ضد الدعوة ، واللّه يسمع سرّهم ونجواهم .
وفي دعوى النصارى أمر نبيّنا صلى اللّه عليه وسلم أن يقول : لو كان للرحمن ولد لكان هو - محمد - أول العابدين له ، فسبحان ربّ العرش عمّا يصفون ، لا ولد له ولا صاحبة !
ثم يقول ربّنا معرّفا بنفسه : وهو في السماء إله ، وفي الأرض إله ، ويعبدونه في السماء وفي الأرض - وهو الحكيم في تدبيره ، والعليم بخلقه ، تبارك اللّه الخالق المالك المتصرف ، وعنده علم الساعة ، وإليه يرجع الأمر كله ، ومن يدعون من دونه لا شفاعة لهم عنده إلا من شهد بالحق . ويوم القيامة لئن سئل هؤلاء الذين ينكرون اللّه : من خلق ما يعبدون ؟
لقالوا : اللّه ! فلما ذا كان إذن عزوفهم عن عبادته تعالى والإقرار بألوهيته ؟
وتختتم السورة الكريمة بشكوى الرسول صلى اللّه عليه وسلم لربّه ، يقول : يا ربّ ، هؤلاء قوم لا يؤمنون - يقصد أهل مكة . ويعاندون ويتجبّرون !
فيقول له ربّ العالمين :
اعرض عنهم يا محمد وقل سلام - أي اصفح عنهم واتركهم لحال سبيلهم حتى القيامة ، فحينئذ سيعلمون . قيل هذا الكلام في الصفح نسخته آية السيف وهو غير صحيح ، فكلاهما عن شئ مختلف ، والآية مع ذلك فيها وعيد وتهديد ، مثلما فيها تسلية لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ، والحمد للّه ربّ العالمين .
  * * *

625 . سورة الدخان

سورة مكّية ، وموضوعاتها لذلك هي الموضوعات المكّية ، ومنها : نزول القرآن من عنده تعالى على النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، وأن اللّه تعالى إله واحد ، وأن محمدا صلى اللّه عليه وسلم رسوله إلى الناس ، وأن الآخرة حقّ ، وما فيها من بعث وثواب وعقاب وجنة ونار حقّ ؛ واختير للسورة اسم « الدخان » لأن الدخان من أهم وأبرز علامات أو أشراط الساعة :فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ( 10 ) .
والسورة نزلت بعد سورة الزخرف ، وآياتها تسع وخمسون آية ، وترتيبها في المصحف الرابعة والأربعون ، وفي التنزيل الرابعة والستون . وهي خامسة السور السبع التي تبدأ بالحرفين المقطّعين حم ، وهي على الترتيب : غافر ، وفصّلت ، والشورى ، والزخرف ، ثم الدخان ، فالجاثية ، فالأحقاف ؛ وتبدأ بالقسم بالكتاب المبين وهو القرآن ، وليس كتاب أبين منه وأفصح في معانيه ، وفي دعوته وأغراضه وألفاظه ، وتؤرّخ السورة لنزول القرآن في « الليلة المباركة » ، « ليلة القدر » ، سلام هي حتى مطلع الفجر ،
واسمها أيضا « ليلة البراءة » ، أي البراءة أو الإبراء من الذنوب ، والبراءة أيضا صكّ التثبّت بنزول القرآن بالأوامر والنواهي والأحكام إلخ ، وتسمى هذه الليلة أيضا لذلك « ليلة الصّك » ، والصّك هو الكتاب ، أي القرآن في تنزّله ، وبسبب القرآن كانت هذه الليلة خيرا من ألف شهر : تتنزّل الملائكة فيها ، بإذنه تعالى من كل أمر ، وفيها يفرق كل أمر حكيم ، ويقضى بالأرزاق ، وبالموت والحياة ، وبكل شئ بدءا من هذه الليلة إلى الليلة مثلها من قابل ، وكان نزول القرآن في شهر رمضان :شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ( البقرة 185 ) ،
وإذن فليلة القدر من ليالي شهر رمضان ، وكان الليل ميقات القرآن ، فمن قال أنها ليلة النصف من شعبان فقد كذب . وفي ليلة القدر أنزل القرآن كله من أمّ الكتاب إلى بيت العزة في سماء الدنيا ، ثم تنزّل على النبىّ صلى اللّه عليه وسلم في سائر الأيام والليالي ، نجما نجما ، بحسب اتفاق الأسباب ، في ثلاث وعشرين سنة .
وفي السورة أن كل من يؤمن بالقرآن ، يؤمن باللّه ، وأنه تعالى ربّ السماوات والأرض ، وربّ العالمين ، أي ربّ كل شئ وهو الذي لا إله إلا هو ، يحيى ويميت ، ومن يكفر به فذلك موعده الآخرة يوم العذاب الأليم ، ويوم تمتلئ السماء بالدخان ، ويغطى الأرض ، فلا يكاد يتنفّس الناس ، ويألمون أشد الألم ،
وتسمّى السورة يوم القيامة : « يوم البطشة الكبرى » ، ومعنى أنها الكبرى : أن الدنيا فيها بطشات صغرى ، أي نكبات وعذابات ، وبطشة يوم القيامة أو عذاب هذا اليوم - هي أكبر البطشات ، ويوم القيامة إذن هو يوم العذاب الأكبر ، وفيه وعده تعالى :إِنَّا مُنْتَقِمُونَ( 16 ) ،
والانتقام عقاب ، والنقمة من الانتقام ، والفرق بين النقمة والعقاب ، أن العقاب بعد المعصية ، لأنه من العاقبة ، أي يعقبها ، والنقمة قد تكون قبلها أو بعدها ، ولأنها البطشة الكبرى فهي العقاب النهائي أو الختامى ، ولو قال تعالى أنها العقاب ، فإن العقاب يقدّر ، وأما الانتقام فهو غير مقدّر ، رحمنا اللّه . وفي ذلك اليوم يصرخ الكافرون ويجأرون ويسترحمون ، وأنّى لهم من يرحمهم ؟ والرسول صلى اللّه عليه وسلم قد جاءهم في الدنيا بكل بيان ، واسمه « المبيّن » لأنه صلى اللّه عليه وسلم بيّن وشرح وفسّر ، وأنذر وبشّر ، ووعد وأوعد ، فلم يتّعظوا ، بل تولوا وقالوا ساخرين « معلّم مجنون » !
أي أنه يريد أن يقف منهم موقف المعلّم ، ولكنه لا يعلمهم في الحقيقة شيئا لأنه مجنون ، أي فاقد العقل . وتتوجه السورة بهذا الكلام لكفّار مكة ، وتنذرهم بقوله تعالى :إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ( 15 ) ،
فهم في عذاب الكفر ، ويكشفه اللّه قليلا طالما هم في الدنيا ، ويمتّعهم قليلا ، ثم يكون العذاب الأكبر يوم الساعة ، يوم يعودون إليه ، ويبعثون بعد الموت . وتضرب السورة ثلاثة أمثال لأقوام من الماضي ، لعل كفار قريش يتّعظون ، وفي القصص مع الكفر تسلية للرسول صلى اللّه عليه وسلم وللمؤمنين ، ورفع لروحهم المعنوية .
وكانت أولى القصص عن قوم فرعون وبني إسرائيل ، وفيها منى فرعون بالهزيمة ، ونجا بنو إسرائيل ؛ والقصة الأخرى مع الإيمان ،
وهي القصة الثانية : وهي قصة عناد وكفر أهل مكة لمّا أنكروا البعث ، كقوله تعالى :إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ ( 34 ) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ( 35 ) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ( 36 ) ؛
والقصة الثالثة : هي قصة قوم تبّع والذين من قبلهم ، ذكرتها السورة عرضا ، وأطلقت على المنكرين أنهم كانوا مجرمين . وقصة فرعون وبني إسرائيل هي القصة الرئيسية ، ورسالة موسى إلى فرعون أن يؤدّى إليه بني إسرائيل ، وسمّاهم عباد اللّه ، وسمّى نفسه الرسول الأمين ، ووصف سلطانه من اللّه بأنه مبين ، ووعظ فرعون أن لا يعلو على اللّه وحذّره من الاستكبار ، وغلا فرعون وقضى في موسى بالقتل ، فاستعاذ باللّه أن يرجموه ، وأنذرهم  أن يتنحّوا عنه ويعتزلوه ومن معه ، وأسرى ببنى إسرائيل ليلا ، وتبعهم فرعون وجنوده فكانوا من المغرقين ، والقصة تروى بأسلوب موجز ، ولمساته سريعة ، وبأقوى العبارات تأثيرا ، وأشد الألفاظ تلوينا ، كقوله :وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ( 24 ) ،
والرهو هو المنفرج ، والعبارة حافلة بالصور رغم قلة كلماتها ؛ وقوله :كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( 25 ) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ ( 26 ) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ( 27 ) ، وهو أسلوب تحسّر ؛ وقوله « كم فيه » للتكثير ؛
والمقام الكريم : هي المجالس والقصور ؛ وقوله :فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ( 29 ) ، هو قمة في التمثيل والتخييل ، ومبالغة في وجوب الجزع ، والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ، ولم يحزن عليهم أحد ، وهكذا حال المستقويين ، فلما ذا تفتقدهم الأرض وكانوا فيها مجرمين ومخرّبين ؟
وإنما تبكى الأرض على من يعمّرها ، ويطهّرها بالسجود إلى اللّه وتكبيره ، وكل عبد مؤمن له من الأرض مصلّى ، وله مصعد عمل من السماء ، يبكيان عليه إذا مات وافتقدا صلاته وأعماله الصالحات ، وفي الحديث : « وما مات مؤمن في غربة ، غائبا عن بواكيه ( الذين يبكون عليه ) ، إلا بكت عليه السماء والأرض ، ألا إنهما لا يبكيان على الكافر » .
ولقد صدق على قوم فرعون ثم أهل مكة من بعد ذلك قوله تعالى :إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ( 15 ) ،
وأهل مكة نزل بهم عذاب كعذاب الدخان ، وكان أحرى بهم أن يذكّرهم بعذاب قوم فرعون ، واللّه تعالى لمّا اختار هؤلاء وهؤلاء للرسالة ، اختارهم على علم على العالمين ، وعلمه تعالى أنهم سيعودون إلى الكفر رغم كل ما تنزّل من الآيات تقسرهم على الإيمان ، وأنكروا الآخرة والبعث ، وقالوا أنه لا موتة إلا الموتة الأولى ، وأنه لا حياة خارج هذا الزمان ، ولا بعث ولا نشور ، وكانوا أصحاب هذه الدعوة في الفكر العالمي المعاصر ، سواء عن طريق ماركس والمذهب المادي ، أو عن طريق الوجوديين أمثال هيدجر ، وعبد الرحمن بدوي في كتابه الزمان الوجودي ، أو عن طريق العلوم والبحوث النفسية بنظريات فرويد والتحليليين ، أو بدعوات العولمة التي يتزعمونها اليوم ؛ وكفّار قريش كانوا مثلهم ، وتحدّوا النبىّ صلى اللّه عليه وسلم أن يأتيهم بآبائهم طالما أنهم أحياء عند ربّهم !
وهذا المنطق عند اليهود ومفكريهم ، أو عند كفّار قريش ، أو عند الدهريين من أصحاب الفلسفات المادية - وكلهم من اليهود - تردّ عليه سورة الدخان ، وتنفى أن يكون الخلق بلا غاية ولا هدف ، وأن يكون عبثا وخلقا عشوائيا ، وأن يكون العيش في الدنيا اتفاقا ، كقوله تعالى :وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ( 38 ) ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ( 39 ) ،
والمذهب الغائى هو دعوة القرآن ، والغائية يأنف منها اليهود ومن يذهبون مذهبهم ، وكان هايدجر والوجوديون لا غائيين ، وأعلن الدكتور عبد الرحمن بدوي أنه ضد الغائية ، وضد البرهان الغائى في إثبات وجود اللّه ، وينذر اللّه تعالى اليهود وأتباعهم وأضرابهم بيوم الفصل ، أي اليوم الذي يفصل فيه في كل هذه القضايا الفكرية الإيمانية ، يوم لا يغنى صاحب عن صاحبه شيئا ، إلا من رحم اللّه ، ومن رحمهم هم المؤمنون ، تشفع لهم أعمالهم عند ربّهم .

وأما الكافرون ، فإن كفرهم صنو الكبرياء والاستعلاء والاستقواء ، ويوم القيامة يصبّ العذاب فوق رأس الكافر ويقال له استهزاء : ذق ، إنك أنت العزيز الكريم !
وهذا جزاؤهم ، لأنهم كانوا ممترين ، يعنى شاكّين ، وهكذا كان قوم فرعون ، وأهل مكة الأولون .
وأما المتّقون - وهم الصنف الثاني الذي ينقسم إليه الناس يوم القيامة - فهؤلاء مكانهم الجنة ، سمّاها المقام الأمين - أي المأمون ، ومن قبل سمّى قرى وديار مصر المقام الكريم ، لقوله في العذاب مرة أنه العذاب الأليم ، جعله أليما يوم القيامة ، ثم يصبح العذاب المهين بعد الحساب ، ثم يتحوّل إلى عذاب الحميم - وهو نوعية خاصة من العذاب بالماء المغلى يصبّ فوق الرؤوس .
وعذاب « المستكبر العزيز الكريم » أنكى العذاب ، وطعامه من شجرة الزقوم ، تزقم الأنوف والأفواه بطعامها المنتن المرّ ، وهو « طعام الأثيم » ، والأثيم صفة مبالغة ، وهو المشرك الكثير الآثام .
وشجرة الزقوم من أشجار الجحيم ، وتنبّت في أصلها - أي أصل الجحيم ، كأنها رأس شيطان ، ويقال للزبانية اعتلوا هذا الأثيم إلى سواء الجحيم ، أي وسط الجحيم - وهو الأشد عذابا ،
وعلى عكس ذلك المتقون : فعيشهم في جنات وعيون ، ولباسهم السندس والإستبرق وهما الحرير الرقيق والسميك ، وطعامهم من كل فاكهة ، يدعون إليه آمنين ، ولا موت في الجنة ولا جحيم ، فضلا من اللّه ، وذلك هو الفوز العظيم .
وتختتم السورة بالعودة إلى القرآن كما بدأت بالقرآن ، وهو الكتاب العربيّ ، سهّله اللّه بلغة العرب ويخاطب به النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، لعل كفّار قريش يفهمون ويعون عظاته ودروسه ، فارتقب يا محمد إنهم مرتقبون - يعنى انتظر عليهم وانظرهم حتى حين ؛ وفي الآية وعد للرسول ، ووعيد للكافرين .
وفي السورة الكثير من المصطلحات والعبارات البليغة والمبينة : فالسّير الذي ساره موسى ليلا ، هو سير الخائف الحذر يريد الاستتار بالظلام ، وسير الذي يريد اتقاء الحرّ والعطش ، وكان النبىّ صلى اللّه عليه وسلم يسرى ويدلج ( أي يسير أول الليل ) ويترفق ويستعجل ، بحسب الحاجة والمصلحة ؛ والحور : جمع حوراء وهي البيضاء ؛ والعين : جمع عيناء وهي الواسعة العينين . والحمد للّه ربّ العالمين .

  * * *
عبدالله المسافربالله
عبدالله المسافربالله
مـديــر منتدى الشريف المحـسي
مـديــر منتدى الشريف المحـسي

عدد الرسائل : 6813
الموقع : https://almossafer1.blogspot.com/
تاريخ التسجيل : 29/09/2007

https://almossafer1.blogspot.com/

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني :: تعاليق

عبدالله المسافربالله

مُساهمة الأحد 15 أكتوبر 2023 - 10:58 من طرف عبدالله المسافربالله

الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني

626 . سورة الجاثية

سورة مكية ، وقيل إلا الآية :قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ عمر بن الخطاب لمّا كان في مكة ، فهمّ أن يبطش به ، قيل فنزلت الآية تحضّ على أن يغفر المؤمنون للذين لا يعتقدون في الثواب والعقاب والبعث والحساب .
« وأيام اللّه » : هي وقائعه بأعدائه ؛ وقوله « لا يرجون أيام اللّه » : أي لا يأملون أن ينالهم منها عذاب ، لدعواهم بأنهم إن ماتوا فقد انتهى الأمر ، وهي الموتة الأبدية ، ولا نشور بعدها ولا رجوع ، فمثلهم يغفر لهم في الدنيا ويكفيهم عذاب اللّه على كفرهم ، وهل هناك عذاب أكبر من عذاب الكفر ؟

فلا قيمة لأية إساءة أقل من الكفر ، لأن الكفر يعلو ويعظم على كل إساءة .
والسؤال : 
فلما ذا تنزل هذه الآية في المدينة عن حادث وقع في مكة وطال عليه الأمد - فسورة الجاثية كانت السورة الخامسة والستين في التنزيل المكّى ، وبين زمانها وزمان المدينة وقت طويل ؟
وقيل : إنها نزلت في عمر مع عبد اللّه بن أبىّ في غزوة بنى المصطلق ، فإن المسلمين لمّا نزلوا على بئر يقال لها المريسيع ، أرسل عبد اللّه غلامه ليستقى ، فأبطأ عليه ، وادّعى أن خادما لعمر بن الخطاب قعد على البئر يستقى حتى ملأ قرب النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، وقرب أبى بكر وعمر ، فقال عبد اللّه : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سمّن كلبك يأكلك ! !
فبلغ عمر ما جرى ، وشتيمة عبد اللّه له ، فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه ليقتله ، فأنزل اللّه الآية .
واعتراضنا على هذا السبب أيضا هو نفس الاعتراض السابق ، وليس معنى كلام عبد اللّه في عمر وغلامه ، أنه لا يرجو أيام اللّه ، ولا صلة بين واقعة غلام عبد اللّه وغلام عمر وبين مضمون الآية ، والصحيح أن معنى الآية منسجم مع معنى السورة كلها ، وأن الآية مما نزل بمكة ضمن السورة ، وأنها ليست ضد اليهود ، ولا ضد المنافقين وهم الذين كانت الشكوى منهم في المدينة ، وإنما هي ضد الكفرة ، وهؤلاء هم الذين لا يرجون أيام اللّه ، أي لا يعتقدون في الآخرة ، ولا يرون أنهم محاسبون ، وليست للّه أيام عندهم ، فأيامهم هي ملك أنفسهم .

وسورة الجاثية - كما يوحى اسمها - عن يوم الحساب أصلا ، وهو اليوم الذي يجثو ، فيه الناس جميعا ينتظرون دورهم في الحساب ، والجثو : هو الجلوس على الركب ، من قولك : جثا على ركبتيه يجثو وفي الحديث أن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم قال : « كأني أراكم بالكوم جاثين دون جهنم » ، والكوم هو ما يشبه التلّ ، وفي قوله تعالى :كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا، « وكتابها » هو كتاب أعمالها في الدنيا لتجزى ما كانوا يعملون .
وسورة الجاثية نزلت بعد سورة الدخان ، وآياتها سبع وثلاثون آية ، وترتيبها في المصحف الخامسة والأربعون ، وهي السادسة من السور السبع التي تبدأ بالحروف المقطّعة حم( 1 ) ، وهي : غافر ، وفصّلت ، والشورى ، والزخرف ، والدخان ثم الجاثية ، وأخيرا الأحقاف ، وتبدأ مثل الأحقاف بقوله تعالى :حم ( 1 ) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ( 2 ) ،
تنوّه بالقرآن أنه من عند اللّه تعالى ، وأنه ينبّه ثلاثة أصناف من الناس إلى آيات اللّه في الكون ، وهؤلاء هم : المؤمنون ، والموقنون ، والعاقلون ؛
فالأولون : تلفتهم إلى آياته في السماوات والأرض ؛
والثانون : تلفتهم إلى آياته في أنفسهم ، وكيف خلقوا ، وفي الكائنات كلها وكيف صنعها وأبدعها ؛
والصنف الثالث : تلفتهم إلى خلقه تعالى للزمان ، وكيف جعل منه الليل والنهار ، وإلى المطر وكيف أنزله من السماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وإلى الرياح وكيف يصرّفها ويغيّرها ويبدّلها ، فلمّا آمنوا به لتفكرهم في آياته في السماء والأرض ، كان تفكّرهم في أنفسهم وفي الكائنات، فأيقنوا بعد الإيمان ، فلما أيقنوا عقلوا ظواهر الكون الأخرى ، وفهموها ، ووعوا الدروس عنها.
وهذه الآيات يتلوها القرآن بالحق ، فبأي حديث بعد القرآن ليقنعهم ليصدّقوا ويؤمنوا ويوقنوا ويعقلوا ؟
وبعد القرآن لا حديث ولا برهان ، وكل من لا يقتنع بالقرآن فهو الأفّاك المنتحل للأعذار ، والأثيم هو المرتكب للإثم أي الذنب الكبير ، ومثله له العذاب الأليم في الآخرة .
ومصيبة هذا الأفاك أنه لا يقنع بالقرآن وكفى ، وإنما هو يستهزئ به ، فيتحول عذابه من العذاب الأليم إلى العذاب المهين
- أي الذي يحط من شأنه ، ويهان به كما أهان القرآن ، وسواء هذا أو ذاك فمن ورائهم جهنم ، لا يغنى عنهم عذابها ما كسبوا من مال ، أو ما كان لهم من خدم وحشم وأتباع وأنصار وأولياء ، ولهم جميعا في جهنم العذاب العظيم ، وهو عظيم لأنه يناسب عظمة إثمهم ، وحجم جرمهم ، وما كان لهم من قوة وسلطان .
وهذا القرآن الذي لم يؤمنوا به ، واستهزءوا به ، هدى ونور ، ونجاة وغوث ، ومن يكفر به وبآياته لهم عذاب رجز أليم ، أي أبشع العذاب ، فهذه أربعة أنواع من العذاب ، لكل منهم شدّته ومناسبته وناسه وجرمه .
وتعود الآيات إلى مشهد آخر من مشاهد تعداد آيات الكون تنبّه إليها آيات الكتاب ، فالبحر تجرى فيه الفلك بأمره تعالى ، سخّره للناس ، ويأكلون منه لحما طريا ، ويستخرجون حلية لهم من اللآلئ والأصداف لعلهم يشكرون ؛ والسماء سخّرها لهم ، وسخّر ما في الأرض جميعا ، لعلهم يتفكّرون ، وفي قوله :وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( 13 ) إعجاز علمي لا شك فيه ، لم يكن مفهوما قديما كما في هذه الأيام التي فيها الطيران ومحطات الفضاء ، ودراسات النجوم والكواكب والشمس والقمر ، والاستفادة بالفضاء أكبر الفائدة في المواصلات الفضائية واللاسلكية .
والذي خلق ويسّر وسخّر وعلّم وأفاد بكل هذا هو اللّه ، أفبعد ذلك يكفرون ؟
فإن عذّبهم فإنما بما كسبوا ، ومن عمل صالحا فلنفسه ، ومن أساء فعليها .
وتضرب السورة المثل ببنى إسرائيل ، والأمثال في القرآن لتسلية النبىّ صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، يعنى ليقارنوا بين الأحوال في المثل وبين أحوالهم ، وليفهموا الحكمة ، ويعوا الدرس ، وبنو إسرائيل أعطاهم اللّه الكتاب ، وفقّههم فيه ، وآتاهم النبوة فتتابعت النبوة فيهم ، ورزقهم من الطيبات وفضّلهم على العالمين ، فكان منهم ملوك المال في كافة العصور والأمصار ، وكانت لهم شروح وتفاسير على التوراة بيّنت لهم الأمر أكثر وأوضح وذلك بفضل اللّه ، إلا أنهم اختلفوا من بعد كل هذا العلم والفضل ، وظلموا أنفسهم ، وبغوا على بعضهم البعض ، وحرّفوا ، وعدّلوا ، وألّهوا أنفسهم بدلا من اللّه فتعبّدوا شعبهم وتركوا اللّه ، وصاروا فرقا وجماعات ، فاللّه يقضى بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه ، وأعظم ما اختلفوا فيه كان المسيح ، وهو منهم ، وكان من أنبيائهم ، والاختلاف بينهم وبين النصارى ، أن اليهود لا يعترفون بأن عيسى هو المسيح ، ولذلك فهم لا يزالون ينتظرون ظهور المسيح ، وآذوا عيسى وكثيرا غيره من الأنبياء ، منهم من قتلوه ، ومنهم من عذّبوه .
ثم تتطرّق السورة إلى النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، الذي أعلمه اللّه عن كل ذلك ، وزوّده بالمنهج والطريق والشريعة ، وأمره أن يتّبع ما أنزل عليه ولا يتّبع أهواء الذين لا يعلمون ، ولا يسايرهم على ما يريدون ، ولن يغنى رضاهم عنه من اللّه شيئا ، وأهل الظلم أشياع وأتباع ، وأولياء وأنصار ، واللّه مع المتّقين .

وتصف السورة القرآن وآياته بأنها بصائر للناس ، يعنى نور وهدى ورحمة للذين يوقنون ، ولا يستوى المجترحين للسيئات والذين آمنوا وعملوا الصالحات ، سواء في محياهم أو في مماتهم ، وقوله :أَمْ حَسِبَ( 21 ) استفهام يفيد الإنكار ، واللّه تعالى هو الحق ، ولا يخلق إلا الحق ، وما خلق السماوات والأرض والكون بأسره إلا بالحق ، ولذلك فلن تجزى عنده كل نفس إلا بما كسبت ، ولا ظلم عنده ، واللّه لا يهدى الظالمين ، ومن لا يهديه اللّه فلا هادي له ، والذي اتخذ إلهه هواه ، وعبد ما ترتاح إليه نفسه ، واتخذ ديانة لا تكاليف فيها ، وإلها لا يعاقبه على شئ ، واستمر في غيّه رغم أنه يعلم أنه على الباطل ، فهذا الذي ختم اللّه على سمعه وأزاغ قلبه ، وأغشى بصره ، فلا يسمع ولا يدرك ، ولا يعقل ، ولا يرى ، ولا يبصر ، أفمثله يهتدى ؟ !
وقوله تعالى :أَ فَلا تَذَكَّرُونَ( 23 ) سؤال فيه العقاب الكثير والتوبيخ .
ومثل هذا الذي لا يهتدى تصدق عليه الآية :وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ( 24 ) ،
وهي مقالة الملحدين ومن يقال لهم « الدهريون » :
يدّعون أن اللّه لا يميتهم وإنما يميتهم الدهر ، أي العمر ، والزمن ، والليل والنهار ، وكلامهم بالظن وليس بالعلم ، وحجتهم داحضة لأنهم طلبوا أن يحضر لهم النبىّ صلى اللّه عليه وسلم آباءهم إن كان صادقا ، وكان البعث حقّا !
واللّه يحييهم يوم القيامة ويجمعهم للحساب ، وهو الملك القادر ، ويوم الحساب يخسر هؤلاء المبطلون جميعا ويوقنون الحق ، يوم يحاسبون حسابا عسيرا ، ويرفع كتابهم فيه كل ما عملوا ، والناس إزاء الحساب قسمان أو فئتان : الذين آمنوا وعملوا الصالحات فئة ، وهؤلاء في رحمة اللّه ، وهم الفائزون ؛ والذين كفروا فئة أخرى ، وهؤلاء كان يستكبرون ، وكانوا قوما مجرمين ، أجرموا بإنكارهم للبعث وتشكيكهم في الساعة ، ويوم القيامة تبدو لهم سيئات ما عملوا وقالوا ، ويحيق بهم ما كانوا به يستهزءون ، ولقد استهزءوا بآيات اللّه ، وغرّتهم الحياة الدنيا ،
وفي الآخرة لهم النار لا يخرجون منها ولا هم يسترضون . وتختتم السورة بخير دعاء :فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ ( 36 ) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( 37 ) .

ومن مصطلحات السورة ، قوله تعالى :نَسْتَنْسِخُ( 29 ) ، ومنه الاستنساخCloningالمستخدمة حاليا في علم الجينات وعلم الأجنة ، وهو في الآية بمعنى عمل نسخة أخرى ، فيستنسخ الملائكة أمّ الكتاب ، ليضاهوا ما به ، بعمل ابن آدم في الدنيا ، فيجدونه طبق الأصل لا زيادة فيه ولا نقصان ، وكذلك الاستنساخ الحيواني هو أن تنسخ من الحيوان نسخة مطابقة في الشكل ، والحمد للّه ربّ العالمين .
  * * *

627 . سورة الأحقاف

سورة مكية ، إلا الآية :قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( 10 ) ، والآية :وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ( 15 ) ، والآية :فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ( 35 ) ؛
وآياتها خمس وثلاثون ، وترتيبها في المصحف السادسة والأربعون ، وفي التنزيل السادسة والستون ؛ واسمها « الأحقاف » من قوله تعالى :وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ( 21 ) ، و « أخا عاد » المقصود به النبىّ هود ، وقومه هم « عاد » ، و « الأحقاف » موطنهم ، قيل : الأحقاف جمع حقف وهو الجبل من الرمل ؛ وقيل : كانوا حيا من اليمن ، أهل رمل ، مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشّجر .

والسورة تنقسم سبعة أقسام أو مشاهد تتناول صفات اللّه ، ونزول القرآن ، وأصحاب الجنة منذ أن كانوا في بطون أمهاتهم ، وعلاقاتهم بوالديهم ، ثم قصة الذي قال لوالديه أف ، وأصحاب النار ، وقصة النبىّ هود مع قوم عاد لعل فيها موعظة لأهل مكة ، وقصة الجن مع القرآن ، وبعض البراهين لوجود اللّه وإثبات القدرة المطلقة له ، وتختتم بدعوة النبىّ إلى الصبر كما فعل الرسل من أولى العزم ، وبيان أن السورة بلاغ إلى من يهمه الأمر من الناس أجمعين : أن الهلاك الأبدي هو من نصيب الفاسقين .
والسورة من السور التي تبدأ بالحرفين المقطعينحم( 1 ) ، وهي سبع سور ، وترتيبها بحسب النزول : غافر ، ثم فصلت ، ثم الشورى ، ثم الزخرف ، ثم الدخان ، ثم الجاثية ، ثم الأحقاف .
وهذه الحروف المقطّعة من الإعجاز العلمي للقرآن ، لأن القرآن ليس سوى حروف ، ومنها الكلمات والعبارات التي تؤلّف آياته ، وكأن كتاب اللّه ككتاب الكون يستويان ، فكلاهما من عناصر من خلق اللّه . والسورة تبدأ قوية ، فيها التنبيه للغافل والتحذير للّاهى ، بأن هذا الكون بعظمته لا بد أنه لم يخلق عبثا ، وأنه ينبغي أن تكون له غاية ترسّمها خلقه ، وأن يكون له خالق خلقه بفكرة واحدة ، وأنه لا يمكن إلا أن يكون إلها قادرا عالما وواحدا لا شريك له .
وهذا القرآن الذي يكون به هذا التنبيه والتحذير هو من لدن اللّه ، وليس سحرا كما يقولون ، وليس محمد ساحرا ، وما افتراه محمد من عنده ، ولم يكن بدعا من الرسل ، فهو ليس سوى متبع للوحي ، ودليل صدقه صلى اللّه عليه وسلم يشهد به هذا الشاهد من بني إسرائيل - قيل هو عبد اللّه بن سلام ، فليس القرآن سوى كتاب يصادق على ما سبقه من كتب ، ولقد سبقته التوراة ونزلت إماما يؤتمّ بها ، وكانت رحمة للناس بما طرحت من تشريعات تيسّر حياتهم ، والقرآن مثلها ، فلما ذا الإيمان بالتوراة والتكذيب بالقرآن ؟
ويحفل القرآن بالوصايا كالتوراة ، وكلها خير وحق ، كالوصية بالوالدين ، أن يحسن إليهما الأبناء ، والسبب أنهما عانيا المشقة حتى ربياه ، فالأم حملت وأرضعت ثلاثين شهرا ، قاست فيها الأمرّين ، فلا أقل من أن يمتن الأبناء للأبوين ويحسنان رعايتهما ، وكل من يشتد عوده عليه واجب حيالهما ، فإذا بلغ الأربعين دعا لنفسه أن يقدره اللّه أن يشكره تعالى على نعمه عليه وعلى والديه ، وأن يعمل صالحا يرضاه ، وأن يصلح له في ذريته .

وتحديد سن الأربعين للتوبة والإقرار للّه بالفضل ، والشكر له على نعمه ، والدعاء للوالدين والذرية ، من الإعجاز العلمي النفسي للقرآن ، فحسب علم الفسيولوجيا وعلم النفس التربوي ، وتقسيمات مراحل النمو ومراحل الحياة ، فإن سن الأربعين هي السن الفاصل ، وهي سن النضج العقلي ، كسن النضج البيولوجى في الثانية عشرة عند بداية المراهقة ؛ والإنسان السوىّ ، بتعريف سورة الأحقاف : هو المؤمن المقر باللّه وبوحدانيته ، والمستقيم على الإيمان ، والشاكر للّه ، والممتن لوالديه ، أوصاه اللّه بهما فعمل بالوصية ، فذلك الذي يتقبل منه اللّه عمله بأفضل منه ، ويتجاوز عن سيئاته في أصحاب الجنة ، وهذا وعده تعالى له وهو وعد صدق . وتضرب السورة المثل للعاق لوالديه وهما يدعوانه إلى الإيمان ، بقصة هذا الذي قبّح والديه وقال لهما أفّ لكما ، وهما يستغيثان اللّه منه ويقولان : ويلك ، آمن ، وإلا هلكت !
فيستهزئ بهما ، ويسخّف دعوتهما إلى اللّه ، ويصف حكاياتهما عن القيامة والبعث والمعاد ، بأنها ليست إلا أساطير وخرافات من عصور قديمة .
وقيل : إن عبد الرحمن بن أبي بكر هو المعنىّ بالولد العاق ، ودحضت عائشة هذه الفرية ، وردّتها إلى الذين افتروها من الأمويين والشيعة ، وعبد الرحمن كان صحابيا من كبار الصحابة ، وروى الحديث ، ولا يطعن فيه أنه أسلم متأخرا فلم يكن إلا كآخرين ، ولكنها رغبة البعض من أصحاب المصلحة في الطعن في أبى بكر ، وعائشة من خلال عبد الرحمن ، للتقليل من شأن أبى بكر وعائشة ، وشأن عبد الرحمن ، وكان عبد الرحمن من الرافضين لخلافة يزيد بن معاوية ، وسمّاها قيصرية وهرقلية ، أي وراثة الأبناء للملك عن الآباء ، كما كان الحال مع هؤلاء الملوك الجبابرة من القياصرة ،وليس كما نصّ الإسلام : أن يكون الحكم شورى .

والقصة كما هي في السورة عامة وليست خاصة ، وأمثال هؤلاء من الجاحدين لفضل الآباء ، والمنكرين للّه ولنعمه كثيرون في كل الأمم ، وهم الذين حقّ عليهم قول اللّه بأنهم أهل النار ، وضل سعيهم وخسروا آخرتهم ، وهم مراتب في النار ، مثلما أصحاب الجنة مراتب ، وكلّ بحسب عمله .
وتضرب السورة المثل بقوم عاد الذين أنذرهم نبيّهم هود بالأحقاف : ألا يعبدوا إلا اللّه ، وتحدّوه أن يأتيهم بالعذاب ، وكانوا قوما يجهلون ، فاستعجلوا العذاب ، وأتاهم في السحاب ، رأوه معترض السماء ومتجها إليهم ، واستبشروا به أن يمطرهم ، فخاب أملهم ، وهبت ريح فيها عذاب أليم ، تدمّر كل شئ ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ، وكذلك يجزى اللّه المجرمين .
والقصة لتخويف أهل مكة ، فلقد مكّن اللّه لقوم عاد كما مكّن لأهل مكة فما آمنوا مثلهم وجحدوا آياته . وجحدت قرى كقرى عاد وسبأ وثمود كانت حول مكة ، ودمرت مثلها ، وتكرر بها ما حدث لعاد ، وكانت دلائل وبراهين أخرى لأقوامها ولكنهم كانوا جاهلين ، وأصرّوا على طغيانهم وكفرهم ، فلم تنصرهم آلهتهم لمّا جاءهم العذاب ، فهلّا نصروهم لو كانوا صادقين ؟ !
فذلك إفكهم وما كانوا يفترون . وقصة ثالثة ترويها السورة عن الجن ، وكانوا نفرا من نحو عشرة ، وافوا الرسول عند منصرفه من الطائف ، وكان يصلّى ويتهجّد بالقرآن ، فوقفوا ينصتون مذهولين ، وفي ذلك توبيخ لأهل مكة الذين كانوا بالقرآن يستهزءون ، فلما انتهى الرسول صلى اللّه عليه وسلم من تلاوته آمنوا وانصرفوا إلى قومهم يبلّغون ، وقالوا في القرآن إنه مصدّق لما قبله من التوراة ، ويهدى إلى الحقّ ، واستحثوهم إلى الإيمان ، ورهّبوهم بعد أن رغّبوهم .

وتقيم السورة الدليل على البعث : أن من خلق أول مرة قادر على أن يحيى الموتى ، وتعرض لمشاهد من الآخرة ، يوم يعرض الكافرون على النار ويقال لهم : ما ذا تقولون الآن : أليس هذا بالحق ؟ أكان ما قاله اللّه افتراء ؟ أكان القرآن سحرا ؟ وهل هذه النار سحر أيضا ؟
فيومئذ يقرّون بالحق ، وكأن القرآن يوبّخهم على استهزائهم الذي كان منهم في الدنيا للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم ورسالته . وتختتم السورة بأمره تعالى للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم : أن يصبر كما صبر الرسل من أولى العزم ، ولا يستعجل لقومه العذاب بالدعاء عليهم ، وسيأتيهم في حينه في الآخرة ، ويومها يندمون أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا ساعة .
وهذا القرآن هو بلاغ لكل الناس : 
العابدين والكافرين ، ولينذروا به ، ولن يهلك بسببه إلا الفاسقون الذين خرجوا عن أمر اللّه ، وسبحان اللّه العظيم .
وفي السورة الكثير من المصطلحات وأوجه البيان ، كقوله تعالى في يوم القيامة أنه « الأجل المسمى » ؛
وقوله : « الأثارة من العلم » يعنى ضرب الرمل ، يخطون بالإصبع في الأرض أو الرمل ثم يزجر ، وعرّفوا الأثارة من العلم بأنه الخط الذي كان يخطه « الحازى » ، وهو العرّاف أو الكاهن ، ولم يبق الإسلام مما كان يسمى عند القدماء علوم الغيب - وتسمى حاليا علوم الباراسيكولوجيا - أي علم النفس الغيبي ، ومنها الطّيرة ، والزجر ، والفأل ، والرؤيا ؛ وقوله :إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا( 30 ) ( فصلت ) ،
الاستقامة هي أن لا يلتفتوا إلى إله غيره ، وأن يستقيموا على الطريقة لطاعته ، وعلى أمره ، وعلى شهادة أن لا إله إلا اللّه حتى مماتهم ؛ وقوله :أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها( 20 ) ، أي أضعتموها ،
وهذه الآية من الآيات التي تؤسس للاشتراكية الإسلامية ، وكذلك الآية :وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا( 19 ) ،
وفيها يحكى جابر : أن أهله اشتهوا اللحم ، فاشتراه لهم ، فمر بعمر بن الخطاب ، فسأله : ما هذا يا جابر ؟ فأخبره جابر ، فقال عمر : أو كلما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه ؟ !
أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية :أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا، يقصد عمر أن ينبهه إلى أن العادة قد تتمكّن منه ، فإذا لم يقدر على شراء اللحم يوما تسهل الشبهات في تحصيله ، فيقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراء الهوى ، وانتصار النفس الأمّارة بالسوء ، فأخذ عمر الأمر من أوله ، وحماه من ابتدائه ، فكان من الاشتراكيين المؤسسين لاشتراكية الإسلام - بلغة هذا العصر ، وقانون الاشتراكية عند عمر أخلاقي : فعلى كل امرئ أن يأكل وينفق ما وجد طيبا وزهيدا ، ولا يتكلف الطيب الزهيد ويتخذه عادة ؛ وكان النبىّ صلى اللّه عليه وسلم يشبع إذا وجد ، ويصبر إذا عدم ، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها ، ويشرب العسل إذا اتفق له ، ويأكل اللحم إذا تيسر ، ولا يعتمد أصلا ، ولا يجعله ديدنا . والحمد للّه ربّ العالمين ، أن جعلنا على الإسلام ، وجعل لنا القرآن كتابا .

  * * *

628 . سورة محمد

السورة مدنية ، إلّا الآية الثالثة عشرة التي تقول :وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ( 13 ) ، نزلت في الطريق أثناء الهجرة ، فقد جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينظر إلى البيت الحرام وهو يبكى ، فنزلت عليه الآية . وكان نزول سورة محمد عموما بعد « سورة الحديد » ، وآياتها ثمان وثلاثون آية ، وترتيبها في المصحف السابعة والأربعون ، وفي التنزيل المدني التاسعة ، وفي التنزيل عامة الخامسة والتسعون ، وسمّيت « سورة محمد » لأنها تتناول ما نزّل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما كان ينكره عليه المنكرون ، والسورة بمثابة « إعلان حرب » : على الكافرين ، والمنافقين ، والناكصين عن القتال ، ودعاة المسالمة ، والمهرولين إلى الصلح ، والبخلاء بالمال في سبيل اللّه .
وتبدأ السورة بداية غير معهودة ، فتذكر أول ما تذكر :الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ( 1 ) ،
تندّد بأهل مكة لكفرهم وصدّهم عن دين اللّه ، فلمّا ذكرتهم ذكرت بالمقارنة إليهم الذين آمنوا باللّه وبما أنزّل على محمد ، والناس إزاء الدين فريقان : فريق المؤمنين : وهم أهل الحق ، كفّر اللّه عنهم سيئاتهم ، وأصلح لهم دنياهم وآخرتهم ؛
وفريق الكافرين : وهم أهل الباطل ، واللّه يضرب الأمثال للناس بهؤلاء وهؤلاء .
ومنهج الإسلام مع أهل الكفر إذا وقعت الحرب بين المسلمين والكفّار - وهي واقعة إلى يوم الدين ، لأنهم الذين يوقدونها دائما ، ويزيدون أوراها ، يريدون أن يطفئوا نور اللّه - أن يقاتل المسلمون بشراسة ويثخنوا القتل في الكافرين كلما استطاعوا ، ومن يستسلم من الكافرين أسرا فليشدّ وثاقه حتى لا يفلت ، فإذا وضعت الحرب أوزارها ، فإما يطلق سراح الجرحى والمدنيين ومن لا يحسنون القتال ، وإما يفدون ، والأمر في ذلك موكول بأصحاب القرار السياسي ، وليعلم المسلمون أن الحرب ابتلاء ، وأن اللّه يعدهم أن لا يضل أعمال من يقتل في سبيله ، وسيجزيهم أحسن الجزاء ، ويصلح آخرتهم ، ويدخلهم الجنة ، عرّفها لهم ؛ ثم تخاطب السورة المؤمنين بقصد إثارة حميتهم ورفع معنوياتهم : أنّ شرطه تعالى معهم : أن ينصروه فينصرهم ويثبّت أقدامهم ؛ وأما الذين كفروا فالويل لهم ، ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل اللّه فأحبط أعمالهم .
وتنبّه السورة إلى غرابة كفرهم ، بعد ما يشاهدونه من آثار في الأرض تعلمهم بما كان من أمر من قبلهم من الأمم التي كفرت بربّها ، واللّه حتما ينصر المؤمنين وهو مولاهم ، والكافرون لا مولى لهم ، ويدخل المؤمنين الجنة ، والكافرين النار ، وفي السورة أن علامة الكفر : أن الكافرين مطمئنون بكفرهم ، ويستمتعون بحياتهم ، ويأكلون ويعيشون كالأنعام - أي كالحيوانات ، وتخاطب السورة النبىّ صلى اللّه عليه وسلم وأمّة الإسلام ، تسلّيهم وتطمئنهم ، وتشدّ أزرهم ، فلم تكن مكة أول قرية تخرج نبيّها ، فكم من القرى قبلها كانت أشد قوة من قريته وأهلكها اللّه ، وليس المؤمن كالكافر ، ولا محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كأبى جهل الضال ، وليست الجنة التي وعد المتقون كالنار .
وتتحدث السورة عن فئة ثالثة هي فئة المنافقين ، وعلامة هؤلاء أنهم يستمعون للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، فإذا خرجوا من عنده شككوا الناس فيما قال ، ونقلوا ما قاله لليهود أسيادهم . وتقارن السورة بينهم ، وبين فئة المصدّقين الذين هداهم اللّه . وتكثر هذه المقارنات في سورة محمد ، ثم يكون الاستفهام الإنكارى :فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً . . .( 18 ) ،
يتوعدهم اللّه تعالى بها ولم يستعدوا لها ، فكيف لهم بالنجاة منها ، ومما كانوا يأتون من المنكرات ، عندما تلح عليهم ذكرياتها ؟ ! وفي الآية :فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ( 19 ) ،
الخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، يقول له : فاذكر أن لا إله إلا اللّه كما أعلمك ، وجاء بعدهاوَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ( 19 ) تأمره بالعمل بعد العلم ، واستغفاره صلى اللّه عليه وسلم لذنبه برجاء أن يعصمه من الذنب ، وأن لا يقع منه ذنب ، وأن يثبّته على التوحيد والإخلاص ،
وفي قوله تعالى :وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ( 19 ) : أن يشملهم الاستغفار ، أي يكون استغفارا للأمة كلها ، فأوجبت الآية استغفار الواحد للكل ، واستغفاره صلى اللّه عليه وسلم للجميع ، وهذا تصريح منه تعالى لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم بالشفاعة ، وكان المؤمنون المخلصون يدعون أن ينزّل القرآن على نبيّهم صلى اللّه عليه وسلم دائما تعليما لهم وتطمينا ، وليجدوا فيه الجهاد في سبيل اللّه ، فكلما نزلت سورة تذكّر بالجهاد يتضرر المنافقون ، ويتولّاهم الخوف ، وكان الأولى بهم لو أنهم أطاعوا وقالوا حسنا ، فإذا وقع القتال تقاعسوا وأبدوا الكراهية أن يقاتلوا ، وتعللوا ليقعدوا عنه ، ولو لم يكونوا منافقين لكان بلاؤهم ومصيرهم أفضل ، فكيف لو تولى هؤلاء أمر الحكم في الأمة كما يطمعون ؟
أفلا يفسدون فيها بالمعاصي وبتقطيع الأرحام ؟ ! فلا غرو أن يلعنهم اللّه ويعمى أبصارهم . وإنه لأمر قد يحيّر البعض في طريقة تفكير هؤلاء المنافقين ، فهذا القرآن فيه الهدى ، أفلا يتدبرونه ، أم أن قلوبهم قد سكّرت فلم يعودوا يعقلون ؟ !
ومن أجل أنهم لا يعقلون ارتدّوا على أدبارهم عندما حمى وطبس القتال ، مع أنهم أظهروا الإيمان في بداياتهم ، ولكن الشيطان سوّل لهم الكفر وزيّنه ، ومدّ في آمالهم ؛ فتمادوا في كفرهم وتظاهروا على عداوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى القعود عن الجهاد معه ، واتّبعوا ما أسخط اللّه ، وكرهوا رضوانه ، فكشف أضغانهم وما يضمرون من الحقد ، ولو شاء اللّه لأرى رسوله صلى اللّه عليه وسلم هؤلاء الكفار بأعيانهم ، فلا أقل من أن يعرفهم بسيماهم ، وللنفاق سمات ، وباب سمات المنافقين من أبواب علم النفس الإسلامي ، وأبرز سماتهم لحن القول : وهو أن يتكلموا بشيء ويريدون به شيئا آخر ، والجهاد كتبه اللّه على المؤمنين ، وما جعله إلا ليعلم المجاهدين والصابرين ، ولن يضر اللّه الذين كفروا وصدّوا عن سبيله وشاقّوا الرسول . وتختتم السورة بالدعوة إلى طاعتهما - اللّه ورسوله ، وأن لا يهن المؤمنون ويدعوا إلى السلم ، ويضعفوا عن الجهاد ، والحقّ معهم ، وحجتهم هي الظاهرة ، وهم الغالبون ، ويأتيهم الأمر بالاستمرار في القتال حتى النصر ، وأن لا يبخلوا أن ينفقوا في سبيل اللّه ، ومن يبخل فاللّه غنى حميد ، وهو الغنى والناس هم الفقراء ، وإن يتولوا يستبدل غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم .

ومن المصطلحات في السورة ، قوله تعالى :حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها( 4 ) ، وأوزار الحرب أثقالها ، والمقصود بها السلاح لثقل أحماله ؛ وقوله :وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ( 7 ) .
وتثبيتها أي عدم الفرار من المعركة بتثبيت القلوب بالأمن ، وقوله :فَتَعْساً لَهُمْ( 8 ) كأنه يقول : أتعسهم اللّه ، أي أشقاهم وجعل لهم التعاسة نصيبا في الدنيا والآخر ، والتّعس : هو الانحطاط والعثار ، وأن يخرّ المرء على وجهه ، وهو بخلاف النّكس : وهو أن يخرّ على رأسه . وفي الحديث : « تعس عبد الدينار والدرهم . . . إن أعطى رضى ، وإن لم يعط لم يرض » ؛ وقوله تعالى :مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ . . .( 15 ) ،
يعنى أن هذه الأوصاف للجنة أو للنار هي أوصاف تقريبية وليست حقيقية ، تقرّب صورة الجنة والنار بلغة الناس وفهمهم وخبراتهم ؛ وقوله :ما ذا قالَ آنِفاً( 16 ) طريقة في استهزاء المنافقين بكلام النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ؛ وقوله :الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ( 20 ) هم المنافقون ، شبّه النفاق بالمرض ، وشبّههم بالمرضى ؛ وقوله :فَأَوْلى لَهُمْ( 20 ) تهديد ووعيد ، كما تقول فلسوف ترون ؛ وقوله :وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ( 22 ) ،
والتقطيع تشديد بقطع صلات الرحم . والرحم على وجهين : عامة وخاصة ، فالرحم العامة : هي رحم الدين ، ويجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهل الدين ونصرتهم ، والنصيحة لهم ، وترك مضارتهم ، والعدل بينهم ، والنّصفة في معاملتهم ، والقيام بحقوقهم الواجبة ؛ وأما الرحم الخاصة : فهي رحم القرابة ، فتجب لهم الحقوق بدءا بالأقرب فالأقرب . والرحم عموما ، قربة ، يجب صلتها . وفي الحديث : « لا يدخل الجنة قاطع رحم » ؛ وقوله :لَحْنِ الْقَوْلِ( 30 )
أي فحواه ومعناه ، وفي الحديث : « إنكم تختصمون إلىّ ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض » ، أي أبلغ وأفصح ؛ وقوله :وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ( 35 )
أي لن ينقصكم ، ومنه الموتور الذي قتل له قتل ولم ينصفه القانون من قاتله ، تقول : وتره ، يتره ، وترا ، وترة ، وفي الحديث : « من فاته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » أي ذهب بهما .
والسورة حافلة رغم ذلك بالمصطلحات وأوجه البلاغة والبيان ، والقرآن لا حصر لوجوه الجمال فيه ، ونسأل اللّه العفو إن قصّرنا ، وله الحمد والمنّة .

  * * *

629 . سورة الفتح

السورة مدنية ، وهي تسع وعشرون آية ، نزلت بعد سورة الجمعة ، في الطريق عند الانصراف من الحديبية ، وكان نزولها ليلا في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، وهو على الراحلة ، وسميت بسورة الفتح من استهلالها بقوله تعالى :إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً( 1 ) ، والفتح : هو فتح الحديبية ، وكان صلحا بين الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمشركين .
وعندما يطلق اسم « الفتح » يلتبس بفتح مكة ، ولكن الفتح في السورة كان بيعة الرضوان يوم الحديبية ، وكان المسلمون ألفا وأربعمائة ، والصلح من الفتح وإن كان بغير قتال ، وبه أصاب المسلمون ما لم يتهيأ لهم بغزوة من الغزوات ، فما مضت سنتان إلا والمسلمون قد فتحوا مكة في عشرة آلاف .
وقيل : إن مكة لم تفتح عنوة ، والفتح لا يكون فتحا إلا عنوة ، وإذن فالمقصود ليس فتح مكة ، وأيضا فإنه ليس الحديبية ؛ لأن الحديبية صلح ، والفتح لا يكون صلحا ، وإذن فالمقصود شئ آخر ، قيل هو فتح خيبر .
وقيل إن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم لمّا قرأ على الناس بعد الحديبية سورة الفتح ، قال عمر : أو فتح هو يا رسول اللّه ؟ !
قال : « نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح » ، يقصد الحديبية .

وسورة الفتح ترتيبها في المصحف الثامنة والأربعون ، وفي التنزيل المدني الخامسة والعشرون ، وفي التنزيل عامة الحادية عشرة بعد المائة .
وكان نزول السورة والمسلمون يخالطهم الحزن وتخيّم عليهم الكآبة ، فلم يكونوا يرون هذا الصلح كما كان النبىّ صلى اللّه عليه وسلم يراه ، فقد صدّهم المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وحالوا بينهم وبين العمرة ، وهادنوهم لعشرة أعوام لاحقة ، على أن يرجعوا عامهم هذا ثم يأتون من قابل ، فأجابهم النبىّ صلى اللّه عليه وسلم إلى ذلك على كره من جماعة الصحابة ومنهم عمر . ونحر النبىّ صلى اللّه عليه وسلم هديه حيث أحصر ورجع ، واعتبر ذلك الصلح فتحا باعتبار ما فيه من المصلحة ، وما آلى إليه . وكان قد بعث عثمان بن عفان إلى أهل مكة ليبلغ عنه أشراف قريش أنه ما جاء إلا معتمرا ، وأنه لا ينوى الحرب .
وقبل عثمان اعتذر عمر عن الذهاب للعداوات بين قريش وبينه ، واحتبست قريش عثمان ، وبلغ الرسول صلى اللّه عليه وسلم أنه قتل ، فقال الرسول صلى اللّه عليه وسلم : « لا نبرح حتى نناجز القوم » ، ودعا الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وبايعوه على الموت أو على أن لا يفرّوا ، ولم يتخلف واحد إلا الجد بن قيس .
وقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أنتم خير أهل الأرض اليوم » ، وقال : « لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة » ، ونزل القرآن فيهم :إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً( 10 ) .
والسورة جميعها تتحدث في أمر هذا الصلح الذي كان بداية الفتح الأعظم : فتح مكة ، فكان هذا الفتح غاية التمكين في الجزيرة العربية ، فقد دخل الناس الإسلام بعد ذلك أفواجا ، وأبلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم أحسن البلاء ، فكافأه اللّه تعالى ونزلت عليه الآية :لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ( 2 ) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً( 3 ) ، فعلمنا أن الأنبياء قد تجرى عليهم الصغائر ، وربما كان ما تقدم من ذنبه قد كان في الجاهلية ، وربما كان الذنب يوم بدر أو يوم حنين ، فقد كان يدعو يوم بدر : « اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا » فأوحى إليه : من أين تعلم أنى لو أهلكت هذه العصابة لا « أعبد أبدا » ؟ !
فهذا هو الذنب المتقدم ، وأما المتأخر فيوم حنين ، فلما انهزم المسلمون قال لعمّه العباس ولابن عمه أبي سفيان : ناولانى كفا من حصباء الوادي » ، فناولاه ، فأخذ بيده ورمى به في وجوه المشركين ، وقال : « شاهت الوجوه حم ( حاميم ) ، لا ينصرون » ؛ فانهزم القوم عن آخرهم ، فلم يبق أحد إلا امتلأت عيناه رملا وحصباء ، فقال لأصحابه من بعد : « لو لم أرمهم لم ينهزموا » ، فأنزل اللّه تعالى :وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى( الأنفال 17 ) ، فكان هذا هو الذنب المتأخر .
وذلك إذن ما أنعم به اللّه تعالى على نبيّه في هذه السورة ، فلما ذكر ذلك عنه صلى اللّه عليه وسلم ، أتبعه بما أنعم به على المؤمنين ، فقال :هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( 4 ) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً( 5 ) ، فالمغفرة إذن شملت النبىّ صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين من أهل بيعة الرضوان ، فقد غفر لهم وكفّر عن سيئاتهم . وفي الآيات أن الإيمان يزداد وينقص ، وأن المؤمنين هم جنود اللّه في الأرض .
وقابلت آيات الإحسان للمؤمنين آيات العذاب للمنافقين والمشركين ، ومن هؤلاء كانت منافقات ومشركات ، وعرّفهم - أي المنافقين والمنافقات - بأنهم الظانون باللّه ظن السوء ، وهؤلاء عليهم دائرة السوء : ظنوا أن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه سيلقون حتفهم في هذه الرحلة ، أو سيؤسرون ، فكيف يلقى النبىّ صلى اللّه عليه وسلم حتفه وهو موعود منذ بداية بعثته بأنه شاهد ؟
والشاهد لا بد أن يحضر الحدث منذ البداية حتى الختام ، وهو شاهد يشهد عليهم يوم القيامة ، ومبشّر لمن يطيع ربّه ورسوله ، ونذير لمن يعصاهما ، فأما الطاعة للرسول فتكون بالإيمان بما يبلغهم به ، وتعزيره - أي تعظيمه وتوقيره ، وأن ينصروه وأن يمنعوه ، وفي ذلك طاعة اللّه تعالى .

وليست بيعتهم للرسول إلا لأنهم يبايعون في الحقيقة اللّه ، ولذلك كانت يده تعالى فوق أيديهم : يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء ، ويده في المنة عليهم بالهداية ويده في الهداية فوق أيديهم في الطاعة ، وأما من ينكث ويرجع فإن ضرره على نفسه وليس على اللّه ولا على رسوله .
ومن مصطلحات السورة قوله تعالى :الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ( 11 ) ، وهو ما أطلقه القرآن على أعراب : غفار ، ومزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وأشجع ، والدّيل ، وكانوا يسكنون أرباض المدينة ، وتخلّفوا عن صحبة النبىّ صلى اللّه عليه وسلم بأعذار مختلفة ، فقالوا :شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ( 11 ) ، وردّ اللّه عليهم قال :بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً( 12 ) .
وفي السورة كثير من المسائل من المستقبل وصدقت جميعا ، وهي إعجاز قرآني لا شك فيه ، فالإخبار بالفتح والنصر العزيز ، وبما سيحدث في خيبر والمغانم فيها ؛ واللقاء الموعود مع أولى البأس ، والفتوح الأخرى التي فتحت على المسلمين : كأرض فارس والروم ، جميعه من المستقبل . وسورة الفتح تعطى الكثير من الأمل للمسلمين المؤمنين ، وتطمئنهم إلى ما سيئول إليه أمرهم ، وهي من السور المبشّرات .
وفي السورة الثناء على المقاتل المسلم :وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ( 22 ) ، ولمّا تسللت إليهم جماعة من المشركين قريبا من جبل التنعيم ببطن مكة ، وكانوا نحو ثلاثين ، وربما سبعين أو ثمانين ، يريدون الإيقاع بالمسلمين قبل عقد الصلح ، فطن المسلمون لهم وأخذوهم أسرى ، وكان ذلك أثناء مفاوضات الصلح ، وأعتقهم النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، فهم المسمون « العتقاء » ، ومنهم معاوية وأبوه ، وذلك معنىكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ( 24 ) ،
فلما أمكنه منهم وعده بمزيد النصر ، ليدخل الأنس على الرسول صلى اللّه عليه وسلم وعلى المؤمنين ، فقال :وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً( 25 ) ،
وأخبر أن بمكة مسلمين ومسلمات لم يعلنوا عن إسلامهم ويخفونه ، ولا يعرفونهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين ، ولولا كراهة أن يوقعوا بهم ويقتلوا منهم دون أن يعلموا ، فينالهم من ذلك الإثم والعيب ، لكان إذنه تعالى للمسلمين ولرسوله أن يدخلوا مكة .
ولو تزيّل هؤلاء عن هؤلاء - أي لو تميّزوا وتفرّقوا وانفصل المؤمنون عن الكافرين ، لعذّب اللّه الكافرين ، ووصفهم بأن قلوبهم ملأى بحمية الجاهلية ، وهي من مصطلحات القرآن ، وتعنى أنفة وغطرسة وعصبية الجاهلية ، وعلى نقيض ذلك كان المؤمنون ، فقد أنزل اللّه السكينة عليهم ، وألزمهم كلمة التقوى ، وهي مصطلح قرآني آخر ، قيل : هي كلمة لا إله إلا اللّه ، اختارها لهم وكانوا الأحق بها ، فصدقت رؤيا النبىّ صلى اللّه عليه وسلم وكان قد حدّث بها أصحابه ، فرأى في المنام أنه يدخل مكة وطاف وحلق ، فنزلت الآية :لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً( 27 ) ،
وما كانوا وقتها قد دخلوا مكة ، ولا طافوا ، ولا حلقوا ، فعجبوا للآية ، وقالوا : واللّه ما حلقنا ولا قصّرنا ، ولا رأينا البيت ، فأين هي الرؤيا ؟
ووقع في نفوس البعض شئ من ذلك ، وكان نزول هذه الآية تصديقا للرؤيا وللنبىّ صلى اللّه عليه وسلم . وكان قوله تعالى :هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ( 28 )
من المعجزات ، فبشّرت الآية بأن الإسلام سيعلو على كل الأديان ، فما يزال يظهر عليها كل يوم ، وكان ختام السورة أعظم ختام ، وسمّت السورة النبىّ صلى اللّه عليه وسلم باسمه تكريما وتعظيما ، ونوّهت بأصحابه الأشداء على الكفار والرحماء بينهم ، وزادت تعريفا بهم : أنهم لا يرون إلا راكعين ساجدين يبتغون الفضل من اللّه ، وسيماهم في وجوههم من أثر السجود ، فذلك مثلهم في التوراة ، ومثلهم في الإنجيل : كزرع صحّ فنبتت فروعه ونمت وغلظت ، واستوى على سوقه وفرح به الزارعون ، ورآه الكفار قويا فاغتاظوا ، وهو مثل في غاية البيان ، فالزرع هو الإسلام ، والشطء في الآية هم أصحابه ، كانوا قليلا فكثروا ، وضعفاء فقووا ، وللّه الحمد والمنّة .

ومن أحكام هذه السورة في الجهاد قوله تعالى :لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ( 17 ) فإن تخلّف هؤلاء فلا إثم عليهم .
وفي مناسبة هذه السورة أن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم لمّا عرف أن كفار قريش سيرسلون إليه خمسمائة فارس على رأسهم عكرمة بن أبي جهل ، استدعى خالد بن الوليد وكان في صفوف المسلمين ، وقال له :

« هذا ابن عمك ، أتاك في خمسمائة فارس » ؟ فقال خالد : أنا سيف اللّه وسيف رسوله !
فيومئذ سمّى خالد بن الوليد « سيف اللّه » .

  * * *

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبدالله المسافربالله

مُساهمة الأحد 15 أكتوبر 2023 - 11:14 من طرف عبدالله المسافربالله

الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني

630 . سورة الحجرات

السورة « مدنية » ، نزلت بعد المجادلة ، وآياتها ثماني عشرة ، وترتيبها في المصحف التاسعة والأربعون ، وفي التنزيل المدني العشرون ، وفي التنزيل عامة السادسة بعد المائة ، وموضوعها الأخلاقيات الإسلامية ، ومقصودها التربية ، ويصفها البعض لذلك بأنها سورة الأخلاق ، وكان في العرب جفاء وسوء أدب في مخاطباتهم مع النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، والسورة تنبّه إلى ضرورة مراعاة حسن التوجّه إلى الناس ، وهي نقيصة في الخلق العربي ما تزال محل شكوى ، ومن مساوئ السلوك عندهم تصديقهم لكل ما يقال بلا تمحيص ، ولا مبالاتهم إذا اقتتلت جماعتان أو دولتان من جماعاتهم أو دولهم ، وكان الواجب أن يصلحوا بينهما ، وترسّخ السورة معاني الأخوة في الإسلام ، لقلة معرفة العرب بمضمون أن يكون المسلمون إخوة ، وتعيب عليهم أنهم قوم تكثر بينهم السخرية بعضهم من البعض ، وسخرية نسائهم من بعضهن البعض ، ولمزهم وتنابزهم بالألقاب ، وسوء الظن ، والغيبة ، والتجسّس ، وتعالى بعضهم على بعض ، وتسمى السورة ذلك فسوقا ، وتعرّف الإسلام بأنه الإيمان باللّه ، وجوهر الإيمان التقوى ، ولا فضل لمسلم على مسلم بأصله وفصله ، وجنسه وشعبه وقومه ، إلا بالتقوى ، وإذا كان الإسلام هو النطق بالشهادتين ، وأداء الصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك من وجوه العبادات ، فإن الإيمان باللّه هو التقوى ، وذلك هو الفارق بين الإسلام والإيمان .
وتنسب السورة الإسلام إلى الأعراب وهم الجدد في الإسلام ، ولمّا يدخل الإيمان بعد إلى قلوبهم ، ومظهر هذا الإيمان هو طاعة اللّه ورسوله ، وباطنه أن لا يخالط الشك إيمانك ، وأن تجاهد بالمال والنفيس ، فذلك هو الإيمان الصادق ، وأصحابه هم المؤمنون حقا ، وليس الإيمان هو الإعلان من آن لآخر أننا قد آمنا ، نريد بإعلاننا أن نمنّ على اللّه بإسلامنا ، فاللّه تعالى هو الأولى أن يمن علينا أن هدانا ، وهو العالم بحقيقة إيماننا ، والبصير بما يعمل الناس .

والسورة أصل في وجوب ترك التعرّض لأقوال النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، ووجوب اتباعه والاقتداء به ، بشرط أن لا يعارض ما ينسب إليه من أقوال أو أفعال القرآن ، ولا أن يضاد العقل السليم والعلم الصحيح ، فكل معقول مشروع ، وكل مشروع معقول . ومن مصطلحات السورة : « التقديم بين يدىّ الرسول » .
وهو أن لا يسبقوه بالجواب إذا عرضت مسألة ، ولا يبتدءوا بالأكل إذا حضر الطعام ، ولا يمشوا أمامه إذا ذهبوا معه إلى مكان ، ونهوا أن يقاطعوا كلامه ، وأن يقضوا أو يقطعوا بأمر دونه ، تعظيما له ولرسالته ، وما جاء به ما عند ربّه ، والتقديم بهذا المعنى من مطالب الآداب العامة ، وهو من علم السلوك أو البروتوكول ، وإن كان ضروريا مع الغير فهو أكثر ضرورة مع أنبياء اللّه ، ومع نبيّنا صلى اللّه عليه وسلم خاصة ، ويتمثّل في خفض الصوت فلا يرفعونه على صوته ، ولا يجهروا له بالقول بمخاطبته بيا محمد ، وإنما ينبغي أن يقال له . يا نبىّ اللّه ، ويا رسول اللّه ؛ والجهر بالقول : هو جرأة عليه في الكلام ، وقول ما ينبغي بصوت عال لا أدب فيه ، وكان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ليقتدى بهم الضعفة ويقل احترامهم للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم ؛ والإحباط في السورة :أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ( 2 )
من مصطلحات علم النفس والطب النفسي الإسلاميين ، ومنه الإحباط النفسي : وهو حالة اليأس والقنوط تترتب على إحباط الأعمال أي ذهابها سدّى ؛ وغضّ الصوت : يعنى خفضه ، ويروى أنه لمّا نزل قوله :لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ( 1 ) ،
وقوله :لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ( 2 ) قال له أبو بكر : واللّه لا أرفع صوتي إلا كصوت السرّار - أي كصوت الذي يسرّ لأخيه بشيء ،أو قال : واللّه لا أكلمك بعد هذا إلا كأخى السرّار .
وقيل : إن عمر استفهمه عن كيفية خفض الصوت ، ولما ذا يخفضه ؟
فنزلت :إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ( 3 ) ،
ومعنىامْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي أخلصها للتقوى ، يقال : امتحنت الفضة ، أي اختبرتها حتى خلصت ، وكل شئ نجهده فقد امتحناه ؛ والحجرات في قوله :إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ( 4 ) ،
هي مساكن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ومنازل أزواجه ، ومن هذه الآية كان اشتقاق اسم السورةالْحُجُراتِ، والآية ذمّ لجفاة الأعراب الذين ما كانوا يتأدّبون في ندائهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والحجرات جمع الحجر ، جمع حجرة ، فهي جمع الجمع ، وأكثرهم لا يعقلون : يعنى الغالب عليهم الجهل ؛ والآية :إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ( 6 ) من آيات ما يمكن تسميته بالإعلام الإسلامي ، وفيها تفرقة بين « الإخبار والإعلام والتبيّن » : والأول هو الجهر بالخبر ؛ والثاني هو إخبار به عن قصد ، لضرورة تجدها : أن يعلم بالخبر آخرون ؛ والثالث هو أن تستوثق أو تتثبت من الخبر ، وأنه لم يذع لإعلام يستهدف التمويه أو الوقيعة ؛
والفاسق : هو الكاذب الذي لا يستحى أن يخبر كذبا ، أو الذي يتحرى الفساد بما يتوخى إعلام الآخرين به ، وسمى الخطأ الذي يمكن أن يحدثه الخبر الكاذب والإعلام المغلوط دون قصد « جهالة » ، أي عدم دراية بالحقيقة ،
والكفر والفسوق والعصيان : ثلاثة مصطلحات من المصطلحات التي ينفرد بها القرآن ، والكفر : هو جحد نعم اللّه وإنكار وجوده ، وأصل الكفر أن يستر الشيء ويغطّى ، تقول كفر الشيء بثوبه ، أي غطّاه ؛ وكفر بالخالق أي نفاه وعطّله .
والكفر ضد الإيمان ، وضد الشكر .
والفسوق : هو الخروج عن الطاعة ، مشتق من قولهم فسقت الرّطبة يعنى خرجت من قشرتها؛ وفسقت الفأرة أي خرجت من حجرها؛
والعصيان : هو إتيان المعاصي ؛ والكفر أشد الثلاثة ، ثم الفسوق ، ثم العصيان ؛ والآية : وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما . . .( 9 )
هي أصل الدعوة لتأسيس « محكمة عدل إسلامية » ، مهمتها دعوة المختصمين من المسلمين إلى كتاب اللّه ، فإن بغت إحداهما وتطاولت وأفسدت ، فالمحكمة تدعو المسلمين كجماعة وأمة أن يحاربوا الفئة الباغية ، أي يعادوها بما يسمى « العقوبات الذكية » كالمقاطعة الاقتصادية والثقافية مثلا ، إلى أن تفيء إلى أمر اللّه ، وربما يحتاج الأمر إلى « قوات دولية إسلامية للفصل بين المتحاربين » ، وهو مقتضى الآية .
وفي الآية دليل على وجوب معاداة الفئة الباغية المعلوم بغيها بعد استنفاد كافة الطرق للصلح بين الفئتين ، وردّ الحقوق إلى أصحابها ؛ وفيها أيضا فساد قول من طالب بمنع اشتراك القوات المصرية والسورية في عمليات تحرير الكويت ، احتجاجا بالحديث : « قتال المؤمن كفر » ، وهو كفر حقيقة ولكن في حق الباغي ، والصدّيق قاتل من تمسّك بالإسلام ولكنه منع الزكاة ، واستندت الفرق الإسلامية المتنازعة إلى هذه الآية بدعوى كل منها أن الأخرى هي الباغية ، ومن ذلك الحديث الموضوع : « تقتل عمارا الفئة الباغية » .
وإلى هذه الآية استند علىّ بن أبي طالب في حربه في موقعة الجمل مع جماعة عائشة التي تطالب بالصلح بين المسلمين ، وإليها استند في حربه مع الخوارج ، ومع معاوية ، واستند إليها العلويون في حربهم ضد الأمويين والعباسيين ، و « يزيد » في قتله للحسين ، وهو ما دفع علىّ أن يقول قولته : « إن القرآن حمّال أوجه » ، يعنى أن هؤلاء وأولئك يمكن أن يستند كل منهما إلى القرآن في تعزيز وجهه نظره .
وقتال الفئة الباغية فرض على الكفاية ، وإذا قام به البعض سقط عن الباقين ؛ وقوله تعالى :إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ( 10 ) أصل من أصول الاجتماع الإسلامي ، والمسلم أخو المسلم في الدين والحرمة لا في النسب ، ولهذا قيل : أخوّة الدين أثبت من إخوة النسب .
وفي الحديث : « ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تجسّسوا ، ولا تحسّسوا ، ولا تناجشوا ، وكونوا عباد اللّه إخوانا » أخرجه البخاري . وفيه أيضا :

« المسلم أخو المسلم : لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره » ، وفيه : « كل المسلم على المسلم حرام : دمه ، وماله ، وعرضه » أخرجه مسلم .
وفي تفسير « بغى المسلم على المسلم » ، أن عليا سئل عن قتال « أهل البغى » من أهل الجمل وصفّين : أمشركون هم ؟ قال : لا ، من الشّرك فرّوا .
فقيل له : أمنافقون ؟ قال : لا ، لأن المنافقين لا يذكرون اللّه إلا قليلا . وقيل له : ما حالهم ؟
قال : « إخواننا بغوا علينا » . وهذه العبارة الأخيرة ينبغي أن تكون قاعدة من قواعد التعامل بين المسلمين ، أفرادا ودولا . والسخرية في قوله تعالى :لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ( 11 )
هي الاستهزاء ؛ واللمز : يكون استهزاء باليد أو العين ، أو اللسان ، أو الإشارة ؛ والهمز : لا يكون إلا باللسان ؛ والنّبز : يقال : نبزه ينبزه أي لقّبه ، والمقصود التلقيب بألقاب السوء وليس بالألقاب الحسنة ، ولقب الصدّيق لأبى بكر ما يزال مستعملا لأنه حسن ؛ والظن في الآية :اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ( 12 ) .
هو التهمة ، 
وفي الحديث : « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » ، والظن المنهى عنه هو الظن الكثير ، وبعضه إثم ، ويسمى أيضا « ظن السوء » ؛ وفي زماننا ظن في الناس ما شئت ؛ والتجسّس : طلب الاطلاع على الأسرار ، والبحث عنها ، واتّباع العورات ؛ والتحسّس مثل التجسّس ، وهو تلمّس الأخبار والأشهر التجسّس ؛ والغيبة : أن تذكر الناس بما فيهم من عيوب ، فإن ذكرتهم بما ليس فيهم فهو البهتان ، والآية :أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ( 12 ) مثل ، فيه تشبيه الوقيعة بين الناس بأكل لحومهم .
والغيبة تكون في الدين ، وفي الخلق ، وفي الخلقة ، وفي الحسب ، وليس من ذلك غيبة الفاسق الذي يجهر بفسقه ، ومن يلقى عنه لباس الحياء فلا غيبة له ،
وفي الحديث : « اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس » . وصاحب الهوى لا غيبة له ، والحاكم الجائر .
والنقد الفنى والأدبي ، والتحقيق العلمي ، ليسا غيبة ، والشكوى من ظلم الظالم ليس غيبة ، والتذكير بشحّ الغنى ، وسرقة الرأسمالى لحقوق عماله ، وجور القوانين ومن استنّها ، والطعن في الاستفتاءات الشكلية وفي الانتخابات المزورة ليس غيبة ؛ وقوله تعالى :يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ( 13 )
أصل من أصول علم الاجتماع الإسلامي ، وهي أعظم آية تنهى عن الاستعلاء الطبقي ، والازدراء بالفقراء ، والاستكبار العرقى ، وتردّ كل الشعوب إلى آدم ، فلا يصبح هناك معنى للتفاخر بالأنساب ، ويكون على الناس جميعا أن تعتنى بأوطانها ، والوطنية بخلاف الشعوبية ، لأن الوطنية هي حب الوطن ، وأما الشعوبية فهي نزعة عنصرية تقول بتفوق عنصر ما تفوقا ليس له ما يبرره ، وبدعوى أن الجنس الأبيض مثلا هو سيد الأجناس ، أو أن الجنس الآرى هو أعلى الأجناس ، أو أن الفرس أفضل من العرب ، وأن اليهود شعب اللّه المختار دون سائر الشعوب ، أو أن النصارى هم أولاد اللّه ، أو أن الشعوب السامية هي أرقى الشعوب .
وفي الآية أن أكرم الشعوب عند اللّه أتقاهم ، وأن الأفضلية للتقوى وليس للأعراق ، وفي خطبة النبىّ صلى اللّه عليه وسلم بمنى في أيام التشريق ، قال وهو على البعير : « يا أيها الناس ، ألا أن ربّكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمىّ ، ولا لعجمي على عربىّ ، ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود ، إلا بالتقوى - ألا هل بلّغت ؟

قالوا : نعم . قال : « ليبلّغ الشاهد الغائب » . رواه البيهقي وابن مردويه .
وفي الحديث : « إن اللّه لا ينظر إلى أحسابكم ، ولا إلى أنسابكم ، ولا إلى أجسامكم ، ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، فمن كان له قلب صالح تحنّن اللّه عليه ، وإنما أنتم بنو آدم ، وأحبكم إليه أتقاكم » .
ومن أقوال علىّ بن أبي طالب في ذلك :
الناس من وجهة التمثيل أكفاء * أبوهم آدم والأم حوّاء
نفس لنفس وأرواح مشاكله * وأعظم خلقت فيهم وأعضاء
فإن يكن لهم من أصلهم حسب * يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم * على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه * وللرجال على الأفعال سيماء
وضد كل امرئ ما كان يجهله * والجاهلون لأهل العلم أعداء
وإذا كانت الوطنية أعلى من الشعوبية ، فهي أعلى من العولمة ، ولا تلغيها العولمة ، فحتى أمريكا وفرنسا وبريطانيا ودول أوروبا جميعا وروسيا ، لم تقل دولة منها بإلغاء الوطنية أو القومية في مقابل العولمة ، وهذا هو ما ينصرف إليه معنى الآية ، فاللّه خلقنا شعوبا وقبائل وعائلات وأسر ، وأنسابا وأصهارا ، لنتعارف ونتواصل ، للحكمة التي قدّرها وهو أعلم بها ، فصار حتما أن يكون لكل أحد نسب ، فإذا نفاه أحد عن أحد ، أو سبّه بعائلته أو بوطنه ، استوجب المساءلة وحدّ القذف ، مثلما يفعل الإسرائيليون وهم يتكلمون عن العرب ، فيقولون باشمئزاز وتقزّز « يا عربى » ، وكأن العربية بالعرب سبّة ،
فما لهذا خلق الناس أعراقا ، ولا ليتعالوا على بعضهم البعض ، وإنما خلقوا للتعايش ، والتساكن ، والتعارف ، والتثاقف ، ولتبادل التجارة والفنون والآداب ، وليعتز كل شعب بخصائصه ، ليعرفها عنه الآخرون ويحترموها فيه ، وهكذا في الأديان ، فمع أن معناها ومؤداها جميعا واحد ، إلا أن لكل مجموعة لغوية ديانتها وأنبياءها وكتابها ، والواجب أن نطالع ذلك عنها ونعرف أسبابه ومراميه عندها ، وهو مضمون اصطلاح الحضارة .
والقرآن بدعوته هذه من أعظم الكتب إنسانية وحضارة وتقدّما . ونظرية القرآن التي تطرحها هذه الآية ، وتفسّرها السنّة ، ينفرد بها الإسلام صريحة وواضحة كل الوضوح ، ومثلها « نظرية الوعد » عند اليهود والنصارى ، إلا أن الوعد عند اليهود يقتصر عليهم من اللّه ، بزعم أنه اصطفاهم شعبا مختارا له ، وبدعوى أنهم الصفوة المرشحة لحكم العالم ؛ وأمّا النصارى فقد ادّعوا أنهم أولاد اللّه وأحباؤه ، والصفوة من عباده ، اختصّوه بالعبادة فاختصّهم بالجنّة .
وهؤلاء وهؤلاء في زعمهم قد وعدهم اللّه الخلاص وحدهم ، وزاد اليهود فقالوا أن وعده لهم خالص حتى إن لم يتّقوه ، وهو وعد أبديّ لا ينقض أبدا ( التكوين 13 / 15 - 15 / 7 - 17 / 6 - 7 - 8 ) ، وحفظ العهد عندهم ليس بالتقوى ولكنه بالختان ! !
فهو علامة اللّه يميّزهم بها ! ! وعند النصارى فسّر بولس الموعد أو العهد ، بأنه والإيمان به يجعل النصراني بالتبعية من أبناء اللّه .

والخلاصة : أنه شتّان بين نظرية تخالف الحضارات وتنوّع الأجناس في القرآن وفي التوراة والإنجيل ، وأن رقىّ هذه النظرية في القرآن عنها في الكتابين الآخرين ، لدليل على أن القرآن من لدن اللّه ، وأن محمدا صلى اللّه عليه وسلم هو رسوله ، والحمد للّه أولا وأخيرا على نعمة الإسلام ونعمة القرآن .
  * * *

631 . سورة ق

السورة مكية ، إلا الآية 38 التي تقول :وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ( 38 ) ، فقد نزلت في يهود المدينة ، وكانوا يقولون إن اللّه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ! فجعلوا يوم السبت هو يوم سبوتهم أي راحتهم ، والاعتراض في آية القرآن على استراحة اللّه يوم السبت ، فهل اللّه يتعب حتى يرتاح ؟ ! فنزلت الآية تصحّح ذلك - واللغوب هو التعب والإعياء .
وعدد آيات سورة ق خمس وأربعون آية ، وترتيبها في المصحف الخمسون ، وفي التنزيل الرابعة والثلاثون . وموضوعها كغيرها من السور المكية :

البعث والنشور ، والتوحيد ، والرسالة ، وأصول العقيدة ، وتحفل بالكثير من وجوه البيان والبديع ، وأسلوبها فيه السموق ، ويتميز بموسيقى خاصة ، ولها وقع شديد على الحسّ ، وألفاظها لها رجع رهيب ، والمعاني التي تطرحها تثير الخوف بما فيها من الترهيب ، وتستثير الرجاء بما تسوقه من الترغيب .
والحديث فيها منذ البداية عن الحياة بعد الموت ، والبعث بعد الفناء ، والبعث هو القضية الخلافية الكبرى بين القرآن والكفار ، وأن يكون الرسول إليهم منذر منهم ، فهذا شئ عجيب .
والسورة تستحثهم إلى الإيمان ، وتحاول أن تلفتهم إلى ما في الكون من آيات تثبت أن الذي قدر على أن يخلق كل هذه المخلوقات والكائنات أول مرة ، يقدر على أن يبعثها بعد موات ، ويحيها بعد فناء .
وتضرب السورة المثل بالأمم السابقة الذين كذّبوا الرسل فأخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر ، وتحذّر أهل مكة من نفس المصير ، ومن يوم الحساب العتيد ، فإذا جاء الموت فله سكرات ، وعند الحشر تحدث الأهوال ، فإذا كان الحساب فحدّث كيفما تشاء عمّا يلاقى الناس فيه من شدائد وكوارث ، فإذا كانت الإدانة فالجحيم هو النهاية ، وتستعيد الصورة مشاهد يوم القيامة ، ونداء المنادى ، وصيحة الخروج من القبور ، وتشقّق الأرض عن الموتى ، وتخبر السورة بأن اللّه تعالى يعلم ما يقول الكفّار تكذيبا للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، واستهزاء وتحقيرا بالقرآن ، ويطمئن الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأنه ليس إلا مبشرا ونذيرا ، ولم يبعثه اللّه متسلطا ولا مصيطرا يجبر الناس على الإسلام ، ويغصبهم على الإيمان ، وإنما عمله أن يذكّر بالقرآن من يخاف اللّه ووعيده ، ولا عليه من هداهم .

وقالتي تبدأ بها السورة ، من الحروف المقطّعة التي في بداية بعض سور القرآن ، مثل : ص ، ون ، وألم 2 : 1 ، ونحو ذلك ، وحاول البعض أن يوجد لها معنى ، فقيل إن ق جبل ، واشتهر جبل ق في الأدب الشعبي الإسلامي ، ودارت حوله حكايات .
وقيل ق تعنى قضى الأمر ، مثل حم التي تعنى حم الأمر .
وقيل : ق اسم من أسماء اللّه تعالى أقسم به ، أو أنه اسم من أسماء القرآن ، أو أنه إشارة إلى بعض صفاته تعالى التي تبدأ بالحرف ق مثل قدير ، وقاهر ، وقريب ، وقاض ، وقابض ، وكل ذلك اجتهادات وتخمينات ، والصحيح أنها إشارة إلى حروف الهجاء التي تصنع الكلمات التي كانت منها آيات القرآن ، وهذه الحروف من آيات اللّه ، مثلما العناصر التي خلقت منها الشمس والقمر والنجوم . . . إلخ من آياته الكونية ، وحروف الهجاء هي آياته التي ترمز للقراءة والكتابة ، وهما أعظم آياته للإنسان ، لأنهما أساس اللغات ، وبهما كانت الثقافات ، وصنعت الحضارات .
والقرآن كتاب فيه من كل علم ، ومصنوع من حروف الهجاء ، وهو كتاب للحضارة والرقى والتمدّن . وسورة ق من السور العظيمة في القرآن وتتميز بالعنصر الحضارى اللغوي ، ولذا كان التنبيه لذلك بهذه البداية من حروف الهجاء ، وجاء مباشرة بعد الحرف ق القسم بالقرآن المجيد ، أو أن القسم بهما معا - الحرف ق والقرآن ، لأن الحرف وحدة بناء القرآن الذي هو صرح منيف ، وصفه تعالى بأنه مجيد ، يعنى رفيع القدر .

وجواب القسم : هو مضمون الكلام بعده ، وهو إثبات النبوة للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، وإثبات المعاد .
وفي السورة أنهم يتعجبون مما يقوله النبىّ صلى اللّه عليه وسلم مما لم يعتادوه ، وتنكر السورة تعجّبهم مما ليس بعجب . وفي السورة القصص عن السابقين : أصحاب الرس : أي البئر ؛ وأصحاب الأيكة : أي البستان الكثيف ؛ وقوم تبّع اليماني ، يسلّى بها النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، ويسرّى عنه ، وينذر بها الكفرة .
ومن مصطلحات السورة : « الوسوسة » ، والقرآن يجعلها من أحاديث النفس كما يجيء عنها في علم النفس الغربى ، وهي بمثابة الكلام الخفي ؛ و « المتلقيان عن اليمين وعن الشمال » :
هما الملكان المفوّضان بالإنسان ، أحدهما عن اليمين ويكتب الحسنات ، والآخر عن الشمال ، ويكتب السيئات ؛ و « القرين » : هو الشيطان المقيّض لكل إنسان ؛ و « الرقيب العتيد » : هو المصاحب للإنسان يرقب كل قول منه ، وهو عتيد يعنى متهيأ لعمله ؛ و « يوم الوعيد » :
الذي وعده اللّه للكفّار ؛ و « السائق والشهيد » : فالسائق يسوق النفس ، والشهيد يشهد عليها ؛ وقيل السائق هو الملك ، والشهيد من أعضاء الجسم كالأيدى والأرجل ؛ وقيل السائق والشهيد ملكان ، أحدهما يسوقها ، والآخر يشهد عليها ؛ و « الأوّاب الحفيظ » : هو الرجّاع إلى اللّه عن المعاصي ، فكلما أذنب يرجع عن ذنبه ؛ « والقلب المنيب » : هو المقبل على الطاعة أو المخلص للّه ، وعلامته أن يعرف حرمته تعالى ويواليه ، ويتواضع لجلاله ؛ و « يوم الخلود » : هو يوم أن يخلد المؤمنون في الجنة ، فلا يموتون أبدا ، ولا يظعنون ، ولا يبغون عنها حولا ؛ و « التسبيح » : هو قول : « سبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلىّ العظيم » ، وأوقاته : قبل طلوع الشمس ، وقبل الغروب ، ومن الليل ، وأدبار السجود - يضيف إليها في سورة الذاريات : وإدبار النجوم ، أي عقب الركعتين بعد المغرب ؛ و « الصيحة » : هي صيحة القيامة أو البعث ؛ و « يوم الخروج » : هو يوم الخروج من القبور للحساب .
ومن مأثورات السورة قوله تعالى :وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ( 16 ) ، والوريد هو الوتين بالقلب ، وهذا تمثيل للقرب ؛ وقوله :وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ( 19 ) ،
والسكرة شّدة الموت وغشيته ، وكان الرسول صلى اللّه عليه وسلم في موته يقول : « لا إله إلا اللّه ، إن للموت سكرات » ، ويقال لمن جاءته سكرة الموت ، ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه ؛ وقوله :لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ( 22 ) يعنى كشفنا عنك عماك ، وهو تمثيل يقال للغافل ؛فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ( 22 ) تمثيل يراد به بصر العقل ، فيبصر شواهد الأفكار ونتائج الاعتبار ، أو يراد به بصر العين ، أي صار قويا نافذا ؛ وقوله :يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ( 30 ) تمثيل واستفهام على سبيل التصديق لخبره ، والتحقيق لوعده ، والتقريع لأعدائه ، والتنبيه لعباده ؛ وقوله :هَلْ مِنْ مَحِيصٍ( 36 ) : يعنى هل من مهرب ، تقول : « ما عنه محيص » ، أي ما عنه محيد ومهرب ؛ وقوله :إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى( 37 ) : تذكرة وموعظة .

ومن أخبار خلق السماوات والأرض في هذه السورة قوله :وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ( 38 ) .
ومن براهين وجود اللّه فيها قوله :أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ( 15 ) ، والسؤال للتوبيخ ، والمعنى أنه تعالى لم يدركه الإعياء بالخلق الأول ، فهل يدركه الإعياء بالبعث ؟ يعنى هو القادر على الخلق وعلى البعث ، لأنه الواحد سبحانه مالك السماوات والأرض .

  * * *   

632 . سورة الذاريات

السورة مكية ، وآياتها ستون ، ونزلت بعد الأحقاف ، وترتيبها في المصحف الواحدة والخمسون ، وفي الترتيب السابعة والستون ، واسمها الذاريات من قوله تعالى في مستهلها :وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ( 1 ) فَالْحامِلاتِ وِقْراً ( 2 ) فَالْجارِياتِ يُسْراً ( 3 ) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً( 4 ) يقسم بآية من آياته كالشأن في السور المكية ، وهي هذه المرة الرياح ، لها أحوال أربعة مختلفة ،
وإذا أقسم الربّ بشيء أثبت له شرفا : فالرياح تكون ذاريات : لأنها تذروا الأمطار ذروا . فصارت ذاريات ؛ وتكون حاملات الأوقار ، والمفرد وقر ، يعنى تحمل أنصبة كل بلد أثقالا من الأمطار ؛ وتكون جاريات يسرا : تجرى رخاء ، ويسمونها الرياح التجارية ، لأنها تسيّر المراكب إلى حيث تقصد ؛ وتكون مقسّمات ، فمنها العاصف ، والطيبة ، والقاصف ، والرواكد ، والرخاء ، والممطرة ، والعقيم ، والصرصر العاتية ، واللواقح ، والمبشّرات .

وجواب القسم : أن الذي يعدكم به هذا القرآن من البعث والنشر والحساب والعقاب لأمر واقع . وكما أقسم اللّه تعالى بالريح فإنه يقسم بالسماء ويصفها أروع وصف أنها « ذات الحبك » ، يعنى محبوكة البناء ، متناسقة ، مرفوعة ، متسعة الأرجاء ، أنيقة البهاء ، مكللة بالنجوم الثوابت والسيارات ، موشّحة بالكواكب الزاهرات .
ثم يتوجه بالقسم إلى المنكرين فيقول :إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ( 8 ) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ( 9 ) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ( 10 ) ، يقصد بهم أهل مكة الذين اختلفوا في أمر محمد والقرآن ، وهم بين مصدق ومكذّب ، فمن قائل بأنه ساحر ، أو شاعر ، أو مجنون ، أو كاهن ، أو أن هذا القرآن ليس سوى أساطير الأولين ، أو أنه افتراه ، ومنهم من نفى الحشر ، ومن شكّ فيه ، ولا يؤفك ويصرف عن الإيمان إلا الضالون الغمور المأفونون الذين لا أفهام لهم ، وإنهم لخرّاصون كذّابون ، ساهون غافلون في غمرتهم ولهوهم ، ولقد تساءلوا عجبا واستهزاء عن يوم الدين ، فجزاؤهم جهنم يفتنون عليها ويعذّبون . ثم تتحدث السورة عن المتّقين وهم المؤمنون ، وما أعد لهم في الآخرة من النعيم والكرامة ، لأنهم كانوا في الدنيا محسنين ، فبعد أن ذكر اللّه تعالى الكفار ومآلهم في الجزء السابق ، ذكر المتقين ومآلهم في هذا الجزء ، على طريقة القرآن الجدلية في الترحيب والترغيب ، وإيراد المتقابلات ، لتتضح المقارنة وتقع المفاضلة ويتم الاختيار .
ثم تنتقل السورة إلى ما يقوّى في الناس اختيار الإيمان ، بإيراد الدلائل على وجود اللّه ، وعلى قدرته المطلقة ، كقوله تعالى :وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ( 20 ) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ( 21 ) ، والأرض في مختلف بقاعها حافلة بالآيات والعبر ، وفي خلق الناس من نطفة وعلقة ومضغة ولحم وعظم آيات وآيات ، وفي أرزاق كل إنسان ، وكيف كانت الأرزاق مطرا ، ثم زرعا ، وحصادا وتجارة ، وفي ذلك جميعه براهين على أنه لا خالق ولا رازق ولا عليم ولا حكيم إلا هو . ولقد أقسم تعالى بآياته في السماء والأرض بأن البعث والحساب حق وواقع فقال :مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ( 23 ) ،
خصّ النطق دون سائر الحواس ، لأن الإنسان يكون به إنسانا ، وفي التعريف أن الإنسان حيوان ناطق ، والمعنى أنه حيوان عاقل ، ومن يعقل ، ولا يشكو الأفن ، وليس به الحمق ، فهو الذي يقر بوجود اللّه . ثم يكون دور التسلية للرسول صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين ، بالقصص القرآني ، فيه عظة وعبرة ، وبشارة ونذارة ، ومداره الأمم السابقة ، وكيف انتهى أمرها لمّا كفرت بربّها وأمعنت في غيّها ، فلما أفسدوا خلف عليهم ملوك من طبعهم ، فكانوا طغاة ساموهم العذاب ، وعرضت السورة مشاهد ولقطات من قصص إبراهيم مع ضيفه ، وحديثهم معه عن قوم لوط ، وما فعلوه بهم جزاء جرمهم ، وأطرافا من قصة موسى مع فرعون ، وقصص العقاب لقوم عاد ، وثمود ، ونوح . والقصص القرآني تتناوله مختلف السور ، ولكنه ليس تكرارا ، وإنما من وجوه شتى بحسب الدروس المرتجاة والفوائد المنتقاة . وخلاصتها في جميع السور التنبيه إلى قدرة العلىّ المتعال ،
والآيات عليها أوضح وأجلى ما تكون : إنها السماء التي رفعها بقوة ، وخلق غيرها أكبر وأوسع وأبدع ، وإنه تعالى لموسع ويقدر على كل شئ ؛ والأرض المبسوطة وهو تعالى نعم الماهد ؛ وخلق من كل شئ زوجين ، فلا أقل من أن يدينوا له بالشكر ، وأن يفروا إليه من معاصيهم إلى طاعته ، وأن يوحّدوه ، ويصدّقوا رسالة نبيّه ، ويتوقفوا عن اتهامه مرة بالسحر ومرة بالجنون ، وهو دأبهم مع كل الأنبياء ، فلا لوم ولا تثريب على النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، والقصص يسرّى بها عنه ويسلّى المؤمنين ، وليكمل بها الرسول صلى اللّه عليه وسلم رسالته ، ويذّكّر عن طريقها المتفكّرون ، فالذكرى تنفع المؤمنين .
وتختتم السورة ببيان أنه تعالى لم يخلق الجن والإنس إلا ليعبدوه ، ولكي يعبدوه لا بد أن يعرفوه ، والطريق إلى معرفته بمعرفة أسبابه في الكون ، فكأن غاية المعرفة هي العبادة ، وفقه ذلك أن العلم ما لم يؤد بصاحبه إلى الإيمان فهو علم عقيم .
وما كانت عبادتهم له تعالى من غير معرفة به ، ولا يحتاج لمثلها ، ولكنه يريد الشكر والعرفان من الإنسان والجان على كريم ما أسدى ورزق ، وتنتهى السورة بوعيد للظالمين والكافرين .

والسورة - كما ترى - حافلة ورائعة ، وأفكارها متراتبة ، وتكثر بها المصطلحات القرآنية ، منها : « الخرّاصون » : وهم الكذّابون المرتابون الذين يتخرّصون بما لا يعلمون ، والخرّاصون جمع خارص ، والخرص هو الكذب ، والخرّاص هو الكذّاب . وتقول السورة عن الخراصين :قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ( 10 )
يعنى لعنوا ؛ والمتقون : يأتي في وصفهم أنهم محسنون لا يهجعون إلا القليل من الليل ، ويستغفرون بالأسحار ، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ؛ و « السائل » : هو الذي يسأل الناس النفقة ؛ وقد يسأل في علم ، وعن عمر قال لسائل في العلم : ويلك ، سل تفقها ولا تسأل تعنتا ؛ و « المحروم » : هو الذي حرم المال ، وهو المحارف الذي لا يتيسر له الكسب ، ومعنى محارف المحدود الرزق ، تقول حورف كسب فلان إذا شدّد وضيّق عليه في معاشه .

وفي السورة كثير من الأمثال والصور البلاغية ، كقوله تعالى :إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ( 8 ) ، وهو مثل يقال للمختلفين غير المتفقين في أمر شئ ؛ وقوله :يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ( 9 )
يقال لمن قلّ عقله وكثر حمقه ، فصار لا يصدّق أي شئ ؛ وقوله :وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ( 22 ) ، ونظيره قوله :وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها( هود 6 ) ، يعنى الرزق مكتوب لكل مخلوق ، وهو في السماء يعنى في أم الكتاب ، وما توعدون من الخير والشر ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب ؛ وقوله :هَلْ أَتاكَ( 24 ) من أساليب القرآن التي تتكرر فيه ، كقوله :وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ( ص 21 ) ،وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى( 9 ) ( طه ) ، والسؤال للتشويق والتفخيم ؛ وقوله :فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ( 39 ) أوى إلى من يعاضده وهم جماعته ، كقوله :آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ( 80 ) ( هود ) ؛تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ( 43 ) مثل يقال وعيدا وتحذيرا ؛ وقوله :بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ( 47 )
يقوله الصانع البارع القادر على الكمال ؛ وقوله :وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ( 49 ) فيه إعجاز علمي لأنه قانون الوجود ، سواء في الجماد ، أو النبات ، أو الحيوان ، أو الطير ، أو الإنسان ، أو الهوام والحشرات ، وفي العناصر هناك السالب والموجب كزوجين ، وحتى في الخناث فإن في الكائن الواحد الذكورة والأنوثة حاصلة ، وفي السحاب تكون بعض الأيونات موجبة وبعضها سالبة وهكذا ، فإن الزوجية تبدو في الكون كأساس للخلق والإبداع والاجتماع ؛ والحمد للّه رب العالمين .

  * * *

633 . سورة الطور

السورة مكية ، وآياتها تسع وأربعون آية ، نزلت بعد سورة « السجدة » ، وترتيبها في المصحف الثانية والخمسون ، وفي التنزيل السادسة والسبعون . والطور الذي تبدأ به السورة هو اسم الجبل الذي كلم اللّه عليه موسى ، والمراد به طور سيناء ؛ وليس صحيحا أن اسم « الطور » سريانى ؛ والذين قالوا بذلك نسبوا سيناء إلى الشام وليس إلى مصر ! !
وكان الأقرب أن يقال أن الاسم مصرى قديم ، وقيل إن كلمة « الطور » تعنى الجبل وليست اسما للجبل ، وأنها بهذا المعنى في القرآن في عشر آيات ، وثماني سور ، والذين يقولون إنها ليست كلمة عربية يعتمدون في ذلك على أنها لا تنصرف . وقيل : الفرق بين الطور والجبل : أن الطور به شجر ، والجبل يخلو منه ، اعتمادا على الآية :وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ( المؤمنون 20 ) ؛
والذين قالوا إن الطور كلمة سريانية ، اعتمدوا على أن بمدين جبل يسمى طور زيتا ، ومدين بالشام ، وإذن تكون الكلمة سريانية . والصحيح أن مدين بمصر على ساحل البحر الأحمر وليست بالشام ، وأن قبيلة مدين من القبائل العربية ، وأهلها هو قوم شعيب ، وشعيب نبىّ عربى .
وهذه الأقوال في نسبة الطور وسيناء إلى الشام يراد بها في الحقيقة أنهما من فلسطين ، ويصبحان على ذلك من إسرائيل ، ويحق سلخهما من مصر ، فهل نفهم ذلك ؟

وسورة الطور - ككثير غيرها من السور المكية - تبدأ بالقسم ، وهو في هذه المرة قسم بخمسة أشياء معجزة ، ولها مكانتها عند اللّه تعالى ، وهي : الطور : وشرفه أنه المكان الذي كلم اللّه فيه موسى ؛ والقرآن : لأنه كلام اللّه إلى نبيّه صلى اللّه عليه وسلم ؛ والبيت المعمور : قيل هو بيت في السماء يقابل الكعبة على الأرض ، والصحيح أنه الكعبة ، معمورة بالمصلين والمؤمنين إلى أبد الآبدين ؛ والسقف المرفوع : هو السماء لأنه تعالى قال :وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ( 32 ) ( الأنبياء ) ؛
والبحر المسجور : من قوله تعالى :وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ( 6 ) ( التكوير )
وهو معجزة ، فأن يكون بحرا ومع ذلك تشتعل فيه النيران وتتفجر منه الحمم ، فذلك شئ يومئذ عجيب ! وقيل : الكتاب المقسم به ، والذي صفته أنه مسطور ومنشور في الرقاق ، هو أي كتاب سماوي ، ومعنى أنه مسطور يعنى مكتوبا ، ثم إنه ليس كتابا محفوظا في حرز كأم الكتاب ، وإنما هو منشور يقرأه الناس ، ومسطور على رقاق ، والرقاق من أشياء الدنيا ، ومن ثم فالقسم يكون قسما بكتاب من كتب السماء المنزلة إلى الدنيا ، غير أن هذا القرآن الذي منه هذه السورة المعنية ، مخاطب به أهل الإسلام ، فلا يكون هذا الكتاب إلا القرآن الذي يخصهم ويعنيهم . وجواب القسم :إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ( 7 ) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ( 8 ) ،
وهما آيتان من أشد الآيات وقعا على النفس ، وتصدّعان القلب ، وتسلمان إلى الخوف الشديد ، وفي ذلك يقول جبير بن مطعم : لمّا سمعت النبىّ صلى اللّه عليه وسلم يقرأ « الطور » في صلاة المغرب ، أسلمت خوفا من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب !

وتتناول سورة الطور موعد وأشراط وعلامات الساعة : فذلك يوم تمور السماء مورا : فتضطرب اضطرابا ، ويموج بعضها في بعض كموج البحر ؛ ويوم تسيّر الجبال سيرا كسير السحاب :تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ( النمل 88 ) ، فيومئذ الويل للمكذّبين ، الذين جحدوا الدعوة ، وكذّبوا النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، وكفروا باللّه ، وخاضوا في القرآن يستهزءون بآياته ، فيوم القيامة يصلون الجحيم ، ويذهلون مما يرون ،
وقولهم :أَ فَسِحْرٌ هذا( 15 ) تذكير لهم بما كانوا يتقوّلونه على القرآن ، وعلى النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، فاليوم يقال لهم نفس الشيء :أَ فَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ( 15 ) ، وهي طريقة في الاستفهام ، ومعناه التوبيخ والتقريع ، يوبّخهم على ما كان منهم ، ويتهمهم بأنهم ما كانوا يبصرون ولا يعقلون وهم في الدنيا .
وتقابل السورة بين عذاب هؤلاء المكذّبين وهناء المتّقين ، ومنهج المقابلة هو منهج القرآن ، والمنطق الجدلي هو طريقته في الحوار ، والمؤمنون ، لأنهم آمنوا ، فهم على عكس الذين كذبوا ، في جنات النعيم ، فاكهين ، منعمين ، على السرر متقابلين ، ولهم أزواج من الحور العين ، ويلحق بهم ذريتهم ممن اتبعوهم ؛ وتتعدد مشاهد النعيم الحسيّة والمعنوية من المأكل والمشرب ، والهناءة والسرور والطمأنينة والسكينة ؛ وهم في الجنة يتعبّدون ويذكرون اللّه ويشكرون ، ولا لغو في الجنة ولا تأثيم ، وإنها لحياة تجعلهم في عجب ، فما كانوا يصدّقون وهم في الدنيا ، أن يكونوا في هذا النعيم في الآخرة ، وكانوا يشفقون على أنفسهم من يوم القيامة ، وها هم اليوم قد وقوا عذاب السموم ، أي النار ، واستجاب اللّه لدعواهم ، وكان بهم برا رحيما .
وتخلص السورة من المقارنة إلى أن دور النبىّ صلى اللّه عليه وسلم هو أن يذكّر بالقرآن ، بمثل هذه السور والآيات ، ومنها سورة الطور ، وكان كثيرا ما يصلى بالناس يقرأها عليهم . وتنفى السورة عنه اتهاماتهم له بأنه كاهن يؤلف الكلام تأليفا في الدين والآخرة والحساب ، كشأن الكهّان ، ولا هو مجنون يهذى كشأن المجانين ، ولا هو شاعر يوهم الناس بالكلام والأحلام .
وكانوا يمنون أنفسهم أنه ربما يموت فيريحهم موته ، فقيل لهم انتظروا أن يموت كما تشاءون !
وكانوا يفخرون أنهم من أولى الألباب وأصحاب الأحلام ، فسخرت منهم السورة : أفهذا إذن ما تأمركم به أحلامكم ؟
أم أنتم في حقيقة الأمر لا عقول لكم ولا أحلام ، فطاش صوابكم وطغوتم ؟ أم أنكم تفترون عليه ، وتنسبون له أنه يفتعل هذا القرآن ويتقوّله ؟ وتتحداهم السورة إن كان من الممكن أن يتقوّل الإنسان مثل هذا القرآن ، فليتقوّلوا هم مثله ؟ ! وعدّدت السورة كل أنواع البهتان التي رموا بها النبىّ صلى اللّه عليه وسلم والقرآن ، وما يزال هذا حتى الآن دأب هؤلاء المكذّبين والجاحدين ، وعهدنا قريب بتقوّلات روايات وزارة الثقافة المصرية ، والجامعة الأمريكية في مصر ، عن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، وعن القرآن ، وما زالت وكالات الأنباء تنشر وتذيع تخرّصات علماء البيولوجيا عن الاستنساخ ،
ويأتي الردّ على هؤلاء الأخيرين بالآية :أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ( 35 ) ، فالنعجة دوللى لم يخلقها العلماء من العدم ، ولكنهم صنعوها من المادة التي خلقها اللّه ، وبالقوانين والأسباب التي وضعها اللّه ، ومن إعجاز القرآن العلمي أن يأتي الردّ على هؤلاء في القرن الواحد والعشرين ، وهو أيضا ردّ على من يتقوّل بأن القرآن كتاب لعصره ولا يصلح لعصور غيره ؟ !
فذلك رد على خاصة الخاصة من علماء عصر العولمة ، وفيه إثبات بأن القرآن كتاب اللّه المنزّل لكل زمان ومكان ، وأنه للعالمين ، يعنى بهذا المصطلح « بنى الإنسان » أينما كانوا وفي أي زمان .
ويأتي الردّ الأبلغ على هؤلاء ، بأن الاستنساخ مسألة من فضل اللّه ، ولكنها بسيطة وإن ضخّموا فيها ، فمتعلقها بنعجة أو فرد أو عضو من الأعضاء ، أو حتى الإنسان ، فما ذا بشأن السماوات والأرض ؟ فليقرّوا بأنهم غير خالقين ، وأنهم ليسوا إلا متشبّهين ، وما يقرّون ، لأنهم لم يوقنوا ، وما كانوا موقنين وهم يقولون ما قالوا ، وما كان لهم من العلم إلا القليل ، والعلم خزائن عند ربك ، ودعاواهم ليست إلا تسلّطا ومزاعم ، ولو تسمع إليهم فكأنهم يعلمون الغيب ، وكأنهم يصعدون إلى السماء يسترقون السمع ، ويعرفون ما لا يعرفه الناس ، ولو كانوا يعرفون لكانت لهم البيّنة المعلّاة .
وكأن السورة حشدت كل ما يوجّه إلى هؤلاء المكذّبين المدّعين ، ومنهم قوم زعموا أن الملائكة بنات اللّه ، فحاجّتهم السورة : لما ذا وأنتم لا تحبون البنات وتؤثرون البنين ؟ أفتجعلون للّه ما تكرهون ؟

ومن هؤلاء المتخرّصين ، اليهود الذين يقولون إنهم شعب اللّه المختار ، والنصارى الذين يقولون المسيح ابن اللّه ، والسورة توبّخ هؤلاء وهؤلاء ، وتردّ كراهيتهم للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم إلى أوهام عندهم ، وكأن النبىّ يتقاضى منهم أجرا على تبليغه رسالة ربّه ، وكأنما هم مثقلون بما تكلفهم هذه الرسالة . وربما كانوا في تكذيبهم للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم يصدرون عن علم خاص بهم ، يجعلهم واثقين وهم ينفون إمكان القيامة ، ويكذّبون وجود شئ اسمه الجنة والنار .
وربما كان تكذيبهم مكرا بالرسول صلى اللّه عليه وسلم من باب المكايدة ، والحق أنهم الممكور بهم والمكيدون ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله . وربما أن ما يدعوهم إليه القرآن والنبىّ صلى اللّه عليه وسلم لا يتوافق مع إيمانهم بإله آخر يشاركه تعالى في الملك ، وسبحان اللّه عما يشركون .
وتعرض السورة لما بلغه عناد المعاندين ، حتى أنهم ليتحدّون النبىّ صلى اللّه عليه وسلم أن يسقط عليهم كسفا من السماء - أي يسقط بعض السماء عليهم - كعقاب لهم ، ومع ذلك فلو رأوا الكسف بأعينهم ، وشاهدوه ببصائرهم ، لماروا فيه وادّعوا أنه مجرد سحاب مركوم ! وأمثال هؤلاء لن ينفع معهم سوى أن يتركوا حتى يلاقوا يومهم الموعود من العذاب ، وحينئذ لن ينفعهم كيدهم ، وتختم السورة بأعظم ختام :وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ( 48 ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ( 49 ) ،
وهي عظة للنبىّ وخطّة عمل للمرحلة القادمة ، فليس سوى الصبر على هذا البلاء الذي ابتلى به من قومه ، فهو بأعين اللّه وفي رعايته وحفظه ، ويسبّح بحمد اللّه على كل شئ ، وفي كل حين : حين يقوم من نومه ، ومن مجلسه ، وحين ينهض إلى الصلاة ، ويذكره في جوف الليل ، وفي الصلاة ، وعقب السجود ، وعند إدبار الليل ، يقول مرة : « سبحانك اللهم وبحمدك » ،
ويقول أخرى : 
« سبحان اللّه بكرة وأصيلا » ، و « سبحان اللّه واللّه أكبر » ، و « سبحان ربّى العظيم » ، و « سبحان ربّى الأعلى » .
ومن مأثورات هذه السورة قوله تعالى :إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ( 7 ) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ( 8 ) ، ففي ذلك إخبار بنهاية التاريخ وقيام القيامة ووقوع البعث وإجراء الحساب ، وأن الجنة والنار حق ؛ وقوله :إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( 16 ) فيه إخبار بأن الجزاء بحسب العمل ، ومثل ذلك قوله :كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ( 21 ) فأهل الجنة وأهل النار مرتهنون بأعمالهم ، وكل إنسان مرتهن بعمله فلا ينقص أحد من ثواب عمله ، وأما الزيادة على الثواب ففضل من اللّه ؛
وقوله :لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ( 23 ) ، كلام عن الجنة ولكنه دليل على مطلوب اللّه من الإنسان في الدنيا والآخرة : أن لا لغو ولا تأثيم ؛ وقوله :فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ( 34 ) يتحدّاهم أن يتقوّلوا قرآنا كالقرآن وهيهات .

ومن مصطلحات السورة : « البيت المعمور » أي شبيه الكعبة في السماء أو هو الكعبة ؛ و « الحور العين » : الواحدة الحوراء ، وهي الأنثى البيضاء ، بضّة البشرة ، صافية اللون ، رائعة الحسن ، وسميت الحور حورا لأنها يحار الطرف في حسنهن وبياضهن وصفاء لونهن ، أو لحور في أعينهن ، والحور شدّة بياض العين في شدّة سواد ، فتشبّه المرأة الحوراء بالظباء .
والعين ( بالكسر ) جمع عيناء ، وهي الواسعة العينين ، النقية بياض العين ، والشديدة سواد الحدقة .
  * * *

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبدالله المسافربالله

مُساهمة الأحد 15 أكتوبر 2023 - 11:35 من طرف عبدالله المسافربالله

الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني

634 . سورة النجم

السورة كلها مكية ، وقال البعض : إلا آية منها هي قوله تعالى :الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى( 32 ) ، والصحيح أن السورة بأكملها مكية خالصة .
وسورة النجم كانت أول سورة يعلنها الرسول صلى اللّه عليه وسلم بمكة ، وأول سورة فيها سجدة ، فلما نزلت صلّى النبىّ صلى اللّه عليه وسلم فقرأ بسورة النجم ، فلما بلغ في القراءة :فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا( 62 ) ، سجد ، فما بقي أحد من القوم إلا سجد خلفه .
وقيل : إن رجلا من المصلين لم يعجبه أن يسجد فانسحب قائلا : يكفيني هذ ! وقيل : اسمه أمية بن خلف .
وذكر زيد بن ثابت أنه قرأ على النبىّ صلى اللّه عليه وسلم سورة النجم فلم يسجد النبىّ صلى اللّه عليه وسلم لمّا وصل إلى آية السجود ، وقيل : السجود هو سجود تلاوة القرآن أثناء الصلاة فقط ، كلما كانت الآيات فيها سجود ، وعددها خمس عشرة آية ، أولها خاتمة الأعراف ، وآخرها خاتمة العلق ، وقيل هي أربع عشرة سجدة ، وقيل : إحدى عشرة سجدة ؛ وقيل : إنها أربع فقط .
وقيل : المراد سجود الفرض في الصلاة وليس سجود التلاوة .

وآيات سورة النجم اثنتان وستون آية ، وكان نزولها بعد سورة الإخلاص ، وترتيبها في المصحف الثالثة والخمسون ، وفي التنزيل الثالثة والعشرون .
وبدايتها القسم بالنجم ، والنجم يقال على الواحد والكثير ، ويسمى العرب الثريا نجما مع أنها عدة نجوم ، قيل هي سبعة نجوم : ستة ظاهرة ، وواحد خفى يمتحن الناس به أبصارهم . والثريا تهوى ، يعنى تختفى ، مع الفجر ، والنجوم يكون اختفاؤها من السماء في الفجر ، وكأنها انطفأت أو هوت . وأصل اشتقاق النجم من نجم الشيء ينجم ( بالضمّ ) نجوما ، أي ظهر وطلع .
وفي الآية :وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ( 6 ) ( الرحمن ) فإن سجود النجم هو أفوله ، ومعنى هوى يعنى أفل ، وهي ظاهرة عجيبة وآية من آياته تعالى تستأهل أن يقسم اللّه تعالى بالنجم وبالنجوم ، يقول تعالى :وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ( 2 ) ( التكوير ) ، ويقول :فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ( 8 ) ( المرسلات ) ، وهما تعبيران آخران عن أفول النجوم بالانكدار ، وبالطمس أيضا ، وهو نفسه المقصود بقوله تعالى :وَالنَّجْمِ إِذا هَوى( 1 ) .
وعن ذلك أيضا في القرآن :فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ( 75 ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ( 76 ) ( الواقعة ) ، ومواقعها يعنى حيث تقع ، أي مساقطها ومغاربها يوميا ، أو انكدارها وانتثارها يوم القيامة . وفي العلوم الحديثة فإن وقود النجوم الذي تضيء به هو عملية الاندماج النووي لذرّات الهيدروجين ، وهناك نجوم أشد حرارة من الشمس حتى لتبلغ مئات الملايين من الدرجات المئوية ، بينما حرارة الشمس ما بين 15 إلى 20 مليون درجة مئوية ، وهذه النجوم يسمونها لذلك المستعرة ، وبها يتخلّق الحديد ، فإذا صار لبّ النجم المستعر كله من الحديد ، انفجر وتناثرت أشلاؤه في صفحة الكون ، فيدخل في نطاق جاذبية الأجرام والنيازك التي قد ترتطم بالأرض .
ومن هذه النيازك كان دخول الحديد إلى باطن الأرض ، حتى صار هذا الباطن كله من الحديد ، وأقلّه في قشرتها الظاهرة . وهذا إذن هو المقصود بقوله تعالى :وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، فهو إعجاز علمي يسبق به القرآن ، ويتهافت معه كل تفسير آخر .
وجواب القسم : ما ضلّ محمد عن الحق ، وما حاد عنه ، وما تكلم بالباطل ، وما كان له أن يقول ما قال عن هواه ، ولا أن يخرج نطقه عن رأيه .
والخطاب : لكفّار عليه مع طول صحبتهم له ، فعبّر عن ذلك بلفظ صاحِبُكُمْ( 2 ) . وموضوع هذه الآيات :

هو الإسراء الذين لم يصدّقوه فيه ، فلقد روى لهم أن جبريل استوى بقوته في الأفق ، وكان في صورته الملكية ، ورآه النبىّ على هذه الصورة ، وكان بحراء ، فطلع له من المشرق وسدّ بهيئته الأفق الأعلى ، وتدلّى حتى دنا منه ، فأوحى إليه ما أوحى ، فهذه هي المرة الأولى ، وما كذّب فؤاده ما رأته عيناه ، ووعاه بصره ولا شك فيه ، وما كان ينبغي أن يماروه فيما رأى ، ولا أن يجحدوه .
ثم رآه مرة أخرى في ليلة الإسراء ، نازلا إليه ، عند سدرة المنتهى حيث انتهى به المعراج ، والسدرة يغشاها ما يغشاها ، وعندها جنة المأوى ، وما جاء في هذه الآيات من المصطلحات من أمور الغيب .
وما يرويه مما رأى ، هو ما أبصره بعينيه ، ووعاه بعقله ، وما زاغ بصره ، ولا ضلّ عقله ، ولا جاوز حدود ما أطلع عليه ، ولقد أطلع على الكثير ، وكلها آيات كبرى .

ثم يأتي الجزء الثاني من السورة ، وأوله :أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ( 19 ) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ( 20 ) أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ( 21 ) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى( 22 ) ، فلما ذكر الوحي والإسراء والمعراج ، وذكر من آثار قدرة اللّه ما ذكر ، حاجّ المشركين في عبادتهم لما لا يعقل ، ولاعتقادهم في أصنام من حجر ، وردّ عليهم قولهم بأن اللات والعزّى ومناة هن بنات اللّه ، مثلما الملائكة التي قال بها هن بنات اللّه في زعمهم ، فكيف إذا اختاروا لأنفسهم يختارون أن يكون لهم أولاد من الذكور ، وإذا اختاروا للّه يختارون له البنات ؟
وما كان ما يعبدونه إلا أسماء أسموها لا وجود لها في الواقع ، فكأن ما يقوله فلاسفة الوضعية المنطقية حاليا يستقونه من هذه الآية ، لأنهم أنكروا الإقرار بالوجود إلا لما يكون من الواقع ، فما ليس من الواقع وإن كان في كلامنا ، فوجودهnil، أي معدوم ،
والآية تقول ذلك ، وترد الموجودات المتوهّمة إلى :الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ( 23 ) ، وتبطل دعواهم أنهم ما يعبدونها إلا زلفى أي للشفاعة ، فلا أحد من المخلوقات يملك أن يتشفع من تلقاء نفسه إلا أن يأذن له اللّه ، وحتى الملائكة لا تملك أن تتشفع لأحد إلا بإذنه تعالى ، والحال مع هؤلاء هو الإعراض عنهم طالما هذا هو اعتقادهم ، وهو كل مبلغهم من العلم ، وأما المؤمنون فسيكون جزاءهم الحسنى .

ثم يكون الجزء الثالث من السورة عن واحد من الذين كفروا وأساءوا ، وهو الوليد بن المغيرة ، فقد تولّى وبخل واستغنى ، مع أنه يعلم مما جاء في كتب السابقين ، أن الإنسان ليس له إلا ما يسعى ، وأن سعيه سوف يرى ، وأنه إلى اللّه المنتهى ، وأنه تعالى العادل لا تتعدى عقوبته غير المجرم ، وهو تعالى القادر الذي يميت ويحيى ، ومثلما خلق من لا شئ ، فبوسعه أن يعيد ما خلق ، وأن يغنى ، وأن يفقر ، وهو ربّ الأكوان والأزمان ، وأهلك الأوائل لمّا كفروا .
ويأتي الخطاب إلى من كفر ، بعد أن ينبههم إلى نعمه وخيراته ، وإلى قدرته وعلمه ، ليسألهم : لما ذا إذن الكفر ؟ ولما ذا تكذّبون بالقرآن ؟ ، ولما ذا تضحكون مستهزئين لاهين وكان الأولى بكم أن تبكوا ؟ وتختتم السورة بالأمر الإلهى : اسجدوا للّه واعبدوه ، فذلك أحرى بكم .

والسورة حافلة بالمصطلحات ، ومن مأثوراتها قوله :وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ( 3 ) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى( 4 ) ، وفيه أن السنّة كالقرآن كلاهما من الوحي ؛ وقوله :فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى( 9 ) يقال لتصوير شدّة القرب ؛ وقوله :لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى( 18 ) ، قالوا : رأى اللّه تعالى ببصره ؛ وقال آخرون : بقلبه ؛ وقالت عائشة : رأى جبريل وما رأى ربّه .
وكيف يراه وهو تعالى يقول :لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ( الأنعام 103 ) ؛ وقوله :تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى( 22 ) أي قسمة جائرة عن الحق ، ومائلة عن العدل والإنصاف ، من ضاز في الحكم أي جار ، وضاز حقّه أي نقصه ؛
وقوله :إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها( 23 ) يعنى اخترعوها ولا دليل على صحتها ؛ وقوله :ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ( 30 ) يقال تصغيرا لعلم الخصم ؛ وقوله :وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى( 39 ) ، وقوله :أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى( 38 ) يعنى أن الإنسان يجزى بعمله ،
ولذلك لم يجز بعضهم الصيام والصلاة والحج عن الميت ، ولم يقرّ بالشفاعة ؛ وقوله :وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى( 42 ) فمنه ابتداء المنّة ، وإليه انتهاء الأمان ؛ وقوله :وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى( 43 ) أي لا فاعل إلا هو ؛ وقوله :أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ( 59 ) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ( 60 ) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ( 61 ) : استفهام توبيخ .

ومن مصطلحات السورة : « سدرة المنتهى » : والسدرة شجرة ، وعندها كانت نهاية المعراج ، وهي التي ينتهى ويقف عندها الملائكة ؛ ومثلها مثل شجرة الحياة أو شجرة المعرفة التي ذاق آدم وحواء ثمارها فانكشفت لهما عورتاهما ؛ ومثل شجرة الزقوم التي تخرج في أصل الجحيم ؛ فهذه ثلاث شجرات من الغيب ؛ وجنة المأوى : من الغيب ، ولا نعرف إلا موضعها عند سدرة المنتهى ؛
واللات : صنم لثقيف بالطائف من لفظ اللّه ، و « العزّى » : صنم لقريش وبنى كنانة من لفظ العزيز وهو اللّه ؛ و « مناة » : صنم لبنى هلال وهذيل وخزاعة ، يقال : منى اللّه الخبر لفلان أي قدّره ، وقيل : هذه الأسماء عندهم أسماء بنات اللّه ، الأولى : اللات ، والثانية : العزّى ، والثالثة : الأخرى ( أي وهذه الأخرى الثالثة ) وهي مناة .

« وكبائر الإثم » : كل ذنب ختم بالنار ؛ و « الفواحش » : كل ذنب فيه الحدّ ؛ و « اللّمم » : هي الصغائر ، ولا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه اللّه ؛ و « أزفت الآزفة » : قربت الساعة ؛ و « ربّ الشّعرى » : والشّعرى هي الكوكب المضئ الذي يطلع بعد الجوزاء ، وطلوعه من شدة الحر ، وهي شعريان : الشعرى العبور ، والشعرى العميصاء ، وكان العرب يعتقدون أنهما أختا سهيل . وهو تعالى ربّ الشعرى وإن كان ربّا لغيره ،
فلأن العرب كانوا يعبدون الشعرى ، فإنه تعالى أعلمهم أنه - أي الشعرى ليس بربّ ، ولكنه مربوب ، واللّه تعالى هو الربّ ؛ و « عاد الأولى وثمود وقوم نوح والمؤتفكة » : أمم قديمة ، « وعاد الأولى » هم قوم صالح وهؤلاء أهلكوا بالريح الصرصر ، وسمّوا عادا لأنهم من ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح ، ومعنى أنهم الأولى أن لدينا عادا ثانية ، قيل : هي ثمود ، قوم هود ، وكانوا أقارب لعاد الأولى ومن نسل عاد ، ويقال أيضا هم عاد الآخرة وكانوا قوما جبّارين .
وقيل : عاد الثانية أو الآخرة هي الولايات المتحدة فهذه فعلت أكثر مما فعلت عاد الأولى ؛ فإن كان اللّه قد فعل ما فعل في عاد الأولى ، فما الذي سيفعله في عاد الثانية هذه وأعمالها في الكفر والفساد فاقت كل ما صنعه القدماء مئات المرات ؟ ! !
وقوم نوح أهلكوا قبل عاد وثمود ، وسبب هلاكهم كما قال :إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى( 52 ) فلما طالت مدة نوح فيهم ، وطالت رسالته معهم كثر ظلمهم وطغيانهم ؛ أو أن المشركين من العرب كانوا أظلم وأطغى من كل هؤلاء .
والمؤتفكة : هي مدائن قوم لوط ، ائتفكت بهم ، أي انقلبت وصار عاليها سافلها ؛ والنُّذُرِ الْأُولى( 56 ) : هم الأنبياء من قبل النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، وهي أيضا الأمم السالفة التي أنذرت كما أنذر العرب .

  * * *

635 . سورة القمر

السورة مكية ، وآياتها خمس وخمسون ، نزلت بعد الطارق ، وترتيبها في المصحف الرابعة والخمسون ، وفي التنزيل السابعة والثلاثون ، وهي من أولها لآخرها حملة مضادة لأكاذيب أعداء الإسلام ، وفيها كل صفات وشروط الردود على حملات الأكاذيب التي يشنّها عادة أعداؤنا من يهود ونصارى ومستعمرين ومستشرقين ، من الأجانب أو العرب أو المسلمين ، ضد الإسلام والنبىّ صلى اللّه عليه وسلم والقرآن ،
ومن ثم كانت السورة بمثابة المنشور أو الإعلان الدعائى للدعوة إلى الإسلام ودحض كل تخرّصات المتخرّصين ، وافتراءات المفترين ، ثم إنها إعجاز علمي يتناول ناحية من نواحي الوجود الكوني ، واختير له القمر كاختيار الشمس في سور أخرى ، لأنهما أوضح ما يكونان لكل ذي بصر ، فإذا اجتمعت له البصيرة مع البصر لأدرك أن الكون لا يمكن أن يكون قد تخلّق عشوائيا ، ولا عبثا ، وأن له معمارا هائلا عظيما لا يمكن إلا أن يردّ إلى مهندس مبدع ، وعالم عليم ، وإله قادر قدرة مطلقة .
وتتحدث السورة عن يوم القيامة ، ومن أعراضه أن ينشق القمر ، وتسميها السورة « الساعة » ، تشبيها لقصر هذا اليوم حتى أنه ليمر وكأنه ساعة ، أو أن القيامة حين تحين فلها وقت وساعة تقوم فيهما ؛ وانشقاق القمر تصدّعه وانفلاقه فلا يعود قمرا ، ولا تعود له وظيفة القمر ، فلما نزل قوله تعالى :اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ( 1 ) لم يصدقوا أن ينشق القمر فكانت الآية بعد هذه الآية الأولى :وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ( 2 ) ،
وكان سبب نزولها أن البعض ادّعوا أن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم كانت له هذه المعجزة ، فقد طالبوه بآية ، فانشق لمطلبهم القمر كآية له ، والشمس والقمر في ذاتهما آيتان من آيات اللّه ، أفلا يكفيان ؟
ثم إنهما وهما يعملان آيتان أكبر وأعظم مما لو أبطل عملهما ؟

وفي الحديث أنهما لا يسجدان لأحد ولا ينشقان ، وفي القرآن أنهما مسخّران لأجل مسمى ، وكما أن الإنسان لا يموت إلا موتة واحدة ، فكذلك موت القمر أو انشقاقه يحدث مرة واحدة حين تحين الساعة لا غير ، والقول إذن بأن القمر انشق بمكة كطلب النبىّ صلى اللّه عليه وسلم من الإسرائيليات ، ولو انشق القمر لوقع وانطمس نوره وما عرف الناس الشهور ، وانظر إلى ما يحدث في الخسوف لتدرك هول ما قد يحدث لو انشق القمر ؟ !
وفي السورة :كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ( 3 ) أن القمر بحسبان وأنه يجرى إلى يوم الدين ، فذلك من الأمور المستقرة ولا تبديل لها . ولمن يسأل المعجزة قالت السورة :وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ( 4 ) ، ولكنهم لم يزدجروا ، وهذا القرآن كان فيه الحكمة البالغة ، والقصص الحق ، ولكن الآيات والنذر ما تغنى عن قوم لا يؤمنون ، فلا معدى أن يتولّى عنهم النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، لأن مصيرهم إلى العذاب يوم الدين ، وتصف الآيات أحوالهم فيه ، فهم يخرجون من القبور كالجراد المنتشر ، خشّعا أبصارهم ، مهطعين
- أي مسرعين إلى الداعي ، لا يقولون إلا عبارة واحدة :هذا يَوْمٌ عَسِرٌ( 8 ) . ثم تضرب السورة الأمثال للنبىّ وللمؤمنين بما حدث لأنبياء قبله ، تسلية لهم ، ورفعا لمعنوياتهم ، وقدوة وأسوة ، ولا مراء أن أول من يضرب به المثل هو نوح ، وقد وصفوه بالجنون كما وصفوا به النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، وأخبرت السورة بأنهم ازدجروه ومنعوه من الدعوة وسبّوه مثلما حدث مع النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ، فما استطاع إلا أن دعا ربّه :أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ( 10 ) ،
فاستجاب له ، وأمطرهم بماء منهمر ، وتفجّرت الأرض عيونا ، والتقت المياه في طوفان عظيم ، ولولا سفينته التي أمره اللّه بصنعها من الألواح والحبال لما نجا نوح ومن معه ، وجرت السفينة بأعينه تعالى ، وبحفظه وكلئه ووحيه ، فكانت آية لمن كفر ومن جاء بعد نوح من الأقوام ، فهل من مدّكر ؟

وهذا القرآن كسفينة نوح فيه النجاة ، ويسّره اللّه لمن يتّعظ ، فهل من مدّكر ؟
ثم كان قوم عاد فكفروا ، فأرسل عليهم ريحا صرصرا كالطوفان ، جعلت يومهم نحسا ، وكانت تنزعهم نزعا كأعجاز النخل المنقعر ، وذكرت قصتهم في القرآن للعظة والعبرة ، فهل من مدّكر ؟

وكذبت ثمود بنبيّهم ، بدعوى أنه بشر مثلهم ، ووصفوه بأنه كذّاب أشر .
وكذّب أصحاب الناقة صالحا وائتمروا بناقته فعقروها ، فما كانت إلا صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ، أي حشاش الأرض الجاف في حظائر الماشية .
وقوم لوط تماروا بالنذر ، فأرسل عليهم ريحا حاصبا ترميهم بالحصباء ، صبّحهم بها بكرة لمّا راوده عن ضيفه . وآل فرعون كذبوا بالنذر ، فأخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر ، وكل هؤلاء أوردوه عنهم القرآن لعل كفّار مكة يتّعظون ، فهل هم خير ممن سبقوهم وجاءت بأخبارهم الكتب ؟
أو أنهم واثقون من النصر بما أعدوه وهيئوه من أسبابه ؟ واللّه غالب على أمره ، ولقد وعد أن يهزم الجمع ويولوا الدّبر ، وأن موعدهم الساعة ، والساعة أدهى وأمرّ ، فهل من مدّكر ؟ !
وتصفهم السورة بأنهم مجرمون ، وعقيدتهم ضلال ، وعذابهم السعر - أي جهنم ، يسحبون فيها على وجوههم ، وتسعرهم النار ، وتسوّد وجوههم .
وتختتم السورة بموجز للدرس المستفاد منها : أن قضاء اللّه أسرع من لمح البصر ، وأنه تعالى قد أهلك أمما قبل هؤلاء الكفرة من قريش ، وكانوا أشباههم ، ورصد كل ما فعلوه في الكتب وأحصاه ، فهل يتعظون ؟ فلما ذكر المكذّبين تلا ذلك بذكر المتّقين نقيضهم ، وهؤلاء مقارنة بهم في جنات ونهر ، لهم مقاعد صدق ومجالس حق ، عند ربّهم المليك المقتدر .

وفي السورة كثير من المصطلحات والأمثال ، فمن المصطلحات : « الساعة » : أي يوم القيامة ؛ واليوم العسر : وهو يوم القيامة أيضا ؛ والعقر : هو النحر ، وقيل : كان اسم الذي عقر الناقة قدار ، فأطلق على الجزّار من ثم اسم قدار ؛ وسقر : هي جهنم ، ويقال لها أيضا لظى ؛ ومقعد صدق : هو مجلس الحقّ ، أي المجلس حين يخلو من اللغو والتأثيم ، ومقاعد الصدق أصلا لا تكون إلا في الجنة . ومن الأمثال والحكم البالغة قوله تعالى :اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ: تحذير ووعيد باقتراب يوم القيامة ، وأنه لم يبق على ذلك من الوقت لقيامها إلا قدر ساعة ؛وَانْشَقَّ الْقَمَرُ( 1 )تقال عن المستحيل ،
إلا ما كان بالنسبة للّه تعالى ؛ وقوله :فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ( 16 ) : تكررت كاللازمة أربع مرات في السورة ، ويقال ذلك استعظاما للنذر واستبشاعا للعذاب ؛ وقوله :فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ( 15 ) : والمدّكر هو المتّعظ ، و « هل » : كلمة استفهام تستدعى حضور الأفهام ، والعبارة كلها حجّة على من يسمع ويقرأ القرآن ولا يتّعظ ، وتكررت كاللازمة ست مرات في السورة ؛
وقوله :الْكَذَّابُ الْأَشِرُ:
عبارة بليغة صارت على الألسنة ؛ وقوله :سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ( 26 ) : توعّد هو قمة في البلاغة ؛ ثم الاستفهام :أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا( 25 ) للإنكار ،
ومثله السؤال :أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ ( 43 ) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ( 44 ) وقوله :سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ: إعجاز قرآني فيه تنبؤ بالمستقبل ، وقد كان وهزموا شرّ هزيمة ؛ وقوله :بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ( 46 ) :
من طرق القرآن في التعبير البليغ ، وفيه استدراك وجزم ؛ وقوله :وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ( 53 ) : أي مسطور ومكتوب ، كقوله :وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ( 52 ) أي في الكتب . وبعد . . . فإن المرء ليحار وهو يختار من بين عجائب سورة القمر ، وإنها لمن معجزات القرآن ، صياغة ، وبلاغة ، وإيقاعا ، وللّه الحمد والمنة أن آتانا هذا الكتاب : القرآن .

  * * *

636 . سورة الرحمن

السورة مدنية ، وآياتها ثمان وسبعون آية ، نزلت بعد سورة الرعد ، وترتيبها في المصحف الخامسة والخمسون ، والحادية عشرة في التنزيل المدني ، وفي التنزيل عامة هي السابعة والتسعون ، واسمها « الرحمن » من افتتاحها باسمه تعالى :الرَّحْمنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ ( 2 ) خَلَقَ الْإِنْسانَ ( 3 ) عَلَّمَهُ الْبَيانَ( 4 ) .
وقيل لو جمعت الحروف : الر التي تبدأ بها خمس سور ، و « حم » التي تبدأ بها سبع سور ، و « ن » التي تبدأ بها سورة واحدة ، لكوّنت معا اسم « الرحمن » .
واسمه تعالى « الرحمن » يتكرر في القرآن سبعا وخمسين مرة ، ولا يسمّى به غير اللّه ، تقول « اللّه » وتقصد « الرحمن » ، أو تقول « الرحمن » وتقصد « اللّه » ، كقوله تعالى :قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ( الإسراء 110 ) ، ويقترن اسمه « الرحمن » باسمه « الرحيم » أربع مرات في القرآن ، ففي الفاتحة يأتي :الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ( 3 ) ، والاسمان يشتقان من الرحمة ، أو أن الرحمة تشتق منهما ، فلما كان اللّه كانت الرحمة وليس العكس ؛ ورحمن أشد مبالغة من رحيم ، وهو تعالى رحمن لجميع الخلق ، ورحيم بالمؤمنين .

ولمّا ادّعى مسيلمة النبوة تسمّى باسم رحمن اليمامة ، واليمامة بلده ، ويشاء اللّه أن يشتهر على العكس باسم مسيلمة الكذّاب .
وفي الحديث القدسي : « أنا اللّه وأنا الرحمن ، خلقت الرحم ، وشققت لها من اسمى » .
ولمّا سأل أهل مكة النبىّ صلى اللّه عليه وسلم : ما الرحمن ؟ أنزل اللّه تعالى هذه السورة « الرحمن » جوابا على سؤالهم ، وفي رواية أخرى قيل عن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم إنما يعلّمه مسيلمة ،
فأنزل اللّه تعالى لهذا السبب هذه الآيات :الرَّحْمنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ( 2 ) ؛ وقيل : علّم نبيّه القرآن ، وعلّمه الحلال والحرام ، والهدى من الضلال ؛ وقيل : علّم آدم :عَلَّمَهُ الْبَيانَ( 4 ) ، يعنى أسماء كل شئ ، وعلّمه اللغات ، وقيل : « البيان » : هو الخير والشرّ ، وما ينفع وما يضرّ .
« والإنسان » في السورة : يراد به جميع الناس ، و « البيان » على هذا يكون الكلام والفهم ، فضّل اللّه تعالى الإنسان بالبيان على سائر الحيوان .
وهذه السورة للتعريف باللّه خالق الإنسان والبيان ، وهي من السور التي بها الكثير من الفلسفة في مسائل الإلهيات ، والنشأة ، وعلوم الكون والفضاء والنفس .
والبيان الذي علّمه اللّه للإنسان ، واختصّه به ، ليس مجرد الكتابة والخط بالقلم ، ولا هو مجرد التعبير للتفاهم حول اليوميات ، ولكنه جماليات اللغة وأنماط الأدب ، وجماليات الخطوط والأشكال والرسوم والألوان ، كقوله تعالى :عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ( 4 ) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ( 5 ) ( العلق ) .
والبيان من آلاء اللّه ، وآلاؤه أو نعمه لا تعدّ ولا تحصى ، وهذه السورة للفت النظر والسمع والفهم إلى بعض منها ، وتتكرر الآلاء 31 مرة ، وفي كل مرة تذكر ، يأتيفَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ( 13 ) ، والخطاب فيها لاثنين ، قيل هما المؤمن والكافر ؛ وقيل : الخطاب للإنس والجن ، كقوله تعالى :يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي( الأنعام 130 ) ،
ومع ذلك فالقرآن ليس كتابا للجن ولكنه كتاب للبشر ، وما قصّه علينا إنما عن رسل البشر وليس عن رسل الجن ، وسورة الرحمن الخطاب فيها ، والحديث فيها يشمل الإنس والجن . وفي القرآن إخبار عن أن الجن استمعوا له واتّعظوا به .
وفي الرواية : أن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم قام يصلى الصبح بنخلة ، فقرأ سورة الرحمن ، واستمع لها نفر من الجن ، وذهبوا يبلّغون .
وقيل : لمّا نزلت عليه سورة الرحمن خرج على أصحابه يقرأها عليهم من أولها إلى آخرها ، فسكتوا ، فقال : « لقد قرأتها على الجن ليلة الجن ، فكانوا أحسن مردودا منكم . كنت كلما أتيت على قوله : « فبأي آلاء ربكما تكذبان » قالوا : لا بشيء من نعمتك ربّنا نكذّب ، فلك الحمد » أخرجه الترمذي . وهذا الحديث اتّخذ ذريعة للقول بأن السورة مكية وليست مدنية ، وقالوا : إن روحها روح السور المكية ، وفيها عن الجن مثلما في سورة الجن وهي مكية أيضا ، وهذه السورة الأخيرة رواية عن الجن في تسع عشرة آية من ثمان وعشرين آية هي كل آيات السورة .
وكذلك سورة الرحمن تلازم فيها الخطاب للإنسان والجن ، وتسميهما السورة : « الثقلان » .
قيل : سميّا بذلك الاسم ، لعظم شأنهما بالإضافة إلى سائر ما في الكون من مخلوقات ، أو لعظم ذنوبهما .
ولا يستغربن القارئ أن يكون في القرآن سور وآيات عن الجن ، فإن علوم الفضاء الحالية يؤكد علماؤها أن غايتهم اكتشاف سكان الكون من غير الإنسان ، ويجزمون بأن هناك مخلوقات تسكن الكواكب وتعمّ الكون بخلاف الإنسان ، فلما ذا لا يكون هؤلاء هم الذين يسميهم القرآن الجن ؟
ولقد بيّنت سورة الجن مدى قدرات الجن ، وأنهم يتنصتون على الملأ الأعلى في السماء ؛ وفي سورتي النمل وسبأ : أن سليمان استخدم الجن لعلمهم ومهارتهم ، والجن إذن من ثوابت القرآن ، وليس في القرآن أن نبيّنا تعامل مع الجن أو خاطب الجن ، وكل ما فيه أن الجن استمعوا إلى القرآن ، كقوله تعالى :وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ( الأحقاف 29 ) .
وفي القرآن يتكرر الخطاب والرواية عن الجن والإنس ، إحدى عشرة مرة ، ومنها مرتان كان الخطاب فيهما لهما معا ، فكانت الجن تقدّم على الإنس :يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ( 33 ) ، فنفهم أن الجن بمصطلح سورة الرحمن هم : « أثقل الثقلين » .
واستهلال آلاء اللّه على الإنسان بالقرآن ، دليل على أن القرآن هو نعمة اللّه الكبرى ، ويسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته وتعليمه البيان . وتخلص السورة إلى بقية الآلاء في تراتب قيمي ، فبعد القرآن ، والإنسان ، والبيان ، تأتى الشمس ، والقمر ، والنجم ، والشجر ، والسماء ، والمقصود تعداد ما أنعم اللّه به على نوع الإنسان ، حثّا لهم على شكره ، وتنبيها على تقصيرهم في هذا الشكر . وكل هذه الآيات خلقها تعالى بميزان ، أي بتقدير وحساب ، فالميزان شرعته تعالى ، وبدون الميزان لا يستقيم الكون ، ومن ثم كانت موعظته تعالى للإنسان بأن يقيم الوزن بالقسط ، أي بالحساب والتقدير ، بحسب القصد والغاية ، فبالميزان وضع اللّه تعالى الأرض كوضعه للسماء ، ويسّر الأرض للناس ، فكل شئ لا بد أن يكون بميزان وبغاية ، والأرض كانت كذلك بغاية معاش الإنسان ، فذلّلها له ، وخلق له فيها كل ما لذّ وطاب ، ومن الإعجاز الفكري والحضارى للقرآن أن خلقه جاء قبل خلق الإنسان ، لأنه قبل خلق الإنسان لا بد أن يوجد سبب للخلق ، وأن يحدّد للإنسان منهج ، والقرآن خلقه اللّه للإنسان ليرجع إليه ، وكل علم لا بد فيه من مرجع ، والقرآن هو الكتاب المرجع الأكبر ، والقراءة والكتابة أساس كل حضارة ، والبيان هو أعلى علوم الإنسان ،
ولذا قال تعالى في سورة الرحمن :عَلَّمَ الْقُرْآنَ ( 2 ) خَلَقَ الْإِنْسانَ ( 3 ) عَلَّمَهُ الْبَيانَ( 4 ) ، فكان القرآن أولا قبل الإنسان .
ومن الإعجاز العلمي : أن الشمس والقمر بحسبان ، والحسبان عند العرب هو الرحى ، يعنى قطب الشمس أو القمر ، فهما يدوران في مثل القطب ، فنبّه القرآن إلى دورانهما حول نفسيهما ، وحول كواكب أخرى ، ولكل نظامه ، مثلما للنجم والشجر نظامهما ، وسجودهما يعنى انتظامهما في النظام المنوط بهما ، كقوله تعالى في سورة النور :أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ( 41 ) ، وقوله في سورة الإسراء :تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ( 44 ) ،
ونفهم أن يكون للملائكة والإنسان تسبيح وصلوات ، لأن لهما عقول وفهوم ، وأما الشجر والحيوان والطير والنجوم ، فهي مسخّرة ، وصلاتها وتسبيحها هو قيامها بالمنوط بها ، فالنجوم لتضىء وتدور في الأفلاك تربط هذا بذاك ، والشجر ليثمر ويعطى الحبّ والفاكهة ، فذلك هو سجودهما .
ووضع الأرض هو سجودها ، أي تسخيرها ، فإذا كان الكون كله في صلاة وتسبيح وسجود ، فكان الأحرى بالإنسان والجان وقد خلق لهما العقل ، أن يعبدا اللّه حقّ عبادته .
وقوله تعالى :فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِدليل على أنهما مكلّفان . ويخبر تعالى بصدق القرآن ، بدليل خلق الإنسان والجان ، فالإنسان خلقه من تراب ، والجان خلقه من نار ، وبرهان ترابية الإنسان أنه إذا مات يتحلّل إلى عناصر هي نفس عناصر التراب .
وفي سورة الرحمن يأتي عن خلق الإنسان قوله تعالى :خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ( 14 ) ، وفي سورة الحجر أنه خلقه :مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ( 28 ) ، وفي سورة الصافات :إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ( 11 ) ، وفي سورة آل عمران :كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ( 95 ) ، وكلها معان متفقة ، غير متعارضة على عكس ما يقول المستشرقون ، ففي البداية كان خلق الإنسان من تراب الأرض ، عجن حتى صار طينا ، وتخمّر فصار كالحمإ المسنون ، ثم اشتدّ فصار صلصالا كالفخار .
وجاء خلق الجان مقارنا بخلق آدم ليدل على طلاقة قدرة اللّه تعالى ، والخطاب في سورة الرحمن للاثنين الإنس والجن ، والجن خلقهم مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ( 15 ) أي من لهب من النار ، أو من خلط النار ، والجان واحد الجن . فهذا هو خلقه لكل هؤلاء ، وجميعها دلائل على قدرته ، فبأي هذه الدلائل تكذبان يا معشر الإنس والجان ؟
وهو تعالى ربّ مشرقىّ الأرض ومغربيهما ، وذلك دليل علمي آخر على كروية الأرض ودورانها حول الشمس ، فالشمس إذا أشرقت على نصفها الشمالي كان الوقت غروبا في النصف الجنوبي ، وإذا كان الوقت نهارا في الجنوبي ، كان ليلا في الشمالي .
ومن آياته أنه أرسل البحر الملح والبحر العذب يتجاوران ويلتقيان ولا يمتزجان ، وبينهما حاجز من قدرة اللّه لا يطغى أحدهما على الآخر ، ومن الماء يخرج اللؤلؤ والمرجان كما يخرج من التراب الحبّ والعصف والريحان ، فسبحان الواحد المنّان !
وأجرى السفن في البحر مرفوعات الشراع ، فكانت كالجبال في البرّ ؛ فكأنه تعالى أحصى الأصول في هذه الأربعة : التراب ، والماء ، والهواء ، والنار ؛ فالتراب خلق منه الإنسان ؛ والماء : خلقت منه الأنهار والبحار ، وخلق طينة الإنسان ، وسقى الزرع والحيوان ، وأخرج من الأنهار والبحار الدّر والمرجان ؛ والهواء : جفّف الطين الذي قدّ منه الإنسان ، وأجراه فيه فبعث فيه الحياة وتنفّست رئتاه ، وجعل الهواء لكل شئ حىّ ، وحتى السفن في الماء تندفع بالهواء ؛ والنار : خلق منها الجان ، وسوّى بها طينة الإنسان ، ولها الفوائد الجليّ في توليد الطاقة وغير ذلك ، فهذه هي العناصر الأربعة الأصول لكل الأشياء ، فأي حجة من هذه الحجج يمكن أن يدحضها الإنسان أو الجان ؟
ثم إن الموت يفنى كل ذلك ولا يبقى سوى اللّه ، وهو برهان يشهده الإنسان والجان كل يوم ، فهل يستطيعان له دفعا ؟ وفي الآية :وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ( 27 ) أن وجهه تعالى هو وجوده وذاته ، فإن اعتبرته صفة فهي زائدة على ذاته بلا تكيّف ، ويحصل بها الإقبال على من أراد الربّ تخصيصه بالإكرام ، والجهة التي يتقرّب بها إليه ، وإلّا فلا وجه ولا جسم ، ولا تبعيض ولا تجسيم ، وهو تعالى :ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ( 27 ) جلّ وعلا أن يكون له ندّ أو شبيه ، فأكرموه بالتوحيد وهو المستحق للتوحيد ، يسأله أهل السماوات والأرض ،
وهو كل يوم في شأن : يحيى ويميت ويقرّ في الأرحام ، ويعزّ ويذل ، ويرزق ويمنع ، والدهر كله يومان ، يوم للدنيا وآخر للقيامة ، وشأنه في الدنيا الابتلاء والاختبار ، بالأمر والنهى ، والإحياء والإماتة ، والإعطاء والمنع ، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب ، والشؤون يبديها ولا يبتديها .
ويتحدى اللّه تعالى الإنس والجن أن ينفذوا من أقطار السماوات والأرض إلا بإذنه كما في المعراج ، والعلم الذي يستعان به هو من إذن اللّه ، وهو تعالى لا يكشف العلم للإنسان إلا في حينه ، ومتغيرات الفضاء التي لم يخلق لها الإنسان ولا الجان من شأنها أن تصيبهما بالاحتراق ، كما تحترق النيازك والشهب إذا وقعت من مواقعها في الفضاء .

ودخلت أقطار الأرض . وشواظ النار والنحاس هي النيكل المحمى الذي ثبت أن النجوم والكواكب مركبة منه بفعل الانفجارات النووية فيهما وفي الشمس ، وانشقاق السماء يوم القيامة لأن الانفجار النووي الأكبر يكوّرها ويجوّفها ويجعل لها شكل الوردة ، كصبّ الدهن تكون له الألوان ، تتغير بتأثير الحرارة إلى اللون الأحمر كالوردة .
ويوم القيامة لا يسأل الناس عن ذنوبهم ، لأن كتبهم فيها الكفاية ، ولوجود الشهود عليهم ، وتكفى سيماهم أو سماتهم ، وفي الطب النفسي ضمن علم النفس الإجرامى ، والطب النفسي الإجرامى ، فإن للمجرمين سمات في الخلقة وفي السلوك ، وفي الكلام والتفكير ؛ والكلام والتفكير من السلوك ، ومن علماء هذا العلم لمبروزو العظيم الذي حدد بعض هذه السمات ،
وقال بها القرآن قبل أهل العلم - وذلك من معجزاته العلمية ؛ والملائكة تتعرف على المجرمين بسماتهم ، وتقبض عليهم من نواصيهم وأقدامهم ، جزاء بما كانوا يكذّبون ، فهذه جهنم التي كذّبوها ، ورواحهم فيها بين الجحيم والحميم ، وبين النار والشراب ، وشراب النار شراب آن ، يعنى حمّى عليه حتى بلغ القمة في الغليان . فلما ذكرت السورة العذاب تلته بالثواب ، لتكمل المقارنة ، ولمن شاء أن يختار ما يشاء ، فهذا عذاب المكذّبين ،
وهذا ثواب المصدّقين : جنتان ذواتا أغصان ، وبهما سعة وفضل ، وتسقيهما عينان تجريان ، وفيهما الفاكهة من جميع الألوان ، جزاء لكل من خاف قيام ربّه واطّلاعه عليه ، ولمن همّ بالمعصية فتذكّره تعالى فتركها خوفا منه .
وفي الجنتين فرش من الديباج ، وثمر الشجر دان عليهم ، وعلى الفرش نساء بكر محتشمات حيّيات ، شديدات الجمال والصفاء ، حتى لكأنهن الياقوت والمرجان في الصفاء والبياض ، وهذا بعض إحسان اللّه للمحسنين ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟
ومن دون هاتين الجنتين جنتان أخريان ، فيهما العيون الفوّارة ، والفاكهة ، والنخل والرمان ، ونساؤهما خيّرات ، ليس أحد في حسنهن ، فعيونهن حور ، وتسترهن الخيام ، تفرشها البسط الخضراء ذات الحواشى والرفارف ، وذلك فضل اللّه يؤتيه المحسنين ، فهل بعد ذلك من عذر أو حجة للتكذيب والجحود والنكران ؟ وهكذا نأتى إلى ختام السورة ، بأحسن كلام في اللّه تعالى وتمجيده والثناء عليه ، بقوله تعالى :تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ( 78 )
أراد به اسمه الرحمن الذي ابتدأ به السورة ، كأنه يعلّم أمة محمد : أن كل هذا الخلق كان خروجه من رحمة اللّه ، فمن رحمته أنه خلقنا وخلق السماوات والأرض ، وخلق الخلق والخليقة ، والجنة والنار ، وكل ذلك من اسمه « الرحمن » يثنى بكل ذلك على نفسه ،
ثم قال إضافة لاسمه « الرحمن »ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ، لأنه الجليل في ذاته ، والكريم في أفعاله .
فله الحمد والمنّة .

  * * *


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الأحد 15 أكتوبر 2023 - 11:43 عدل 1 مرات

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبدالله المسافربالله

مُساهمة الأحد 15 أكتوبر 2023 - 11:42 من طرف عبدالله المسافربالله

الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني

638 . سورة الواقعة

السورة مكية ، قيل : إلا الآية :وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ( 82 ) ، وقيل : إلا أربع آيات ، منها الآيتان :أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ( 81 ) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ( 82 ) نزلتا في سفره إلى مكة ، والآيتان :ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ( 39 ) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ( 40 ) ، نزلتا في سفره إلى المدينة من مكة ، والصحيح أن السورة كلها مكية ، وآياتها ست وتسعون ، وترتيبها في المصحف السادسة والخمسون ، وفي التنزيل السادسة والأربعون ،
وموضوعها : القيامة وما يتلوها ، واسم القيامة في السورة هي الواقعة ، من استفتاح السورة بقوله تعالى :إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ( 1 ) ،
أي إذا قامت القيامة ، وهي واقعة حتما ، وجواب إذا :لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ( 2 ) ، يعنى وليس من شئ يكذّب أنها ستقع . ولأنها واقعة سميت بهذا الاسم ، كتسميتها في سور أخرى الصاخة لأن لها دويا يصخّ الآذان ؛ والآزفة : لأنه قد أزف موعدها وحان ؛ والطامة : لأنها تطمّ على كل شئ مفظع .

وتتكون السورة من تسعة مشاهد أو أجزاء ، تنضم معا وتكوّن وثيقة مستندية لأوصاف يوم القيامة ، فمن أراد أن يعرف عن وقائع هذا اليوم ، وفئات الناس فيه ، وأنباء أهل الجنة ، وأهل النار ، وأهل الدنيا ، فهذه السورة فيها أو في بيان ؛ واسمها كذلك الخافضة الرافعة : لأنه بالقيامة يخفض أقوام كانوا في معصية اللّه فيلقون في النار ودركاتها خفيضة ، وكان هؤلاء في الدنيا مرفوعين ، فيخفضون بالعدل ؛ ويرفع أقوام كانوا في طاعة اللّه ، وكانوا في الدنيا مخفوضين ، فيرفعون بالعدل والفضل ، والخافض والرافع في الحالتين هو اللّه ، يخفض على الحقيقة ، والخافض والرافع من أسمائه تعالى ، وهو يخفض المنكرين له إلى أسفل سافلين ، ويرفع أولياءه إلى أعلى علّيين .
وفي القسم الأول ترجّ الأرض رجّا ، وتزلزل يوم القيامة ، وينكسر كل شئ عليها من جبال وغير جبال ، وتبسّر وتتفتت ، وينسفها اللّه تعالى نسفا حتى لتصير كالهباء المنبث ، وكالغبار والشرار المتطاير .
وفي القسم الثاني : نعلم أن الناس في هذا اليوم ثلاث فئات أو طوائف : ففئة هم أصحاب الميمنة :

يؤخذون ذات اليمين إلى الجنة ، ويؤتون كتابهم بيمينهم ، وهم الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة ، وأهل الحسنات ، وأصحاب التقدّم ؛ وفئة أصحاب المشأمة : وهم المشائيم على أنفسهم بالأعمال السيئة ، يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، ويؤتون كتابهم بشمالهم ، وهم أصحاب التأخر ، وزاد في وصف هؤلاء وهؤلاء فقال :فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ( 8 ) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ( 9 ) ،
والتكرير في الآية الأولى للتفخيم ، وفي الثانية للتفظيع ، ولتعجيب السامع من شأن الفريقين أو الفئتين ، في الفخامة والفظاعة ، كأنه يقال : فأصحاب الميمنة في غاية حسن الحال ، وأصحاب المشأمة في غاية سوء الحال ، والمقصود تكثير ما لأصحاب الميمنة من الثواب ، وما لأصحاب المشأمة من العقاب .
والفئة الثالثة هي فئة السابقين : كرر اللّه تعالى السابقين فقال :وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( 10 ) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ( 11 ) ، وكأن المعنى : والسابقون ويا ما شاء اللّه على السابقين ، أولئك المقربون إلى اللّه ، في ظل جواره وفي ظل عرشه ، وفي دار كرامته ، وهم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم ، وكانوا السابقين إلى الإيمان ، وإلى الصلوات ، والجهاد ، وإلى التوبة ، وهم من أمة الإسلام أمثال أبى بكر ، وعمر :يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ( 61 ) ( المؤمنون ) ،وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ( التوبة 100 ) .
والناس ثلاثة : فرجل ابتدأ بالخير في حداثة سنّه وداوم عليه حتى خرج من الدنيا ، فهذا سابق مقرّب ؛ ورجل ابتدأ عمره بالذنوب وطالت غفلته ، ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها ، فهذا من أصحاب اليمين ؛ ورجل ابتدأ عمره بالذنوب ، ولم يزل عليها حتى ختم له بها ، فهذا من أصحاب الشمال .
وفي السورة تأخر ذكر السابقين وتقدّم ذكر أصحاب اليمين ، وكان الأولى أن يتقدم ذكر السابقين ، ويذكرهم أولا ، إلا أن السورة بدأت بمشاهد يوم القيامة تخويفا للناس ، فجعلهم لذلك إما محسنين فيزدادون رغبة في الثواب ، وإما مسيئين فيرجعون عن غيّهم ، فقدّم أصحاب اليمين ليسمعوا ويعوا ويرغبوا ، ثم ذكر أصحاب الشمال ليرهبوا ، وبعد ذلك ذكر السابقين ، لأن هؤلاء لا يرهبهم يوم الفزع الأكبر ، ولا يحزنهم ، ولا يكدّرهم ؛ ولأنهم بذكره ينبسطون ، وتنشرح له صدورهم ، وتبتهج قلوبهم ، لما ينتظرهم من جوائز اللّه ، وهمثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ( 13 ) ممن مضى من الأمم السابقة ،وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ( 14 ) من أمة محمد ،
كانوا قلة بالإضافة إلى من كانوا قبلهم ، فمن سبقوا زمنيا كان أنبياؤهم كثيرين ، فكثر السابقون إلى الإيمان بهم ، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمة محمد ، وفي الحديث : « إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، بل ثلث أهل الجنة ، بل نصف أهل الجنة ، وتقاسمونهم في النصف الثاني » ، فالأمر سباق بين الأمم إلى طاعة اللّه ، وفي السباق هناك المتقدّمون والمتأخرون ، والسابقون من الأمم كافة يكونون أكثر من السابقين من أمة واحدة ، وأما أصحاب اليمين من هؤلاء وهؤلاء فهم متساوون :ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ( 39 ) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ( 40 ) ، وقيل بل الثلتان من أصحاب اليمين ، ومن السابقين من أمة محمد ، فمنهم من هو في أول أمته ، ومنهم من هو في آخرها ، مثل قوله :فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ( فاطر 32 ) . وفي الحديث : « خيركم قرني » .
والثلّة : من ثللت الشيء ، أي قطعته ، فمعنى ثلة كمعنى فرقة .
وتستطرد السورة في القسم الثالث إلى وصف نعيم السابقين ترغيبا لأهل السبق ، وجنّتهم التي خصصت لهم هي جنة النعيم ، والجنات أنواع ؛ وسررهم أو مجالسهم فيها موضونة ، أي منسوجة ومرمولة بخيوط الذهب ؛ يجلسون متقابلين ويخدمهم ولدان لا يكبرون في السن ولا يشيخون ، ويشرف على خدمتهم حور عين ، واسعات العيون ، في غاية الجمال والبهاء ، كأنهن اللؤلؤ في الصفاء والنقاء ، يطوفون بأكواب وأباريق وكئوس ملؤها الخمر ، يجلبونها من العيون ، فلا تستخرج بعصر وتكلّف كخمر الدنيا ، ولا تنصدع بها الرؤوس ، ولا تذهب العقول ، ويقدّمون لهم الفاكهة مما يحبون ويختارون ، ولحم مما يشتهون من الطيور ، جزاء ثوابا بما كانوا يعملون . وفي جنة النعيم لا لغو ولا تأثيم ، ولا باطل ولا كذب ، إلا قيلا سلاما ،
فيردّ السامع يقول : سلاما - فهذه تحيتهم ، وهكذا تحييهم الملائكة . وفي الجزء أو المشهد الرابع : تقارن السورة بين أحوال السابقين وأحوال أصحاب اليمين ، والأخيرون ظلّهم ممدود ، أي دائم وباق لا تنسخه شمس ؛ ويشربون الماء الجاري المسكوب ؛ وفواكههم كثيرة لا تنقطع كانقطاع فواكه الدنيا في الصيف والشتاء ، ولا يحظر بعضها ويباح بعضها ؛ وأشجار السدر المخضود والطلح المنضود في كل مكان ، والأول هو النبق لم يعد له شوك ، والثاني هو الموز المتراكب بعضه فوق بعض ؛ وفرشهم أو مجالسهم مرفوعة ، وتطوف عليهم جميلات ، عرب بسّامات لطيفات ، أتراب متشابهات في السن . ثم تأتى المقارنة بين جزاء السابقين وجزاء أصحاب اليمين ، وجزاء أصحاب الشمال ،
وفي الجزء أو المشهد الخامس
الأخيرون ظلهم من يحموم وهو الدخان الأسود ، وتلفحهم رياح السموم الحارة تدخل في المسام ، ويسقون من حميم يحرق الكبد بحرارته وغليانه ، لا هو بارد ولا كريم ، كقوله :لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ( الزمر 6 ) ،
وهؤلاء كانوا في الدنيا مترفين ، وويل للمترفين المتنعّمين ؛ وفي القرآن تأتى المترفون ثماني مرات ، يتوعّدهم اللّه فيها جميعا ، وعندهم ما ثم غير الحنث العظيم ، أي الشّرك ، وليس من مترف إلا وفي قلبه شك وكفر بالآخرة والبعث والحساب ، وكان الرسول صلى اللّه عليه وسلم - ومن بعده أصحاب البلاغ والدعوة من أمة الإسلام - يقسم لهم كمقابل لقسمهم أو حنثهم بالباطل ، بأنهم مجموعون لهذا اليوم المعلوم ، وعندئذ يعذّبون ، وبدلا من طعام الدنيا المترف سيكون طعامهم شجرة الزقوم - أنتن وأبغض أنواع الشجر ، قيل يزقم أو يزكم الأنوف من رائحته الكريهة ، وليس لهم من طعام إلا لحاء هذه الشجرة ، يعضّون عليه ويملئون منه بطونهم حتى الشبع ، فلا يجدون لظمئهم إلا ماء الحميم المغلى ، يعبّونه كالحيوانات الهيم العطاش . وهكذا تنتهى هذه الأجزاء الخمسة من السورة ، وقد استنفدت وصف المنازل الثلاثة للفئات الثلاث يوم القيامة .

ثم يكون الجزء السادس : ويعالج أدلة وبراهين وجود اللّه وقدرته ، يسوقها حتى لا يكون هناك عذر لمعتذر : ويبدأ الحجاج في هذا الجزء بعبارة منطقية تحتمل التكذيب والتصديق ، فقال تعالى :نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ( 57 ) ، إلا أن منطق الحال في الكون يقضى بصدق العبارة ، لأنه إن لم يكن لهذا الكون خالق ، فكيف إذن كان الكون ؟ هل خلق نفسه ؟
فلا بد من التسليم بأن الخالق هو اللّه ولو ادّعى آخر بأنه الخالق لتشككنا في اللّه ، ولكن لم يدّع آخر بأنه الخالق ، فلم يعد إلا التسليم بدعوة اللّه أنه الخالق . فلو صدّقنا ذلك ، فهلا صدّقنا أيضا بالبعث ، لأن الإعادة كالابتداء - وتترى الآيات بالحجج أنه تعالى الخالق ،
وهي خمس حجج :
الأولى حجة المنىّ : فهذا المنىّ الذي نشهده يصب في الأرحام ، كيف جاء ، ومما خلق ؟ أليس الخالق هو اللّه ؟
ثم الحجة الثانية هي : حجة الموت والخلق ، فمن يستطيع أن يميتنا في الحقيقة ؟ أليس هو اللّه ؟ ومن يخلق من يحل محلنا ويأتي بعدنا ، أليس هو اللّه ؟

ألا يخلق الناس جيلا بعد جيل ، ونشأ بعد نشء ولم يكونوا من قبل شيئا ؟ فلما ذا لا يستطيع أن يبعثنا من جديد ؟ والذي أنشأنا النشأة الأولى قادر على أن ينشأنا النشأة الثانية !
والحجة الثالثة هي : حجة الزرع ، فهل نحن الذين ننبت هذا الزرع ونخرجه سنابل وثمرا ؟ فإذا أقررنا بأنه اللّه ، فلما ذا ننكر عليه أن يخرج الأموات من القبور ؟ ولما ذا لا نعتقد بوجوده وقدرته وقد أخرج لنا الحبّ والثمر ، وكان بوسعه أن يفسدهما فنندم على ما كان منا ، وما غرمنا من النفقة وحرمنا من الثمرة ، كقوله تعالى :فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها( الكهف 42 ) .
والحجة الرابعة : حجة الماء : وهو الذي به حياة النفوس ، فمن أنزله من السحاب ؟ ولو يشاء اللّه لجعله مالحا ، ولكنه صنعه عذبا فراتا ليصلح للزرع والشرب ، فلو لا نشكره تعالى على هذه النعمة ؟
والحجة الخامسة : حجة النار : والنار نوقدها وقتما نشاء ، فمن أنشأ وقودها ؟ ومن سبّب أسبابها ووضع قوانين عملها واندلاعها ونشوبها ؟

ولنار الدنيا هذه النار الصغرى خير برهان على وجود نار الآخرة أو النار الكبرى ، ثم إن نار الدنيا فيها فوائد ، فهي تبصرة للناس من الظلام ، ومتاع لهم في الخبز والطبخ والاصطلاء والاستضاءة . فهذه خمس حجج على عظمة اللّه تعالى ، فلننزّهه ولنسبّحه باسمه العظيم .
ثم يقسم تعالى بمواقع النجوم في الجزء السابع ، يقول : « لا أقسم » تأكيدا للقسم ، وإثباتا لعظمة النجوم ، بمنازلها وأماكن دورانها في أفلاكها ، وباجتماعها وانطراحها وانجذابها ، وبما يجرى فيها من تفجيرات نووية ، وما كانت عليه قبل أن تكون نجوما ، وما آلت إليه ، وأوضاعها في السماء ، إن كانت للزينة أو كانت مخازن للعناصر ، ومضابط للحركة في الكون والفضاء ، فكما أن النجوم ليهتدى بها في ظلمات البرّ والبحر فكذلك القرآن يهتدى به على ظلمات الكفر ، والضلال ، والظلم ، والجهل ومن ثم كان كتابا كريما على ربّه ، وكريما على المؤمنين ، وكريما في ذاته ، لما فيه من كريم الأخلاق ، وعظيم القيم والمعاني ، وإنه لمكنون محفوظ الأصل ، مصان عند اللّه تعالى ، لا تتنزّل به إلا ملائكة كرام بررة ، فيكتب في الصحائف ، ويصنع مصاحف تقتنى لتقرأ ويتعلمها المتعلمون ، ويعوا ما فيها ويترسمونه معاملة وخلقا ، فالمصحف أيضا كتاب كريم ، لا يمسه ولا يقرأه إلا المطهّرون ، طهّروا أنفسهم من الأحداث والأنجاس ، وطهّروها من الشرك ، وآمنوا بآياته ، يتفهمون معانيها ويهتدون بتعاليمها ، ويوحّدون ربّهم ، فالتوحيد هو رسالة القرآن ومضمونه ، ومن لم يؤمن باللّه فلن يفهم تفسير القرآن ، ولن يدرك تأويله .
وينبّه اللّه تعالى إلى أن سورة الواقعة بما فيها من أحاديث لن تعجب الكافرين والمنافقين ، فهؤلاء لا يهوون الصراحة ، وصنعتهم النفاق ، يودّون أن يدهن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم - أي ينافق - فيدهنون ، وبدلا من أن يشكروا اللّه على ما أولاهم من نعم ، جعلوا شكره أن ينافقوا ويكذبوا ، ويحذرهم اللّه أن يحين أجلهم فحينئذ تبلغ الروح الحلقوم ، والأهل من حول الميت ينتظرون ولا يقدرون على شئ ، واللّه أقرب إليه ممن حوله ولا يبصرونه ، فإن كان المنكرون غير محاسبين ، ولن يجازوا بأعمالهم ، وإن كان بوسعهم أن يمنعوا أن يحاسبوا ، فإنهم قطعا يقدرون كذلك على أن يمنعوا موت أهليهم ، حتى لا تقوم قيامتهم ويحين حسابهم وتبدأ مجازاتهم ؟
ولن يستطيعوا ! فلا يتبقى لهم إذن إلا أن يتركوا الأمر ، لصاحب الأمر القادر عليه ، وأن يعلنوا عن إيمانهم بربّهم .

وتعود السورة في الجزء الثامن إلى ما قالت به في البداية ، وهو تقسيم الناس يوم القيامة إلى فئات ثلاث :
ففئة المقربين : وهم السابقون لهم الرّوح أي الرحمة ، والريحان أي طيب الاستقبال وحسن الجزاء ، قيل : يلقون بعد الموت بأغصان الريحان المعروف ، وهو النبات طيب الرائحة ؛
وفئة أصحاب اليمين : وهؤلاء سالمون من العذاب ، ومنهم آل النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ؛
وفئة أصحاب الشمال : وهم المكذّبون الضالون ، وهؤلاء مشربهم من حميم ، أي الماء المغلى ، ويصلون الجحيم .

وتختتم السورة في الجزء التاسع بحاشية على ما سبق :إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ( 95 ) ،
أي خالص اليقين ، أضاف الحق إلى اليقين ، كقولنا « عين اليقين » ، و « محض اليقين » ، من باب إضافة الشيء إلى نفسه لتوكيده ، فأضيف المنعوت إلى النعت على الاتساع والمجاز .

واليقين ضربان : فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة ، وأيقن الكافر يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين !
فسبحانه ربّنا العظيم ، وعظنا بها فقال :فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ( 96 ) ، ولمّا نزلت هذه الآية قال النبىّ صلى اللّه عليه وسلم : « اجعلوها في سجودكم » أخرجه ابن ماجة فسبحانه ، له الحمد والمنّة ، ونسأله تعالى أن يحيينا ويميتنا على الكتاب والسنّة ، اللّهم آمين .

  * * *

639 . سورة الحديد

السورة مدنية ، نزلت بعد الزلزلة ، وآياتها تسع وعشرون آية ، وترتيبها في المصحف السابعة والخمسون ، وفي التنزيل المدني الثامنة ، وفي التنزيل عامة الخامسة والستون ، واسمها « سورة الحديد » لقوله تعالى :وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ( 25 ) ،
والحديد آية من آيات اللّه ، وهو تعالى قد شرع القتال ولا بد أن تكون له آلة ، وآلة القتال غالبا من الحديد ، ومنافعه كثيرة في السلم كما في الحرب ، ومنه تصنع الكثير من العدد والآلات ، وما من زراعة أو صناعة إلا والحديد يدخلها . والحديد أحد عناصر الشمس ،
وقوله « أنزلنا » فيه إعجاز علمي لا شك فيه ، لأن الحديد هو المكوّن الرئيسي في رماد النجوم ، ومنه ومن النيكل تكونت النيازك والشّهب ، وتكونت الأرض من حديد هذه النيازك ، وجوفها يسيل بالحديد والنيكل ، ويتألف كوكب عطارد من الحديد ، ويسمى لذلك الكوكب الحديدى . والحديد مفيد للصحة ، ويتحد بالبروتين ويكون هميوجلوبين الدم ، فالحديد إذن نعمة كبرى .
وفي الآية أن اللّه تعالى أنزل على الإنسان أربع نعم كبرى :
الأولى : الرسل أرسلهم بالشرائع ، ولولا ذلك لعاش الإنسان بشريعة الغاب ، ولمّا عرفنا الحرام من الحلال ، ولا الجميل من القبيح ، ولكانت الحياة للأقوى والأشرس وليس للأصلح . ولولا الرسل لما عرفنا عن الأخلاق والتربية ، ولا عرفنا عن اللّه ربّ الأكوان ؛ وما وحّدناه تعالى ؛
والثانية : الكتب السماوية التي نزلت بالحق ، وتعلّم الإنسان أن يكتبها صحائف ، ويصنعها مجلدات ، وتعلم القراءة ، والكتابة والحروف ؛
والثالثة : الميزان والعدل ، وبالميزان يمكن للعقل أن يزن الأمور ، وتأسس الاجتماع على العدل ، وقامت عليه المدنيات والحضارات ، ويرمز للعدل بسيدة معصوبة ، يعنى لا تعرف المحاباة . والعدل أساس الملك ؛
والرابعة : الحديد ، أنشأه وكل ما هو من جنسه من المعادن ، وأنزله اللّه إلى الأرض ، واكتشفه الإنسان .
فلما كانت قوة القيم : بالرسل والكتب والميزان ، كانت القوة المادية لتظاهر قوة القيم وتدفع عنها ، والحديد فيه البأس ، أي الردع الشديد لمن يأبى الحق ويعانده ، وحينئذ يكون القتال والحرب ، فهما من شرعة اللّه ، وأساسهما الحديد ، ولذا كانت حقبة التاريخ التي تم فيها اكتشاف الحديد لاحقة لثبوت القيم ، فصنع الإنسان منه الفأس للزراعة ، والسندان والمطرقة للصناعة ، والسيف للقتال وجميعها قيم مادية تظاهر القيم معنوية فأي نعمة كبرى هي نعمة الحديد ؟ !
فلا غرابة أن تسمّى به سورة كاملة . ( انظر الحديد في باب القرآن والعلم ) .
وسورة الحديد من السور المسبّحات التي تستفتح بقوله تعالى :سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( 1 )
والمسبّحات ثلاث سور ، هي : 
الحديد ، والحشر ، والصف .
والحديد أولاها ، والتسبيح تذكير به تعالى ، ولفت للانتباه إلى أن الكون كله خاضع له ، يدبّره ويصرّفه ويسيّره على مقتضى إرادته . والتسبيح من السباحة وهي الانبساط والانتشار والإبعاد في السير، والمسبّح يمعن في التفكير فيه تعالى فلا يملك إزاء عجائب ملكوته إلا أن يقول: سبحان اللّه!!تعجبا وتنزيها له تعالى عن كل نقص.
والتسبيح ضربان : تسبيح دلالة - تقول : سبحان مالك الملك ! سبحان الذي رفع السماء بلا عمد ! سبحان مقلّب القلوب ! تدلّ على صنعته تعالى ؛ وتسبيح مقال - تقول : سبحان اللّه وبحمده ! سبحان ربّى العظيم !
والتسبيح في السورة من النوع الأول ، ويأتي في ست آيات ، فيها : أنه تعالى العزيز الحكيم ، الذي له ملك السماوات والأرض ، والذي يخلق من عدم ، فكان اللّه ولم يكن الكون ، وهو يميت ، والموت من عالم الشهادة ، ويبعث ، والبعث نشهده في الأرض يحييها الماء ، فتضج بالمخلوقات والنباتات .
وهو تعالى الأول : ليس قبله شئ ، والآخر : ليس بعده شئ ، والظاهر : لم يظهر عليه شئ ،والباطن : فليس وراءه شئ ، وهو وراء كل شئ ، وحقيقة كل شئ ، خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، واليوم هو الوقت الاصطلاحي ، أو الوقت مطلقا ، من يمّم أي قصد وتوخّى ، فهو الوقت الذي يستغرقه إتمام القصد ، والأيام الستة قد تكون من أيام الأرض ، كناية عن سرعة خلقه تعالى للكون بقوله كن ، وقد تكون من أيام الآخرة ، كل يوم بألف سنة من سنين الأرض ، والعدد ألف يقال مجازا عن طول المدة ، والحقيقة أنه لا علم لنا بالمدة التي استغرقها الخلق ، فكلها أقوال تقريب الخلق العظيم من أفهام المخلوقين ، وهو في الأول والآخر الخالق المبدع والعالم القادر ، سبحانه . والعرش هو الكون بأسره ، ما نعرف منه وما لا نعرف .

والاستواء : هو التمكّن والسيطرة ، فصار الكون إليه ، وصار تدبيره عليه ، وتحقق علمه به ، وبما يلج ويعرج فيه ، وبما يتنزّل منه ، وهو في كل مكان ، ومع كل إنسان ، والزمان من إبداعه ، والليل والنهار من اختراعه ، وخلق لهما أدواتهما من شمس وقمر ، وأرض وسماء ، وشروق وغروب ، وأحاط علمه بكل شئ ، ولا يخفى عليه ما في الصدور ، ولا ما تتحدّث به النفوس ، وتحتشد له النوايا والسرائر .
وبمثل ذلك بدأت السورة ، فكانت قمة في التسبيح والتمجيد للّه ، فأرشدت المؤمن الحائر ، ودلّت القلب الواعي ، فكأن هذا الجزء من السورة هو مقدمة للجزء الثاني عن دعوة الإسلام ، في مثل قوله تعالى :آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ( 7 ) ،
ليس لأن اللّه يحتاج إلى من يشهد له ، وإنما لأن في الإيمان بالإسلام صلاح للبشرية وللأحوال في الأرض ، والصلاح قوامه المال ، والمال يؤتيه اللّه من يشاء ويستخلفه فيه ، لينفقه صاحب المال في الخير ، وربطت السورة بين الإيمان والإنفاق ، بقوله تعالى :فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ( 7 ) ،
ونظرية الأجر من نظريات القرآن ، والأجر هو الثواب والعقاب على العمل ، ومن يجحد الثواب والعقاب جاحد للّه ولتعاليم القرآن . والإنفاق من ركائز اشتراكية الإسلام ، وأساس هذه الاشتراكية أن المال للّه ، وأن الإنسان مستخلف عليه ووكيل عن اللّه فيه . وقوله تعالى :وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ( 8 ) استفهام للإنكار والتوبيخ ،
والآية فيها أن النبوة ضرورية لمعرفة اللّه ، ولسدّ حاجة الإنسان للشرائع ، وأن الإيمان طبع مركوز في الإنسان ، وهو الميثاق : شدّ اللّه به وثاق الإنسان بنصب القدرة فيه على الاستدلال ، وأن يتفهم الحجج والبراهين فيتأكد من وجوده تعالى ، ويتوثّق من وحدانيته .
والآية تحضّ الإنسان على أن يؤمن حالا وليس مستقبلا ، فإن كان به ميل للإيمان ، فليؤمن الآن وليس غدا ، والآن أحرى الأوقات لاستكناه الدلائل واستنباط البراهين ، ومهمة النبىّ : هي تبديد ظلمة الجهل باللّه ودحض إنكاره ، وما يتلوه النبىّ من كتاب هو نور لأصحاب البصر والبصيرة .
وليس لجحود الإنسان باللّه من سبب سوى أن للإيمان تكاليف ، والإنسان لا يريد ديانة مكلّفة تستنفد منه المال ، مع أن هذا المال سيتركه إذا مات ليرثه غيره ، وكان الأولى به إذن أن ينفقه لصالح نفسه في الدنيا والآخرة .
وشتّان بين أن تؤمن وتنفق والإسلام لمّا ينتصر بعد ، ولا مطمع لك في شئ ، ومنطق الحال يجزم أنك تنفق على قضية خاسرة وغير مضمونة - وبين أن تؤمن وتنفق بعد انتصار الإسلام وأنت متأكد مما سيأتيك من المغانم ، وكلا وعد اللّه الجنة - الذي أنفق من قبل والذي أنفق من بعد ، ولكن مع تفاوت الدرجات .
وسمّى اللّه الإنفاق قرضا من الإنسان للّه ، يردّه له مضاعفا يوم القيامة ، والنور يسعى بين أيدي المؤمنين والمنفقين في طريقهم إلى جنة الخلد .
وفي السورة وصف لجانب مما في الآخرة من تمييز بين الجنة والنار يفصل بينهما سور ، باطنه من جهة المؤمنين المنفقين رحمة ، وظاهره من جهة المنكرين الأشحاء من قبله العذاب .
وتحذر السورة المؤمنين أن يكون حالهم حال اليهود ، فلمّا نسوا اللّه قست قلوبهم وشاع بينهم الفسق ، وتحضّهم على التزوّد بتعاليم اللّه من القرآن ، وباتباع سنّة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، لتظل قلوبهم حيّة فلا تموت عنها الرحمة ، ومثل ذلك المطر ينزل على الأرض الميتة فيحييها ، وكذلك الإقبال على العلم والأخذ بالدين .
وأبلغ ما تدعو إليه هذه السورة هو الإنفاق ، وإن شئت تصنيفها فهي سورة الإنفاق ، فكما أن هناك سورا في التعبئة العسكرية ، وسورا في القتال ، وسورا في التوحيد ، وهكذا ، فكذلك هذه السورة فإنها في اشتراكية الإسلام ، ومدارها : أن المال للّه ، وأن الأغنياء وكلاؤه ، وأنه بشرع اللّه ينبغي أن يكون دولة بين الناس جميعا ، فلا تستأثر به طبقة دون طبقة ، بل يستطرق في كل الطبقات .
وتعرّف السورة المصدّق والمصدّقة : بأنهما اللذان يقرضان اللّه قرضا حسنا .
والقرض اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء ، وما يسلف من العمل الصالح ، ويكون في المال يقرض للناس ، أو يقرض للّه ، وتمثيل الصدقة بالقرض ، تأنيس وتقريب للناس بما يفهمونه ، وتشبيه لعطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو به الثواب في الآخرة ، وكنّى اللّه عن الفقير المتلقى للصدقة بنفسه العليّة المنزّهة عن الحاجات ، فقال : إن الصدقة قرض للّه ، ترغيبا في الصدقة . وهي قرض حسن ، لأن نيّة التصدّق بالصدقة نيّة حسنة ، وليس فيها منّ ولا أذى ، وجزاء القرض :يُضاعَفُ لَهُمْ( 18 ) أي كقوله :مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها( الأنعام 160 ) ،
وقوله :فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً( البقرة 245 ) ، يعنى قد تكون الحسنة بعشرة أمثالها ، أو بأكثر من ذلك حتى سبعمائة ضعف ،
كقوله :كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ( البقرة 261 ) ، وإذن فالمصدّقون والمصدّقات هم حقا الصدّيقون ، أي الذين صدّقوا وأخلصوا حتى الشهادة . ثم تنتقل السورة إلى وصف الدنيا وتسمّيها دار لعب ولهو وزينة ، وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد ، وتدعو الناس أن يتسابقوا في الإنفاق ، لتكون لهم الجنة .
واللهو بالنسبة للصدّيق هو ما يلهى عن الآخرة ؛ والزينة هي ما يرضى غرور الجهلاء من فاخر الثياب والرياش ؛ والتفاخر هو المباهاة بالأحساب والأنساب والأموال والأولاد .
واللّه يعلم حقائق الناس ، ويعرف ما يمكن أن يصيبهم من مكاره ، وما يحدث في الأرض من مصائب ، وكلّ تصيبه المصائب وتأتيه النّعم بقدر وسعه ، فلا ينبغي أن نحزن على ما يفوتنا ، ولا نغتر بما نحصّله ، ولنترك القنوط تركنا للأشر والبطر ، ولننفق ونوسّع على الناس ، ولا نبخل ولا نأمر بالبخل .
وما أرسل اللّه تعالى الرسل ، ولا نزّل الكتب ، ولا الميزان ، ولا الحديد ، إلا لتوضيح الحق ولنصرة الدين .
والرسل تتابعت منذ نوح وإبراهيم ، ومن بينهما وبعدهما حتى عيسى بن مريم ، وجميعهم يدعو بدعوة واحدة ، فاهتدى بهم من اهتدى وفسقت الكثرة عن أمر ربّها ، والمهتدى - كأنصار عيسى ، كانت بهم رأفة ورحمة ، وابتدعوا الرهبنة ابتغاء رضا اللّه ، وأما من ضلّ فهؤلاء أفسدوا كل شئ حتى الرهبنة التي ابتدعوها .
وتختتم السورة بالدعوة إلى تقوى اللّه ، والإيمان برسوله ، فيكون للمؤمنين المتّقين نصيبان من الرحمة ، نصيب كأجر للتقوى ، ونصيب كأجر للإيمان .
ومن مزايا الإيمان أنه نور لصاحبه يهديه السبيل ، وبالإيمان يغفر له .
ورسالة محمد ليست إلا الإخبار بكل ذلك والوعد به ، والنبوة لم تكن وقفا على اليهود كما يدّعون ، ولكنها فضل اللّه يأتيه من يشاء من عباده .

والسورة فيها الكثير من المصطلحات ووجوه البلاغة ، كقوله تعالى :مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ( 11 ) وهو تعبير جميل فيه ندب إلى الإنفاق في سبيل اللّه ؛ وفي قوله تعالى :يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ( 6 ) دليل على كروية الأرض ، فما كان من نصف الأرض مواجه للشمس كان نهارا ، والآخر البعيد يكون في الظلام ، وبدوران الأرض حول نفسها ودوراتها حول الشمس يصبح النهار ليلا ، والليل نهارا ؛
وفي قوله :ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها( 4 ) دليل على أن باطن الأرض يستقبل ما ينزل من السماء ، ولقد استقبل الحديد والنيكل ونفذا إلى باطن الأرض ، فكان هذا الباطن كله منهما . وأما قوله عن  السماء :وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها( 4 ) دليل على أن كل ما في الأرض أصلا من السماء ، والسماء ليست واحدة ولكنها سبع سماوات ، والطريق بينها علميا معرّج ، وكل هذه الآيات من معجزات القرآن العلمية ؛
وقوله :أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ( 16 ) عتاب للإدلال ، وفي الآية أن المؤمنين لم تخشع قلوبهم بعد لذكر اللّه ، وأنه تعالى يستبطئهم بالخشوع ، وكان ذلك بعد الهجرة بسنة ، وهؤلاء آمنوا في العلانية باللسان ولكن كانت ما تزال بهم آثار كفر ، وبعضهم مال إلى المزاح والضحك لمّا أترف في المدينة ، فكان التحذير من أن يكون مصيرهم مصير أهل الكتاب ، فلمّا طال عليهم الأمد قست قلوبهم ، حتى اخترعوا كتابا من عند أنفسهم ، ليشبع فيهم غرورهم ، ويرضى نزعاتهم إلى الاستعلاء والاستكبار اللذين نشهدهما فيهم الآن .
وهذه الآية كانت سبب إيمان كثيرين ، ومنهم عبد اللّه بن المبارك ، والفضيل بن عياض ، فكان ابن المبارك يحب أن يجالس أصحابه ، ويضرب العود ويستمتع بالطعام والشراب ، فسمع مقرئا يقرأ الآية ، فكسر العود ، وصرف من كان عنده ، فكان ذلك أول زهده وتشميره .
وأمّا الفضيل ، فكان يعشق جارية فواعدته ليلا ، فبينما هو يرتقى الجدران إليها ، إذ سمع قارئا يقرأ الآية ، فرجع القهقرى يقول : بلى واللّه قد آن ! ؛
وفي قوله تعالى :اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها( 17 ) الدليل على البعث ، فبعد أن تموت الأرض - أي نباتها وحيوانها في الشتاء ومع الجدب ، إذا بالمطر ينزل فيخرج النبات وتنشق الأرض بالمخلوقات ، وإذن يمكن البعث بعد الموت .
والحمد للّه ربّ العالمين ، واللّه سبحانه الموفّق للصواب .

  * * *


عدل سابقا من قبل عبدالله المسافر في الأحد 15 أكتوبر 2023 - 22:46 عدل 3 مرات

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

عبدالله المسافربالله

مُساهمة الأحد 15 أكتوبر 2023 - 11:43 من طرف عبدالله المسافربالله

الباب السادس موجز سور القرآن من 621 الى 640 من موسوعة القرآن العظيم الجزء الأول د. عبد المنعم الحفني

640 . سورة المجادلة

السورة مدنية إلا من قول البعض أن العشر آيات الأولى منها مدنية والباقي مكية ؛ وقيل : كلها مدنية إلا قوله تعالى :ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْمن الآية السابعة . والصحيح أن آياتها جميعا مدنية ، وعددها اثنتان وعشرون آية ، وترتيبها في المصحف الثامنة والخمسون وفي التنزيل المدني التاسعة عشرة ، وفي التنزيل بعامة الخامسة بعد المائة .
وتتناول موضوعات كثيرة ، منها : أحكام الظهار والكفّارة عليه ، وأصول التناجى ، وآداب المجالس ، والصدقة عند مناجاة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وحزب الشيطان من المنافقين أولياء اليهود ، ممن يحادّون اللّه ، وحزب اللّه من المؤمنين ، ممن لا يوادّون من حاد اللّه ورسوله .

والسورة نزلت استجابة لحاجة يومية ، وتشريعاتها أملتها ضرورات من حياة الناس ، فالإيلاء مثلا والظهار كانا يكثران في الجاهلية ، ويعتبران طلاقا ، وظاهر في عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم كثيرون وكان أولهم أوس بن الصامت شقيق عبادة بن الصامت ، وامرأته خولة أو خويلة ، وقيل جميلة بنت ثعلبه بن مالك ،
وقيل : بنت حكيم ، أو بنت دليج ، أو بنت خويلد ، والأصح أنها خولة بنت ثعلبة ، وكان زوجها أوس قد حلف عليها فقال : « أنت علىّ كظهر أمي » ، فخشيت أن يكون ذلك طلاقا ، فأتت الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فقالت : يا رسول اللّه ، إن أوسا ظاهر منى وإنّا إن افترقنا هلكنا ، وقد نثرت بطني منه وقدّمت صحبته ! وشكت إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهي تبكى ، وجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لها : « يا خويلة ، ابن عمك شيخ كبير فاتقى اللّه فيه » .
ولم يكن قد نزل في القرآن شئ عن الظهار ، وما برحت المرأة تجادل عن نفسها وتقسم للرسول صلى اللّه عليه وسلم فتقول : واللّه ما ذكر أوس طلاقا !
ثم قالت : أشكو إلى اللّه فاقتي ووحدتي ووحشتي ، وفراق زوجي وابن عمى وقد نفضت له بطني !
وقالت : يا رسول اللّه ، قد نسخ اللّه سنن الجاهلية ؛ وما طلّقنى زوجي ولكن ظاهر منى ! فقال لها : 
« ما أوحى إلىّ في هذا شئ ؟ » فقالت : يا رسول اللّه ، أوحى إليك في كل شئ وطوى عنك هذا ؟ !
فقال : « هو ما قلت لك » ، فقالت : إلى اللّه أشكو لا إلى رسوله ! فأنزل اللّه صدر سورة المجادلة :قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ( 1 ) ، وتسمّى آية الظهار ، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأوس تكفيرا : « اعتق رقبة » ، فقال أوس : ما لي بذلك يدان ، يعنى أنه فقير لا أرقاء عنده .
فقال له : « فصم شهرين متتابعين » ، فقال : أما أنى إذا أخطأنى أن آكل في يوم ثلاث مرات يكلّ بصرى - يعنى أنه أضعف من أن يصوم .
فقال له : « فأطعم ستين مسكينا » ، فقال : ما أجد إلا أن تعيننى منك بعون أصله .
فأعانه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمسة عشر صاعا ( مكيالا ) .

والظهار من الظهر ، والموجب لحكم الظهار تشبيه الظهر المحلّل بظهر محرّم ، فمن قال لزوجته : أنت علىّ كظهر أمي ، صار مظاهرا .
والرجل لا يركب ظهر المرأة وإنما يركب بطنها ، ولكن كنّى عن ركوب البطن تأدّبا ، بركوب الظهر ، لأن ما يركب من الحيوانات فإنما يركب ظهره ، فكنّى بالظهر عن الركوب وليس عن النساء بالحيوان .
ومعنى « أنت علىّ كظهر أمي » ، أن المرأة صارت محرّمة عليه ولا يحلّ له ركوبها إلا بعد كفّارة والظهار لذلك على الرجال ، وليس على النساء ظهار . والمظاهر لا يقرب امرأته ولا يباشرها حتى يكفّر ، ولا يصحّ ظهار غير المدخول بها .
والظهار ضربان : صريح وكناية ، فالصريح بقوله : أنت علىّ كظهر أمي ؛ والكناية كقوله : أنت علىّ كأمي ، أو مثل أمي .
وقوله :وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا( 3 ) ،
لا يعنى أن كفارة الظهار لا تكون إلا إذا ظاهر الزوج امرأته للمرة الثانية ، وإنما يعنى العود والعزم على مواصلة الحياة الزوجية ، ومن ثم تكون الكفارة واجبة قبل العود . وحكم الظهار ناسخ لما كانوا عليه في الجاهلية من كون الظهار طلاقا ، ولا ظهار الآن ، وإن حدث مثله بين الزوجين فلا يحق لهما كتمانه ، كما لا يحق لهما الانتقاص من الكفّارة عنه طالما في استطاعتهما .
والكفّارة على الزوج ، وواجب المرأة أن تعينه بحسب قدرتها ، ويسمّى القرآن العمل بغير حدود اللّه محاداة ، أي مخالفة الحدود ومعاداتها ورفضها .
والمحاداة : من حدّ ، وأصلها الممانعة ، ومنها الحديد : وهو المعدن المنيع ، والحدّاد : واللّه تعالى يحصى على المحادين محاداتهم ، وهو المطّلع والشهيد .

وتتطرق السورة إلى النجوى : وهي ما يكون من خلوة ثلاثة : يسرّون شيئا ويتناجون به ، كأن يكون الظهار مثلا أو كفارة الظهار ، ولا يريدون التصريح به ، ويؤثرون أن يسرّوه ، والسّرار : ما كان بين اثنين .
وأصل النجوى من النّجوة ، وهي ما ارتفع من الأرض ، فالمتناجيان يتناجيان ، ويخلوان بسرّهما كخلو المرتفع من الأرض عمّا يتصل به ، واللّه يعلم ما يقول الواحد لنفسه ، ويعلم ما يتناجى به الاثنان ، والثلاثة ، والأربعة ، والخمسة ، ولا تخفى عليه خافية ، وهو معهم بعلمه حيثما كانوا ، من غير زوال ولا انتقال . والسورة تنبّه إلى صفة من صفات المنافقين عموما ، واليهود خصوصا ، هي النجوى ، والنجوى من مصطلحات علم النفس والطب النفسي الإسلاميين .
وقوله تعالى :أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ( 8 )
في اليهود والمنافقين ، كانوا حلفا واحدا ، وكثيرى النجوى فيما بينهم ، ويتغامزون على المسلمين بأعينهم ، وقد شكا المسلمون ذلك إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا ، فنزلت الآية .
وكانت بين اليهود والنبىّ صلى اللّه عليه وسلم موادعة : أي هدنة ، فكانوا إذا مرّ بهم مسلم تغامزوا عليه وتناجوا ، حتى ليظن المسلم أنهم يدبّرون له شرا ، فيلوى عن طريقه .
وكانوا يدافعون عن بعضهم البعض إذا سألهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن سبب إتيانهم للنجوى ، وسمى الرسول صلى اللّه عليه وسلم دفاع الرجل عن الرجل بالباطل الشرك الخفي ، يعنى أنه يعمل له بدلا من أن يعمل للّه .
وذكرت الآية ضمن مساوئ اليهود وانحطاط خلقهم ما هو أسوأ من النجوى ، وهو أن يحيّوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم بما لم يحيّه به اللّه ، فإذا دخلوا عليه قالوا « السام عليك » ، يريدون بالسام السلام ظاهرا ، وهم يعنون تمنّى الموت له باطنا ، والسام هو الموت ، فكان الرسول صلى اللّه عليه وسلم يردّ عليهم في أدب ، وبحسب نواياهم : « وعليكم » ، واعتبروا ذلك ضعفا فيه وفي ربّه ، وإلا لعاقبهم اللّه غيرة على نبيّه . 

وكان الرسول صلى اللّه عليه وسلم يقول : « لا أحد أصبر على الأذى من اللّه .
يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم » . وعلّم المحيطين به  فقال : « إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت » ، وفي ذلك نزلت الآية :وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ( 8 )
ولمّا ذكرت السورة أن المنافقين واليهود يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى اللّه عليه وسلم ثنّت فنهت المؤمنين أن يفعلوا ذلك ، وأمرتهم أن تكون نجواهم بالبرّ وتقوى اللّه الذي إليه يحشرون .
ووصفت النجوى بأنها من الشيطان ، وردّت الدافع إليها عند غير المؤمنين هو إدخال الحزن على المؤمنين ، والدافع النفسي أقوى من أي دافع مادي ، وإحباط المسلمين إصابتهم بالاكتئاب وبلبلة تفكيرهم ، والفتّ في عضدهم ، وهو نوع من الحرب النفسية المقصود بها اختراق الدفاعات النفسية للمسلم ، وإضعاف جبهته الداخلية ، وخلخلة مقاومته ، وإنهاك قواه الذاتية ، وذلك كله لا يمكن أن يتحقق مع إيمان المؤمنين ، فالإيمان يكسبهم مناعة ذاتية ، وهو بمثابة الدرع الواقى .
والتناجى لا يضر أحدا ، إلا لو كان هذا الضرر قد كتبه اللّه على المضرور من قبل وقوع الضرر ، ولا ضرر من التناجى إذا توكل المؤمنون على اللّه حقّ التوكل ، وفوّضوا إليه أمرهم ، واستعاذوا به من أذى المتناجين ، ويشبه التناجى في العمليات النفسية ما يسمونه « التأثير عن بعد » و « التأثير بالإيحاء » ، وكلاهما من أبواب التحليل والطب النفسي .
والوصفة الطبية التي يصفها القرآن لإبطال مفعول التناجى هي وصفة نفسية ، وهي المزيد من الإيمان باللّه ، والأخذ بأسبابه والاعتقاد جازما أنه ما أصيب مؤمن ولا نجا إلا بإذنه تعالى ، وعن الرسول صلى اللّه عليه وسلم قال : « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر ، حتى تختلطوا بالناس ، من أجل أن يحزنه » ، أي حتى لا يقع في نفسه ما يحزن لأجله ، ولا يظن أن حديث الاثنين عنه بما يكره ، أو أنه ليس أهلا ليشركوه في حديثهما ، والخطاب للمؤمنين ، والتعليم لهم ، فلا يتناجى أربعة دون واحد ، ولا عشرة ، ولا ألف ، والآية ضمن باب آداب السلوك في الإسلام .
وطالما أننا بصدد الآداب العامة للسلوك في الاجتماع ، فإن السورة تطرّقت إلى آداب المجالس ، تقول :يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ( 11 ) ،
والخطاب والتعليم للمؤمنين ، أمروا أن يفسحوا لإخوانهم في المجالس أيا كانت ، سواء كانت للعلم ، أو للذكر ، أو للمداولة في أمور السياسة والتجارة ، أو للصلح ، فإن لكل واحد من السامعين أو المشتركين مكانا فيها حتما ، وهو أولى به بحسب أحقيته ، والمعيار في ذلك هو الإيمان والعلم ، فأهل الصلاح والعلماء لهم السبق إلى صدور المجالس ، وهؤلاء يرفعهم اللّه درجات عن غيرهم من السواد والعامة ، ولهم الرفعة ، والمؤمن مرفوع بإيمانه أولا ، ثم بعلمه ثانيا ، لأن العلم يؤدى إلى الإيمان وليس العكس ، والإيمان هو الغاية من العلم ، فأهل الإيمان مقدّمون على أهل العلم .

وتتطرق السورة إلى مجال آخر من مجالات الأدب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، تقول :إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( 12 ) ، ومناجاة الرسول صلى اللّه عليه وسلم هي أن يخلصه بسرّ ، وكان المسلمون يكثرون المسائل عليه حتى شقّوا عليه ، وكان بعضهم يشغلونه ويناجونه ، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونه بالنجوى ، فشقّ عليهم ذلك ، فأمروا بالصدقة عند النجوى ليقطعوا عن استخلائه . 
وكان اليهود والمنافقون يناجونه ويقولون : هو أذن يستمع لكل شئ ولا يمنع أحدا من مناجاته .
ولم يذكر لصدقة النجوى أي مقدار معين ، فالأمر متروك للمتصدّق ، وإن لم يجد فلا شئ عليه ، وبعضهم كالمنافقين ، كانت الصدقة بوسعه ولكنه بخل ، فنزلت الآية :أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ( 13 ) ،
والتوبة تعنى إعفاؤهم منها ، وذلك ليس نسخا للآية قبلها كما قيل ، وإنما هي تأكيد لما قبلها في قوله :فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( 12 ) ، وتكفى الزكاة وأداء الفرائض لأمثال من أراد أن يستعفى من صدقة النجوى .
وقيل إن أحدا لم يتقدم بشيء من هذه الصدقة ، والذين نسبوا لعلّى أنه كان أول من تصدّق ، ولم يكن أحد بعده ، ادّعوا ذلك ليقدّموه على غيره ، وهؤلاء من شيعته ، وقالوا إنه تصدّق بخاتم .
وواضح من الآيتين بعد ذلك في قوله :أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( 14 )
وقوله :اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ( 16 )
أن الذين كانوا يشوّشون على تعاليم القرآن وتعليم الرسول صلى اللّه عليه وسلم هم المنافقون واليهود ، ومن الأولين عبد اللّه بن أبىّ ، وعبد اللّه بن نبتل ، وكانا يجالسان النبىّ صلى اللّه عليه وسلم ثم ينقلان ما يسمعان إلى اليهود ، وإذا عوتبا كذّبا التهمة وحلفا باللّه أنهما لصادقان .
وفي أمثالهما نزلت الآيات المتبقية من سورة المجادلة ، تنبّه إلى العذاب المنتظر لهؤلاء ، ولكل من يحادّ اللّه ورسوله ، واللّه غالب على أمره ، وتحذّر المؤمنين أن يوادّوا من حادّ اللّه حتى لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ،
وتقسّم الناس إلى حزبين :
حزب الشيطان : وأعضاؤه الكاذبون الذين نسوا اللّه ، وهم من المترفين أصحاب المال والحسب والنسب ،
وحزب اللّه : وأفراده من المؤمنين الذين يعمر الإيمان قلوبهم ، والذين يؤيدهم اللّه بروح منه ، ولا يحادّون اللّه ورسوله ، ولا يوادّون من حادّ اللّه .
والأوّلون حزبهم هو الخاسر ، والآخرون حزبهم هو الفالح .

ومن مصطلحات هذه السورة : الجدل في قوله تعالى : « التي تجادلك » ، وهو حوار بين أطراف لبلوغ الحقّ ، ودعوة إلى كلمة سواء ، وكانت حجة خولة بنت ثعلبة قوية في رفض الظهار ، وكان الرسول يدفع عن نفسه ويقول : « ما أوحى إلىّ في هذا شئ » .
وإيراد آداب النجوى والمجالس والسلام والتحية ضمن سورة المجادلة ؛ لأن هذه الآداب من الأمور التي قد يدور حولها الجدل وتحتاج إلى إقناع من نريد إقناعهم بها ؛ والحوار والمحاورة : في قوله تعالى :تَحاوُرَكُمامن حار الشيء يحور إذا رجع ، فالحوار هو المراجعة ، وأن يتحاورا : 
يعنى يتراجعا ،
وكلا المتحاورين يذكر دفوعه ويراجع أقوال الآخر ويفنّدها ، ومن ذلك الحواريون جمع حواري وهؤلاء تلاميذ المسيح كانوا يتعلمون منه ويتحاورون معه ويجادلونه ؛
والكبت في قوله تعالى :كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: من مصطلحات التحليل النفسي والطب النفسي الإسلاميين ، وصف به الذين حادوا اللّه ورسوله ، فإنهم لم يصرّحوا بحقيقة تفكيرهم ومشاعرهم وكبتوها ، وأظهروا أفكارا أخرى ومشاعر مختلفة ، ظاهرها الحق ، وباطنها كراهية الرسول صلى اللّه عليه وسلم والكفر باللّه ، ولذلك سموا منافقين ؛
وتحرير رقبة في قوله :فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، والرقبة في اللغة هي العنق أو مؤخّره ، أو هي العبد المملوك ، وتسميته بالرقبة من باب تسمية الكل بأشرف أجزائه ، وتحريره هو عتقه وإطلاقه من أسر العبودية ؛
والزور في قوله :وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً. هو الكذب ، فقد جعلت السورة الظهار كذبا ، لأن المظاهر يجعل امرأته كأمّة :إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ. وقيل في الظهار إنه يحرم لأربعة أسباب :
الأول : قوله :ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْتكذيب لقول المظاهر « أنت علىّ كظهر أمي » ؛
والثاني : تسميته منكرا ؛
والثالث : تسميته زورا ،
والرابع قوله :وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ( 2 )
فإن العفو والمغفرة لا يقعان إلا في ذنب ، والمظاهر إذن مذنب وتلزمه الكفّارة ؛ والستون مسكينا : في شأن الكفارة ، لأن المظاهر بدلا من الصيام شهرين ، والشهر ثلاثون يوما ، فيصبح مجموعه ستين ، باعتبار إطعام مسكين كل يوم ؛
والفسحة في قوله :يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ: هي التوسعة ، تكون في المكان ، كما تكون في الرزق ، والقبر ، والجنة ، والصدر ، وتقول سعة الصدر يعنى الصبر والاحتمال . واللّه تعالى الموفّق للصواب .

  * * *

عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى