المواضيع الأخيرة
المواضيع الأكثر نشاطاً
البحث في جوجل
حدثني قلبي عن ربي - ليس بي يتمسحون - تقرب إلي بالذلة والافتقار - لا صباح لى ولا مساء .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
اتقوا الله ويعلمكم الله :: ديوان الشيخ الاكبر محيي الدين ابن العربى الحاتمى الطائى قدس الله روحه :: فى رحاب الشيخ الاكبر محيي الدين ابن العربى الحاتمى الطائى :: كتب من كلمات الشيخ الأكبر محي الدّين ابن العربي الطائي الحاتمي جمع أ. محمود محمود الغراب :: شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر محي الدّين ابن العربي الطائي الحاتمي
صفحة 1 من اصل 1
17042021
حدثني قلبي عن ربي - ليس بي يتمسحون - تقرب إلي بالذلة والافتقار - لا صباح لى ولا مساء .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
حدثني قلبي عن ربي - ليس بي يتمسحون - تقرب إلي بالذلة والافتقار - لا صباح لى ولا مساء .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر محيي الدين محمد ابن العربي لجامعها أ. محمود محمود الغراب
أبو يزيد البسطامي
توفي عام 261 هـ
ترجمته : هو طيفور بن عيسى بن شروشان البسطامي ، قطب زمانه ، نال الخلافة الكبرى ، وحاز جميع مقاماتها ، له قدم راسخة في مجاهدة النفس ،
قال : كنت أظن في برّي بأمي ، أني ما أقوم فيه لهوى نفسي ، بل لتعظيم الشريعة حيث أمرتني ببرها ، فكنت أجد في نفسي لذة عظيمة ، كنت أتخيل أن تلك اللذة من تعظيم الحق عندي ، لا من موافقة نفسي ، فقالت لي في ليلة باردة " اسقني يا أبا يزيد ماء " فثقل عليّ التحرك لذلك ،
فقلت : واللّه ما خفف عليّ ما كانت تكفلني فعله ، إلا لموافقة كانت في نفسي من حيث لا أشعر ؛ فأبطل عمله وما سلّم لها ،
قال أبو يزيد : فقمت بمجاهدة وجئت بالكوز إليها ، فوجدتها قد سارع النوم إليها ونامت ، فوقفت بالكوز على رأسها حتى استيقظت ، فناولتها الكوز وقد بقي في أذن الكوز ، قطعة من جلد أصبعي لشدة البرد انقرضت ، فتألمت الوالدة لذلك ؛
قال أبو يزيد : فرجعت إلى نفسي وقلت لها : حبط عملك في كونك كنت تدعين النشاط في عبادتك والاتباع ، أن ذلك من محبتك اللّه ، فإنه ما كلفك ولا ندبك وأوجب عليك إلا ما هو محبوب له ، وكل ما يأمر به المحبوب عند المحب محبوب ، ومما أمرك اللّه به يا نفسي البر بوالدتك والإحسان إليها ، والمحب يفرح ويبادر لما يحبه حبيبه ، ورأيتك قد تكاسلت وتثاقلت ، وصعب عليك أمر الوالدة حين طلبت الماء ، فقمت بكسل وكراهة ،
فعلمت أنه كل ما نشطت فيه من أعمال البر ، وفعلته لا عن كسل ولا تثاقل ، بل عن فرح والتذاذ به ، إنما كان ذلك لهوى كان لك فيه ، لا لأجل اللّه ، إذ لو كان للّه ما صعب عليك الإحسان لوالدتك ، وهو فعل يحبه اللّه منك وأمرك به ، وأنت تدعين حبه ، وأن حبه أورثك النشاط واللذة في عبادته ؛ فلم يسلّم لنفسه هذا القدر ، فإن للشهوات العرضية تعلقا بأعمال الطاعات ، فتوجب بعدا ، كمن يرى
" 159 "
موضعا يستحسنه طبعه ، فيشتهي أن يصلي فيه ، أو لفضيلة يعلمها في ذلك الزمان على غيره ، فإن ذلك يؤثر في حاله مع اللّه أثر سوء ، وميزان ذلك الالتذاذ بعمل لا لشهود إلهي ، وهذا من المكر الخفي ، فأغوار النفوس لا يدركها إلا فحول أهل اللّه ، فلا تفرح بالالتذاذ بالطاعات ، ورفع المشقة فيها عنك ، دون ميزان القوم في ذلك ، وقد كان لأبي يزيد في هذا قدم راسخة ، ومن ورع أبي يزيد أنه أوحشه السراج ليلة ،
فقال لأصحابه : إني أجد في السراج وحشة ؛
فقالوا : يا سيدنا استعرنا قارورة من البقال لنسوق فيها الدهن مرة ، فسقناه فيها مرتين ؛
فقال : عرفوا البقال وأرضوه ؛ ففعلوا وزالت الوحشة ، وكان رضي اللّه عنه في حال كان وقته التجريد وعدم الادخار ،
فقال يوما لأصحابه : فقدت قلبي ، فاطلبوا البيت ؛ فوجدوا فيه معلاق عنب ،
فقال : رجع بيتنا بيت البقالين ، فتصدقوا به ، فوجد قلبه .
( ف ح 1 / 717 - ح 2 / 191 - ح 1 / 480 ) .
طلب أبي يزيد للحق :
اتفق لأبي يزيد لما خرج في طلب الحق في أول مرة ، فلقيه بعض الرجال فقال له : ما تطلب يا أبا يزيد ؟ قال : " اللّه " قال له : " الذي تطلبه تركته ببسطام " فتنبه أبو يزيد كيف يطلبه وهو تعالى يقولوَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْفرجع إلى بسطام ولزم الخدمة حتى فتح له ، فكان منه ما كان ، فقد يتخيل البعض أن المقصود لا يحصل لهم إلا بمفارقة الوطن ، وأن الحق خارج عن أوطانهم ، كما فعل أبو يزيد لما كان في هذا المقام ، فأراد الغربة والسياحة ، لكن هذا الأمر ليس باختيار العبد ، وإنما صاحب هذا الأمر ، يطلب وجود قلبه مع ربه في حاله ، فإذا لم يجده في موضع ، يقول : ربما أن اللّه تعالى لم يقدّر أن يظهر إلى قلبي في هذا الموضع ، فيرحل عنه رجاء الحصول ، لما علم أن اللّه تعالى قد رتب أمورا ، واقتضى علمه أزلا ، أنه لا يكون كذا إلا بموضع كذا ، وبطالع كذا ، وبسبب كذا ، فلما حكم عليه هذا الإمكان ، وفقد قلبه في بعض المواطن ، عن وجود متقدم أو لا عن وجود ، رحل عن ذلك الموطن رجاء حصول البغية ، هذا سبب اغترابهم عن الأوطان وأمثاله ، فإن بعضهم قد يفارق وطنه لما كان فيه من العزة ، فإذا رأى أنه قد زاد عزا بالزهد والتوبة ، أو لم يكن مذكورا
" 160 "
فاشتهر بالتوبة والخير ، فأورثه عزا في قلوب الناس ، فوقع الإقبال عليه بالتعظيم ، فيفر ويغترب عن وطنه إلى مكان لا يعرف فيه ، لمعرفته بنفسه مع ربه ، فإن تعظيم الناس للشخص سم قاتل ، مؤثر فيه أثرا يؤديه إلى الهلاك ، وهذا أيضا من الأسباب المؤدية إلى مفارقة الموطن والاغتراب عن الأهل ، فحيث وجد قلبه مع اللّه أقام ، أما قول العارف لأبي يزيد " الذي تطلبه تركته ببسطام " فدله على المقام ، فإن العبد يسار به في حال إقامته ، إما إلى دار إهانته وإما إلى دار كرامته .
( ف ح 2 / 370 ، 527 - ح 4 / 388 )
قوله : الرجل الذي ينام الليل كله ، ثم يصبح في المنزل قبل القافلة .
وادع إنسان ذا النون المصري فقال له : قل لأبي يزيد : " إلى متى النوم والراحة وقد جازت القافلة "
فقال أبو يزيد : " قل لأخي ذي النون الرجل من ينام الليل كله ثم يصبح في المنزل قبل القافلة "
فقال ذو النون : " هنيئا له ، هذا كلام لا تبلغه أحوالنا " .
( ف ح 4 / 532 )
إشارة أبي يزيد إلى أنه قطب الوقت :
كان أبو يزيد البسطامي يشير إلى نفسه أنه قطب الوقت ، فقيل له يوما عن بعض الرجال ، إنه يقال فيه : إنه قطب الوقت ،
فقال : الولاة كثيرون وأمير المؤمنين واحد ، لو أن رجلا شق العصا وقام ثائرا في هذا الموضع - وأشار إلى قلعة معينة - وادعى أنه خليفة ، قتل ولم يتم له ذلك ، وبقي أمير المؤمنين أمير المؤمنين ؛
فما مرت الأيام حتى ثار في تلك القلعة ثائر ادعى الخلافة ، وقتل وما تم له ذلك ، فوقع ما ضرب به أبو يزيد المثل عن نفسه ، ويؤخذ من ذلك ، أن المخبر عن اللّه إذا ضرب الأمثال بأمر ما ، فإنه لا بد من وقوع ذلك الأمر المضروب به المثل .
( ف ح 4 / 493 ) .
بيت الأبرار لأبي يزيد :
كان لأبي يزيد بيت يسمى بيت الأبرار ، كزاوية الجنيد بالشونيزية ، وكمغارة إبراهيم بن أدهم بالتعن ، فاعلم أن أماكن الصالحين الذين فنوا عن هذه الدار ، وبقيت آثارهم في
" 161 "
أماكنهم ، تنفعل لها القلوب اللطيفة ، ولهذا يرجع تفاضل المساجد في وجود القلب ، لا في تضاعف الأجر ، فقد تجد قلبك في مسجد ، أكثر مما تجده في غيره من المساجد ، وذلك ليس للتراب ، ولكن لمجالسة الأتراب أو هممهم ، ومن لا يجد الفرق في وجود قلبه بين السوق والمساجد ، فهو صاحب حال لا صاحب مقام ، فاختلاف وجود القلب في الأماكن ، لاختلاف همة من كان يعمرها وفقد من الصالحين ، أو من أجل من يعمر ذلك الموضع في الحال من الملائكة المكرمين ، أو من الجن الصالحين .
( ف ح 1 / 99 )
قول أبي يزيد عن طي الأرض :
سئل أبو يزيد عن طي الأرض فقال : ليس بشيء ، فإن إبليس يقطع من المشرق إلى المغرب في لحظة واحدة ، وما هو عند اللّه بمكان ؛ وسئل عن اختراق الهواء
فقال : إن الطير يخترق الهواء ، والمؤمن عند اللّه أفضل من الطير ، فكيف يحسب كرامة من شاركه فيها طائر ؟
ثم قال : إلهي إن قوما طلبوك لما ذكروه ، فشغلتهم به وأهلتهم له ، اللهم مهما أهلتني لشيء فأهلني لشيء من أشيائك ؛ يقول من أسرارك ، فما طلب إلا العلم ، لأنه أسنى تحفة وأعظم كرامة ، ولو قامت عليك به الحجة ، فإنه يجعلك تعترف ولا تحاجج ، فإنك تعلم ما لك وما عليك وما له ، وما أمر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يطلب منه الزيادة في شيء إلا من العلم ، وأسباب حصول العلم كثيرة ، ولا أعني بالعلم إلا العلم باللّه والدار الآخرة ، وما تستحقه الدار الدنيا ، وما خلقت له ، ولأي شيء وضعت ، حتى يكون الإنسان من أمره على بصيرة حيث كان ، فلا يجهل من نفسه ولا من حركاته شيئا ، والعلم صفة إحاطية إلهية ، فهي أفضل ما في فضل اللّه ، كما قالوَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماًرحمة منا ، فأعلم أن العلم من معدن الرحمة ، فقد أعلمتك ما هي الكرامة ، وأما غير ذلك من خرق العادات ، فليست الدنيا بموطن لها ، ولا يصح كون ذلك كرامة إلا بتعريف إلهي ، لا بمجرد خرق العادة ، وإذا لم تصح إلا بتعريف إلهي ، فذلك العلم ، فالكرامة الإلهية إنما هي ما يهبه اللّه من العلم به عز وجل .
( ف ح 2 / 369 ) .
" 162 "
قول أحد العارفين لتلميذه : لو رأيت أبا يزيد مرة ، كان خيرا لك من أن ترى اللّه ألف مرة .
لقي أحد العارفين تلميذا له في زمان أبي يزيد البسطامي ، فقال له : هل رأيت أبا يزيد ؟
فقال التلميذ : رأيت اللّه فأغناني عن أبي يزيد ؛
فقال له العارف : لأن ترى - وفي رواية لو رأيت - أبا يزيد مرة ، كان خيرا لك من أن ترى اللّه ألف مرة ؛ فلما سمع ذلك منه رحل إليه ، فقعد مع العارف على طريقه ، فعبر أبو يزيد وفروته على كتفه ، فقال العارف للتلميذ : هذا أبو يزيد ؛ فنظر إليه فمات من ساعته ، فأخبر العارف أبا يزيد بشأن الرجل ،
فقال أبو يزيد : كان يرى اللّه على قدره ، فلما أبصرنا تجلى له الحق على قدرنا ، فلم يطق فمات ، كما صعق موسى ، لأن اللّه من حيث أنا مجلاه ، أعظم من حيث المجلى الذي كان يشهده فيه ذلك المريد ،
فما قال العارف للتلميذ الذي استغنى باللّه - على زعمه - عن رؤية أبي يزيد ، لأن يرى أبا يزيد مرة خير له من أن يرى اللّه ألف مرة ، إلا لفضله عليه في العلم باللّه ، لما علم أن ظهور الحق لعباده على قدر علمهم به ،
فرؤيتنا اللّه بعلم العلماء به - إذا استفدناه منهم - أتم من رؤيتنا بعلمنا قبل أن نستفيده منهم ، ففي هذا تحريض المتعلمين على طلب العلم من أكابر العلماء ، الذين يعلمون أنهم أعلم باللّه منهم ، ومن ذلك نقول :
إنه من صبر نفسه على ما شرع اللّه له على لسان رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، فإن اللّه لابد أن يخرج إليه رسوله صلى اللّه عليه وسلم في مبشرة يراها ، أو في كشف بما يكون له عند اللّه من الخير ، وإنما يخرج إليه صلى اللّه عليه وسلم ، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يتصور على صورته غيره ، فمن رآه رآه لا شك فيه ، بخلاف رؤية الحق ، فإن الحق له التجلي في صور الأشياء كلها ،
فالعارف يعتمد على رؤية الرسول ، ولا يغتر برؤية الحق ، ولما كان الأمر هكذا ، علمنا أن رؤيتنا اللّه في الصورة المحمدية بالرؤية المحمدية ، هي أتم رؤية تكون وأصدقها ،
فاجهد أن تنظر إلى الحق المتجلي في مرآة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لينطبع في مرآتك ، فترى الحق في صورة محمدية برؤية محمدية ،
ولا تراه في صورتك ، كما قال هذا الرجل ، فإن أفضل المرائي وأعدلها وأقومها مرآة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فتجلي الحق فيها أكمل من كل تجل يكون .
( ف ح 3 / 117 ، 215 - ح 4 / 184 ، 203 - ح 3 / 215 - ح 4 / 433 )
" 163 "
قول أبي يزيد : ما مت حتى استظهرت القرآن .
وهو أنه كان يقرأ القرآن منزلا عليه ، يجد لذة الإنزال ذوقا على قلبه عند قراءته ، فإن للقرآن عند قراءة كل قارىء في نفسه أو بلسانه ، تنزلا إلهيا لابد منه ، فهو محدث التنزل والإتيان " 1 "
عند قراءة كل قارىء ، أي قارىء كان ، غير أن الوارث بالحال ، يحس بالإنزال ويلتذ به التذاذا خاصا ، لا يجده إلا أمثاله ، فذلك صاحب ميراث الحال ،
وهو الذي قال فيه أبو يزيد : لم أمت حتى استظهرت القرآن ؛ وهو وجود لذة الإنزال من الغيب على القلوب ، وما عدا هذا الصنف ، فإنما يقرؤون القرآن من خيالهم ، فهم يتخيلون صور حروفه المرقومة ، إن كان حفظ القرآن من المصاحف والألواح ، أو يتخيلون صور حروف ما تلقنوه من معلمهم ، هذا إذا كانوا عاملين به ، وأما إذا قرؤوه من غير إخلاص فيه ، فلا يتجاوز حناجرهم ، أي لا يقبل اللّه منه شيئا ، فيبقى في محل تلاوته ، وهو مخرج الصوت ،
فلا يقرأ القرآن من قلبه إلا صاحب التنزل ، وهو الذوق الميراثي ، فمن وجد ذلك فهو صاحبه ، يعرف ذلك عند وجوده إياه ، فلا يحتاج فيه إلى معرّف ، فإنه يفرق عند ذلك بين قراءته من خياله ، وبين قراءته عن تنزيل ربه مشاهدة ، ومن جاءه القرآن عن ظهر غيب ، أعطي الرؤية من خلفه كما أعطيها من أمامه ، إذ كان القرآن لا ينزل إلا مواجهة ، فهو للنبي صلى اللّه عليه وسلم من وجهين ، وجه معتاد ووجه غير معتاد ، وهو للوارث من وجه غير معتاد ، فسمي ظهرا بحكم الأصل ،
وهو وجه بحكم الفرع ، والذي ينزل القرآن على قلبه ينزل بالفهم ، فيعرف ما يقرأ وإن كان بغير لسانه ،
ويعرف معاني ما يقرأ ، وإن كانت تلك الألفاظ لا يعرف معانيها في غير القرآن ؛ لأنها ليست بلغته ، ويعرفها في تلاوته إذا كان ممن ينزل القرآن على قلبه عند التلاوة ، فمن استظهر القرآن هنا بجميع رواياته ، حفظا وعلما وعملا ،
فقد فاز بما أنزل اللّه له القرآن ، وصحت له الإمامة ، وكان على الصورة الإلهية الجامعة .
( ف ح 3 / 414 ، 94 ، 93 - ح 4 / 206 )
قول أبي يزيد : " حدثني قلبي عن ربي " .
المقصود من الرواية علو الإسناد وكلما قلّ علا ، وقد عرفنا بذلك فقالأَدْعُوا إِلَى اللَّهِ
..........................................................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالىما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ.
" 164 "
عَلى بَصيرَةٍ فزال الملك أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فزال الرسول ،
قال أبو يزيد : حدثني قلبي عن ربي ؛ فعنه أخذ ، هذا نص الكتاب أيها المنكر ، وقال ،وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً بما يلقي اللّه برفع الوسائط أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ما يكلمك به في صورة التجلي حيث كان أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا من جنسك وغير جنسك ، فشتان بين من يقول : حدثني فلان رحمه اللّه ، عن فلان رحمه اللّه ،
وبين من يقول : حدثني ربي عن ربي ، أي حدثني ربي عن نفسه ، وفيه إشارة ، الأول الرب المعتقد ، والثاني الرب الذي لا يتقيد ، فهو بواسطة لا بواسطة ، وهذا هو العلم الذي يحصل للقلب من المشاهدة الذاتية ، التي فيها يفيض على السر والروح والنفس ، فمن كان هذا مشربه ، كيف يعرف مذهبه ؟ !
فلا تعرفه حتى تعرف اللّه ، وهو لا يعرف تعالى من جميع وجوه المعرفة ، كذلك هذا لا يعرف ، فإن العقل لا يدري أين هو ، فإن مطلبه الأكوان ، ولا كون لهذا .
( ف ح 4 / 412 - ح 1 / 53 )
قول أبي يزيد البسطامي : أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت .
إن المتأهب الطالب للمزيد ، المتعرض لنفحات الجود بأسرار الوجود ، إذا لزم الخلوة والذكر ، وفرغ المحل من الفكر ، وقعد فقيرا لا شيء له عند باب ربه ، حينئذ يمنحه اللّه تعالى ويعطيه ، من العلم به والأسرار الإلهية والمعارف الربانية ، التي أثنى اللّه بها على عبده خضر ، فقال عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وقال تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وقالوَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ
قيل للجنيد : بم نلت ما نلت ؟
فقال : بجلوسي تحت تلك الدرجة ثلاثين سنة ؛
وقال أبو يزيد : أخذتم علمكم ميتا عن ميت ، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت ؛ فيحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع اللّه وبه - جلت هبته وعظمت منته - من العلوم ، ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة ، بل كل صاحب نظر وبرهان ليست له هذه الحالة ، فإنها وراء النظر العقلي ، وهو علم الأسرار ، والعالم به يعلم العلوم كلها ويستغرقها ، من العلوم التي تحصل ضرورة أو عقيب نظر ، وعلم الأحوال والأذواق ، فلا علم أشرف من هذا العلم المحيط الحاوي على جميع
" 165 "
المعلومات ، وأصحاب هذا العلم يأتون بأسرار ، وحكم من أسرار الشريعة ، مما هي خارجة عن قوة الفكر والكسب ، ولا تنال أبدا إلا بالمشاهدة والإلهام وما شاكل هذه الطرق ، فالأولياء يأخذون العلوم عن اللّه تعالى ، من كونه ورثها من الأنبياء من حيث اسمه الوارث ، ثم جاد بها على الأولياء ،
فهم أتباع الرسل بمثل هذا السند العالي المحفوظ ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ، ولا يسمى الشخص إلهيا ، إلا أن يكون أخذه العلوم عن اللّه من فتوح المكاشفة بالحق .
( ف ح 1 / 31 - ح 2 / 253 - ح 3 / 139 ، 140 )
فأقام اللّه أولياءه مقام الرسول في التفقه في الدين والإنذار ، وهو الذي يدعو إلى اللّه على بصيرة ، كما يدعو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بصيرة ، لا على غلبة ظن كما يحكم عالم الرسوم ، فشتان بين من هو فيما يفتي به ويقوله ، على بصيرة منه في دعائه إلى اللّه ، وهو على بينة من ربه ، وبين من يفتي في دين اللّه بغلبة ظنه ، ثم إن من شأن عالم الرسوم في الذب عن نفسه أنه يجهّل من يقول فهمني ربي ، ويرى أنه أفضل منه ، وأنه صاحب العلم ، إذ يقول من هو من أهل اللّه : إن اللّه ألقى في سري مراده بهذا الحكم في هذه الآية ،
أو يقول : رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في واقعتي ، فأعلمني بصحة هذا الخبر المروي عنه وبحكمه عنده ؛ فمن ورث محمدا صلى اللّه عليه وسلم في جمعيته ، كان له من اللّه تعريف بالحكم ، وهو مقام أعلى من الاجتهاد ، وهو أن يعطيه اللّه بالتعريف الإلهي ، أن حكم اللّه الذي جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذه المسألة هو كذا ، فيكون في ذلك الحكم بمنزلة من سمعه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإذا جاءه الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجع إلى اللّه فيه ، فيعرف صحة الحديث من سقمه ، سواء كان الحديث عند أهل النقل من الصحيح أو مما تكلّم فيه ، فإذا عرف فقد أخذ حكمه من الأصل ، لذلك قال أبو يزيد البسطامي في هذا المقام وصحته ، يخاطب علماء زمانه علماء الرسوم : أخذتم علمكم ميتا عن ميت ، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت ؛
يقول أمثالنا : حدثني قلبي عن ربي ، وأنتم تقولون حدثنا فلان ، وأين هو ؟
قالوا : مات ، عن فلان ، وأين هو ؟
قالوا : مات ؛ فلا حجاب بين اللّه وبين عبده أعظم من نظره إلى نفسه ، وأخذه العلم عن فكره
" 166 "
ونظره ، وإن وافق العلم ، فالأخذ عن اللّه أشرف ، وهذا مما بقي لهذه الأمة من الوحي ، وهو التعريف لا التشريع . ( ف ح 1 / 280 - ح 3 / 413 )
قال أبو يزيد : إذا رأيتم من يؤمن بكلام أهل هذه الطريقة ، ويسلم لهم ما يتحققون به ، فقولوا له يدعو لكم ، فإنه مجاب الدعوة .
أهل هذه الطريقة هم أصحاب العلم الشريف الإحاطي ، الذي يسلّم لكل طائفة ما هي عليه ، سواء قادهم ذلك إلى السعادة أو إلى الشقاء ، ولا يسلم له أحد طريقه ، سوى من ذاق ما ذاقوه وآمن به ، فكيف لا يكون المؤمن بكلامهم مجاب الدعوة ؟ !
والمسلّم في بحبوحة الحضرة ، ولكن لا يعرف أنه فيها لجهله بها ، فاللّه يجعلنا ممن جعل له نورا من النور الذي يهدي به من يشاء من عباده ، ثم لتعلم أنه إذا حسن هذا العلم عندك وقبلته وآمنت به ، فأبشر أنك على كشف منه ضرورة وأنت لا تدري ، لا سبيل إلا هذا ، إذ لا يثلج الصدر إلا بما يقطع بصحته ، وليس للعقل هنا مدخل ، لأنه ليس من دركه ، إلا إن أتى بذلك معصوم ، حينئذ يثلج صدر العاقل ، وأما غير المعصوم فلا يلتذ بكلامه إلا صاحب ذوق .
( ف ح 2 / 646 - ح 1 / 33 )
قال أبو يزيد : اطلعت على الخلق فرأيتهم موتى ، فكبرت عليهم أربع تكبيرات "1".
قال بعض الشيوخ رأى أبو يزيد عالم نفسه ، واعلم أن هذه الصفة تكون لمن لا معرفة له بربه ولا يتعرف إليه ، وتكون لأكمل الناس معرفة باللّه ، فالعارف المكمل يرى نفسه ميتا بين يدي ربه عز وجل - إذ كان الحق سمعه وبصره ويده ولسانه - يصلي عليه ، قال تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ والعارف لا يتكلم ولا ينطق إلا بالقرآن ، فإن الإنسان ينبغي له أن يكون في جميع أحواله كالمصلي على الجنازة ، فلا يزال يشهد ذاته جنازة بين يدي ربه ، وهو يصلي على الدوام في جميع الحالات على نفسه بكلام ربه دائبا ، فالمصلي داع أبدا ،
..........................................................................................
( 1 ) إشارة إلى التحقق بكمال العبودة .
" 167 "
والمصلّى عليه ميت أو نائم أبدا ، فمن نام بنفسه فهو ميت ، ومن مات بربه فهو نائم نومة العروس " 1 " ، والحق ينوب عنه .
( ف ح 1 / 529 ) .
مقام كمال العبودة :
ينبغي للعبد أن يعرف أن للّه مكرا خفيا في عباده ، وكل أحد يمكر به على قدر علمه بربه ، فإذا أكرمه اللّه تعالى ، فيأخذ هذا التكريم الإلهي ابتداء من اللّه مدرجا في نعمة ، مثال ذلك : إذا صلى وتلا وقالالْحَمْدُ لِلَّهِيقولها حكاية من حيث ما هو مأمور بها ، لتصح عبوديته في صلاته ، ولا ينتظر الجواب والإنعام من السيد ، لا من كونه قال ، فإن القائل على الحقيقة خالق القول فيه ، فنسلم من هذا المكر وإن كان منزلة رفيعة ، ولكن بالنظر إلى من هو في غير هذه المنزلة ممن نزل عنها ، فما ورث العلماء باللّه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من هذا المقام - الذي أغلق بابه دوننا - إلا ما ذكرناه ، من عناية الحق بمن كشف له عن ذلك ، ورزقه علم نقل الوحي بالرواية من كتاب وسنة ، فما أشرف مقام أهل الرواية من المقرئين والمحدّثين ، جعلنا اللّه ممن اختص بنقله من قرآن وسنة ، فإن أهل القرآن هم أهل اللّه وخاصته ، والحديث مثل القرآن بالنص ، فإنه صلى اللّه عليه وسلم ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، وممن تحقق بهذا المقام أبو يزيد البسطامي ، كشف له منه بعد السؤال والتضرع قدر خرق الإبرة ، فأراد أن يضع قدمه فيه فاحترق ، فعلم أنه لا ينال ذوقا ، وهو كمال العبودة ، أي أن مقام كمال العبودة الذي ناله صلى اللّه عليه وسلم لا يذوقه أحد من البشر .
( ف ح 1 / 230 )
قول الحق لأبي يزيد : ردوا إلي حبيبي فلا صبر له عني :
قيل لأبي يزيد حين خلع عليه الحق خلع النيابة ، وقال له : اخرج إلى خلقي بصفتي ( وفي رواية بصورتي ) فمن رآك رآني ومن عظمك عظمني ؛ فلم يسعه إلا امتثال أمر ربه ، فخطا خطوة إلى نفسه من ربه فغشي عليه ،
فإذا النداء : ردوا علي حبيبي فلا صبر له عني ؛
- الوارث الكامل من الأولياء هو الذي يدعو إلى اللّه على بصيرة ، فبعد انقطاعه إلى الحق ، يرد
..........................................................................................
( 1 ) النائم بنفسه هو صاحب المجاهدة المتقي ، فهو يصلي على نفسه ، والميت بربه هو صاحب العناية ، يصلي عليه ربه ، وشتان بين من يصلي على نفسه ، وبين من يصلي عليه ربه .
" 168 "
إلى الخلق بالإرشاد وحفظ الشريعة عليهم ، فإن للّه عبادا إذا فجأهم الحق أخذهم إليه ، ولم يردهم إلى العالم وشغلهم به " 1 " ،
فالذي لم يرد ما له وجه إلى العالم ، فيبقى هناك واقفا مشاهدا للحق ، وهو المسمى بالواقف ، ومن الواقفين من يكون مستهلكا فيما يشاهده هنالك ، وقد دامت هذه الحالة على أبي يزيد البسطامي ، فإنه كان مستهلكا في الحق ، وكان المراد بالخروج الوراثة النبوية في التبليغ ، فرد إلى الحق وخلعت عليه خلع الذلة والانكسار ، فطاب عيشه ، ورأى ربه فزاد أنسه ، واستراح من حمل الأمانة المعارة ، التي لا بد له أن تؤخذ منه ، والراجع من الأولياء إلى الخلق على قسمين :
قسم يرجع اختيارا كأبي مدين ،
ومنهم من يرجع اضطرارا مجبورا كأبي يزيد ، لما خلع عليه الحق الصفات التي بها ينبغي أن يكون وارثا ، وراثة إرشاد وهداية ،
فقال له : اخرج إلى خلقي بصفتي ؛ فخطا خطوة من عنده فغشي عليه ،
فإذا النداء : ردوا عليّ حبيبي فلا صبر له عني ؛ فمثل هذا لا يرغب في الخروج إلى الناس ، وهو صاحب حال ، وأما العالي من الرجال ، وهم الأكابر الذين ورثوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبوديته ،
فإن أمروا بالتبليغ فيحتالون في ستر مقامهم عن أعين الناس ، ليظهروا عند الناس بما لا يعلمون في العادة أنهم من أهل الاختصاص الإلهي ، فيجمعون بين الدعوة إلى اللّه وبين ستر المقام ، فيدعونهم بقراءة الحديث وكتب الرقائق وحكايات كلام المشايخ ، حتى لا تعرفهم العامة إلا أنهم نقلة ، لا أنهم يتكلمون عن أحوالهم من مقام القربة ، هذا إذا كانوا مأمورين ولا بد ، وإن لم يكونوا مأمورين بذلك ، فهم مع العامة التي لم تزل مستورة الحال ، لا يعتقد فيهم خير ولا شر ، أما قول الحق تعالى لأبي يزيد : اخرج إلى خلقي بصورتي ؛ يعني خليفة ، فمن رآك رآني ؛
وهو ظهور صفات الربوبية عليه ، ألا ترى خلفاء الحق في العباد لهم الأمر والنهي ، والحكم والتحكم ، وهذه صفات الإله ، والسوقة مأمورة بالسمع والطاعة ، قال تعالىإِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وعلّمه جميع الأسماء ، وأسجد له الملائكة ، لأنه علم أنهم إليه يسجدون ، فإن الخليفة معلوم أنه لا يظهر إلا بصفة من استخلفه ، فالحكم لمن استخلفه ، فتعظيم العبيد لتعظيم سيدهم لا لنفوسهم ، فلما خطا أبو يزيد خطوة غشي
..........................................................................................
( 1 ) وهو أهل الجذب والمجاذيب .
" 169 "
عليه ، فقال الحق : ردوا عليّ حبيبي فلا صبر له عني ؛ فالنيابة مع الأمر يكون فيها الحرج وضيق الصدر ، فكيف بالعرض ؟ " 1 " فحجب أبو يزيد بالشوق والمخاطبة .
( ف ح 1 / 251 ، 167 ، 252 ، 757 - ح 2 / 556 - ح 4 / 185 - ح 1 / 116 )
قول أبي يزيد : ليس بي يتمسحون .
قيل لأبي يزيد رحمه اللّه في تمسح الناس به وتبركهم ،
فقال رضي اللّه عنه : ليس بي يتمسحون ، وإنما يتمسحون بحلية حلانيها ربي ، أفأمنعهم ذلك وذلك لغيري ؟
- فإذا خلع اللّه على عبده خلع السيادة وأمره بالبروز فيها ، برز عبدا في نفسه ، سيدا عند الناظر إليه ، فتلك زينة ربه وخلعته عليه .
( ف ح 3 / 136 ) .
قول الحق لأبي يزيد : تقرب إلي بالذلة والافتقار .
قال أبو يزيد : يا رب بما أتقرب إليك ؟
قال : تقرب إلي بما ليس لي ،
قال : وما ليس لك ؟
قال : الذلة والافتقار ؛ قال اللّه تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ يعني بأسمائه ، كما نحن فقراء إلى أسمائه ، ولذلك أتى بالاسم الجامع للأسماء الإلهية ، ومقام العبودية هو مقام الذلة والافتقار ، الذي هو ليس بنعت إلهي ، فباب الفقر ليس فيه ازدحام ، لا تساعه وعموم حكمه ، والفقر صفة مهجورة ، وما يخلو عنها أحد ، وهي في كل فقير بحسب ما تعطيه حقيقته ، وهي ألذ ما ينالها العارف ، فإنها تدخله على الحق ، ويقبله الحق لأنه دعاه بها ، والدعاء طلب ، وتقرب منها أختها وهي الذلة ، فهاتان صفتان في اللسان نعتان للممكن ، ليس لواجب الوجود منهما نعت في اللسان ، تعالى اللّه ، وفي هذه الآية أعني قوله أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّه ِتسمى الحق لنا باسم كل ما يفتقر إليه ، غيرة منه أن يفتقر إلى غيره ، فالفقير هو الذي يفتقر إلى كل شيء ، ولا يفتقر إليه شيء ، وهذا هو العبد المحض عند المحققين ، وهو مقام عبودة الاضطرار ، التي لا تقع فيها مشاركة ، فهي مخلصة للعبد ، فمن أقيم فيها فلا مقام فوقها ، فعين القربة هنا هو عين البعد من المقام ، أي لا
..........................................................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية - فبالعرض يكون مخيرا ، وبالأمر يكون مجبورا .
" 170 "
يتصف بصفات الربوبية ، فلا تشم منه رائحة ربوبية أصلا ، حتى في إطلاق لفظ الصفة عليه ، لذلك قال أبو يزيد البسطامي لما حار في القرب ، وما عرف بماذا يتقرب إلى اللّه ، لأنه ما وجد سببا يتقرب به إلى اللّه ، إذ رأى كل نعت يتقرب به إلى اللّه للألوهية فيه مدخل ، فلما عجز قال : يا رب بماذا أتقرب إليك ؟
قال له الحق في سره - بما جرت عادة اللّه مع أوليائه أن يخاطبهم به - تقرب إلي بما ليس لي الذلة والافتقار ؛ وهو ما انفرد به العبد من الصفات دون الرب ، فالفقراء هم الذين يفتقرون إلى كل شيء ، من حيث أن ذلك الشيء هو مسمى اللّه ، فإن الحقيقة تأبى أن يفتقر إلى غير اللّه ، وقد أخبر اللّه أن الناس فقراء إلى اللّه على الإطلاق ، والفقر حاصل منهم ، فعلمنا أن الحق ظهر في صورة كل ما يفتقر إليه فيه ، فلا يفتقر إلى الفقراء إلى اللّه بهذه الآية شيء ، وهم يفتقرون إلى كل شيء ،
فالناس محجوبون بالأشياء عن اللّه ، وهؤلاء السادة ينظرون الأشياء مظاهر الحق ، تجلى فيها لعباده ، حتى في أعيانهم ،
فيفتقر الإنسان إلى سمعه وبصره ، فسمعه وبصره إذا مظهر الحق ومجلاه ، وكذلك جميع الأشياء بهذه المثابة ، فما ألطف سريان الحق في الموجودات ، وسريان بعضها في بعض ، وهو قوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ فالآيات هنا دلالات أنها مظاهر للحق ، فهذا حال الفقراء إلى اللّه ، لا ما يتوهمه من لا علم له بطريق القوم ، فالفقير من يفتقر إلى كل شيء وإلى نفسه ، ولا يفتقر إليه شيء ، فهذه أسنى الحالات ، وقال تعالى : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي ليتذللوا لي ،
ولا يتذللون لي حتى يعرفوني في الأشياء ، فيذلوا لي لا لمن ظهرت فيهم ، أو ظهرت أعيانهم بكونهم مظاهر لي ، فالفقير يرى أن كل اسم تسمى به شيء مما يعطيه فائدة ،
أن ذلك اسم اللّه ، غير أنه لا يطلقه عليه حكما شرعيا وأدبا إلهيا ،
والعبد لا يتصف بالقرب من اللّه إلا باسمه ، وهو اسم " العبد " فهو الأصل في القربة الإلهية ،
والسبب في ذلك ، أن أصل العبد أن يكون معلولا ولا بد ، والمعلولية له لذاته ، وكل معلول فقير ذليل بلا شك ، فلا شفاء يرجى له من هذه العلة ،
فيكون القرب من اللّه قربا ذاتيا أصليا ، فاطلب الحاجة من الحق بلسان الفقر لا بلسان الحكم ،
فإن الحق لما قال لأبي يزيد : تقرب إلي بما ليس لي الذلة والافتقار ؛ علم من ذلك ما لإنيّة الحق وما لإنيّة العبد ، فدخل في هذا المقام ،
فكان له القرب الأتم ، فجمع بين الشهود والوجود ،
" 171 "
ومن حفظ على نفسه ذله وافتقاره ، وحفظ على اللّه أسماءه كلها التي وصف بها نفسه ، والتي أعطى في الكشف أنها له ، فقد أنصف ، فاتصف بأنه على كل شيء حفيظ ، فمن هو للّه باللّه لا يذل ولا يخزى ، فإن اللّه لا يوصف بالذل ، كما قال لأبي يزيد ، ومن هو للّه بنفسه فيذل ذل شرف ، لكنه لا يخزى ، ومن كان للّه لا باللّه ولا بنفسه فهو بحيث يقبل الجبر ، وهذا المجلى كان غاية أبي يزيد وهو حظه من ربه ، ورآه غاية وكذلك هو ، فإنه غايته لا الغاية .
( ف ح 2 / 263 ، 487 ، 214 - ح 1 / 690 - ح 2 / 16 - ح 3 / 373 - ح 2 / 35 - ح 4 / 529 ، 41 - ح 3 / 229 ، ح 4 / 17 - ح 2 / 350 )
لطيفة : قال تعالى :يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍأليست هذه أسماؤه تعالى ؟
أليس المتصفون بها في النار ؟ أليست النار محل الحجاب ؟
أليس الحجاب عدم الرؤية ؟ أليس عدم الرؤية هو الخسران المبين ؟ فما للإنسان لا يهرب إلى ربه ، ليجود عليه بمشاهدة نفسه الذليلة الفقيرة ؟
ألا ترى الصادق صلى اللّه عليه وسلم يقول : أعوذ بك منك ؟
وقال أبو يزيد :
قلت : يا رب بما أتقرب إليك ؟
فقال : بما ليس لي ؛ قلت : وما ليس لك ؟
قال : الذلة والافتقار .
( كتاب التراجم / ترجمة الجمع )
قول الحق لأبي يزيد : " اترك نفسك وتعال " .
قال أبو يزيد لربه في وقت آخر : بم أتقرب إليك ؟
فقال له الحق : اترك نفسك وتعال ؛ اعلم أن العبد لا يكون سيدا لمن هو عبد له ، فلا شيء أبعد من العبد من سيده ، بعلمه أنه عبد له ، وعلمه بأنه عبد له ما هو عين عبوديته ، فعبوديته تقتضي البعد عن السيد ، وعلمه بها يقضي بالقرب من السيد ،
فقول الحق لأبي يزيد : اترك نفسك وتعال ؛ هو ما ذكرته الطائفة " البعد منك "
فمن ترك نفسه بعد عنها ، وهو طرح العزة عن نفسه ، والنفس هنا ما هو عليه من العزة ، التي حصلت له من رتبة أبيه من خلقه على الصورة - ومن وجه آخر
- قال اللّه لأبي يزيد البسطامي - لما حار في القرب وما عرف بماذا يتقرب إليه ؟
- فقال له الحق في سره : يا أبا يزيد تقرب إلي بما ليس لي الذلة والافتقار ؛ فنفى سبحانه عن نفسه هاتين الصفتين ، الذلة والافتقار ، وما نفاه عنه فإنه صفة بعد منه ، فمن قامت به تلك الصفة
" 172 "
التي تقتضي البعد فهو بحيث هي ، وهي تقتضي البعد أي من مقام الربوبية ، وقال أبو يزيد لربه في وقت آخر : بم أتقرب إليك ؟ فقال له الحق : اترك نفسك وتعال ؛ وإذا ترك نفسه فقد ترك حكم عبوديته ، لما كانت العبودية عين البعد من السيادة ، فالعبد بعيد من السيد ، فطلب منه في الذلة والافتقار القرب بالعبودبة ، وطلب منه في ترك النفس القرب بالتخلق بأخلاق اللّه ، فإن الأسماء الإلهية إذا ظهر بها العبد عن الأمر الإلهي ، فهو في قرب النيابة عن اللّه ، لا في قرب الحقيقة .
( ف ح 2 / 561 - ح 4 / 231 - ح 3 / 207 - ح 2 / 561 )
قول أبي يزيد : لا صباح لي ولا مساء .
قيل لأبي يزيد : كيف أصبحت ؟
قال : لا صباح لي ولا مساء ، إنما الصباح والمساء لمن تقيد بالصفة ، وأنا لا صفة لي ؛ اعلم أن أصل علم أهل الله - وهو العلم الشريف الإحاطي - هو المقام الذي ينتهي إليه العارفون ، وهو أن لا مقام ، كما وقعت به الإشارة بقوله تعالىيا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْفهو المقام الأعلى ، يرى العالم فيه نفسه ، ولا يراه أصلا ، فيكشف العالم ولا يكشفه العالم ، فهذا القلب لو تسأل الأيام عنه ما عرفته ، ولو طلب له مكان لم يعقل ، وهذا هو وارث الحق الذي يكشف ولا يكشف ، وهو المحمدي المكمل الذي ليس له مقام فيدرك ،
وهذا المقام لا يتقيد بصفة أصلا ،
وقد نبه عليه أبو يزيد البسطامي رحمه الله لما قيل له : كيف أصبحت ؟
فقال : لا صباح لي ولا مساء ، إنما الصباح والمساء لمن تقيد بالصفة ، وأنا لا صفة لي ؛ فالصباح للشروق والمساء للغروب ، والشروق للظهور وعالم الملك والشهادة ، والغروب للستر وعالم الغيب والملكوت ،
فالعارف في هذا المقام كالزيتونة المباركة ، التي لا هي شرقية ولا غربية ، فلا يحكم على هذا المقام وصف ، ولا يتقيد به ، وهو حظه من لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وسُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ
فالمقام الذي هو بهذه المثابة ، هو أصل هذا العلم ، ومن ثمرة هذا العلم أن يعلم أن جميع ما يتسمى به العبد ، ويحق له النعت به وإطلاق الاسم عليه ، لا فرق بينه وبين ما ينعت به من الأسماء الإلهية ، فالكل أسماء إلهية ،
فهو في كل ما يظهر به مما ذكروه ، مما تقتضيه العبودية عندهم والصورة ، ليس له وإنما ذلك للّه ، وما له من نفسه سوى عينه ، وعينه ما استفادت
يتبع
حدثني قلبي عن ربي - ليس بي يتمسحون - تقرب إلي بالذلة والافتقار - لا صباح لى ولا مساء .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي :: تعاليق
حدثني قلبي عن ربي - ليس بي يتمسحون - تقرب إلي بالذلة والافتقار - لا صباح لى ولا مساء .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر محيي الدين محمد ابن العربي لجامعها أ. محمود محمود الغراب
صفة الوجود إلا منه تعالى ، فما سماه باسم إلا وهو له تعالى ، فإذا خرج العبد من جميع أسمائه كلها ، التي تقتضيها جبلته والصورة التي خلق عليها ، حتى لا يبقى منه سوى عينه ، بلا صفة ولا اسم سوى عينه ، حينئذ يكون عند اللّه من المقربين ،
وافقنا على هذا القول شيخنا أبو يزيد البسطامي حيث قال : وأنا الآن لا صفة لي ؛ يعني لما أقامه الله في هذا المقام ، فصفات العبد كلها معارة من عند اللّه ، فهي للّه حقيقة ونعتنا بها ، فقبلناها أدبا على علم أنها له لا لنا ، إذ من حقيقتنا عدم الاعتراض ، إنما هو التسليم الذاتي المحض ، لا التسليم الذي هو صفة له ،
فإن ذلك له ، فإذا كان العبد ما عنده من ذاته سوى عينه ، بالضرورة يكون الحق جميع صفاته ، ويقول له : أنت عبدي حقا ؛ فما سمع سامع في نفس الأمر إلا بالحق ، ولا أبصر إلا به ، ولا علم إلا به ، ولا حيي ولا قدر ولا تحرك ولا سكن ، ولا أراد ولا قهر ولا أعطى ولا منع ، ولا ظهر عليه وعنه أمر ما هو عينه ، إلا وهو الحق لا العبد ، فما للعبد سوى عينه ، سواء علم ذلك أو جهله ، وما فاز العلماء إلا بعلمهم بهذا القدر في حق كل ما سوى اللّه ، لا أنهم صاروا كذا بعد أن لم يكونوا ، فأنت من حيث هويتك لا نعت لك ولا صفة ، فإن للعالم حكمين ، حكم به صحت المناسبة بينه وبين الحق ، وبها كان العالم خلقا للّه ، ومنسوبا إليه أنه وجد عنه ، فارتبط به ارتباط منفعل عن فاعل ، ولهذا الحكم لم يزل العالم مرجحا في حال عدمه بالعدم ، وفي حال وجوده بالوجود ، فما اتصف بالعدم إلا من حيث مرجحه ، ولا بالوجود إلا من حيث مرجحه ، والحكم الآخر هو من حيث هويته وحقيقته ، لا نعت له من ذاته ، فالحق هو ما يكون به العبد عبدا من جميع الوجوه ، وهو من حيث هويته لا نعت له ولا صفة " 1 " ، فالمحقق لا صفة له لأن الكل للّه ، فلا تقل إن الحق وصف نفسه بما هو لنا مما لا يجوز عليه ، فهذا سوء أدب وتكذيب للحق فيما وصف به نفسه ، بل هو - عند العارف الأديب - صاحب تلك الصفة من غير تكييف ، فالكل صفات الحق وان اتصف بها الخلق ، فهي مستعارة ، ما هو فيها بطريق الاستحقاق عند المحجوب بالطريق التي لا تجوز على الحق ، وما عرف المسكين أن الذي لا يجوز على الحق ، إنما هي تلك النسبة التي نسبتها بها إلى الخلق ، لا عين الصفة " 2 " .
( ف ح 2 / 646 - ح 4 / 13 ، 40 ، 36 ، 39 ، 408 ) .
..........................................................................................
( 1 ) إشارة إلى أن حقيقة العبد هي : " لا حول ولا قوة إلا باللّه " .
( 2 ) مثل ما جاء في قول الحق " جعت فلم تطعمني " الحديث .
" 174 "
وصاحب " لا صفة " هو من أهل العهد الخالص ، الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ، فلو استخلص عهده لكان مخلصا ، وإذا كان مخلصا كان ذا صفة ، فلم يصدق في قوله ، وهو عندنا صادق ، وكذلك نعت المحب بأنه مخلوع النعوت ، فإن المحب لا نعت له يقيد به ولا صفة ، فإنه بحيث يريد محبوبه أن يقيمه فيه ، فنعته ما يراد به ، وما يراد به لا يعرفه ، فهو مخلوع النعوت ، كما أن المشاهدة تعطي البراءة ، من الخلق والأحوال والكرامات والحقائق والمقامات والمنازلات ، وهذا مقام الأعراف ، ورجاله هم أهل الشم والتمييز والسراح عن الأوصاف ، فلا صفة لهم ، ويسمون في الطريق رجال الحد ، وهم الذين لهم التصرف في عالم الأرواح النارية ، عالم البرازخ والجبروت ، فإنه تحت الجبر ، فلهؤلاء الرجال استنزال أرواحها وإحضارها ، وهم لا يتعدون الحدود ، وهم رجال الرحمة التي وسعت كل شيء ، فلهم في كل حضرة دخول واستشراف ، وهم العارفون بالصفات التي يقع بها الامتياز لكل موجود عن غيره ، من الموجودات العقلية والحسية ، وهمة رجال هذا المقام عرشية ، فكما كان العرش للرحمن ، كانت الهمة لهذه المعرفة محلا لاستوائها ، فقيل همته عرشية ، ومقام الشخص من هؤلاء الرجال باطن الأعراف ، وهو السور الذي بين أهل السعادة والشقاوة ، وهم الذين لا تقيدهم صفة ، وإنما كان مقامه باطن الأعراف ، لأن معرفته رحمانية وهمته عرشية ، فإن العرش مستوى الرحمن ، كذلك باطن الأعراف فيه الرحمة كما أن ظاهره فيه العذاب ، فهذا الشخص له رحمة بالموجودات كلها ، بالعصاة والكفار وغيرهم " 1 " .
( ف ح 4 / 57 - ح 2 / 360 - ح 1 / 83 ، 187 ، 251 ) .
فهذا القول الذي صدر من أبي يزيد لا يكون إلا لصاحب مكان ، وهو منزلة في البساط لا تكون إلا لأهل الكمال ، الذين تحققوا بالمقامات والأحوال ، وجازوها إلى المقام الذي فوق الجلال والجمال ، فلا صفة لهم ولا نعت ، ولا يقال في أحد من أهل هذه الطريقة إنه محمدي إلا لشخصين : إما شخص اختص بميراث علم من حكم لم يكن في شرع قبله ، فيقال فيه محمدي ؛ وإما شخص جمع المقامات ثم خرج عنها إلى لا مقام - كأبي يزيد وأمثاله - فهذا أيضا يقال فيه محمدي ، وما عدا هذين الشخصين فينسب إلى نبي من الأنبياء ، كما لا
..........................................................................................
( 1 ) إشارة إلى وراثته " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " .
" 175 "
يخرج عن مقام الحزن ، إلا من أقيم في مقام سلب الأوصاف عنه ، كما قيل لأبي يزيد : كيف أصبحت ؟ قال : لا صباح لي ولا مساء ، إنما هي لمن تقيد بالصفة ، وأنا لا صفة لي ؛ وذلك لما سأله بكيف وهي للحال ، وهي من أمهات المطالب الأربعة ، وما قصد أبو يزيد التمدح بهذا القول ، وإنما قصد التعريف بحاله ، فإن الصباح والمساء لله لا له ، وهو المقيد تعالى بالصفة ، والعبد العنصري مقيد بالصباح والمساء غير مقيد بالصفة ، ولهذا نفى الصفة فقال : لا صفة لي ؛ قال تعالىلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّافالصباح والمساء يملكه ، ولا ملك لأبي يزيد عليهما ، لأنهما بالصفة يملكان ، وأبو يزيد لا صفة له ، فمن لا علم له بالمقام يتخيل أن أبا يزيد تأله في هذا القول ، ولم يقصد ذلك رضي اللّه عنه ، بل هو أجلّ من أن يعزى إليه مثل هذا التأويل في قوله هذا ، فإن قال من يتأول عليه خلاف ما قلناه ، من أنه تأله في قوله بقوله : ضحكت زمانا وبكيت زمانا ، وأنا اليوم لا أضحك ولا أبكي ؛
( ف ح 2 / 133 ، 386 - ح 1 / 223 - ح 2 / 187 )
فلينظر شرح ذلك فيما يلي :قول أبي يزيد : أنا اليوم لا أضحك ولا أبكي .
قال أبو يزيد : ضحكت زمانا وبكيت زمانا ، وأنا اليوم لا أضحك ولا أبكي ؛ اعلم أنه ثمّ تجل يضحك وتجل يبكي ، والبوادة في اصطلاح القوم هي فجأة إلهية ، تفجأ القلوب من حضرة الغيب بحكم الوقت ، ولا تأتي إلا أن تعطي فرحا في القلب أو حزنا ، فتضحك وتبكي ، وهو قول أبي يزيد : ضحكت زمانا وبكيت زمانا ؛ يريد أنه كان في حكم البوادة ، ثم قال : وأنا اليوم لا أضحك ولا أبكي ؛ يعرّف بانتقاله من تأثير حال البوادة فيه إلى حال العظمة ، ولا تكون البوادة إلا فيمن يتصف ، ومن لا وصف له لا بديهة له ، فقول أبي يزيد هذا ، تعريف أنه انتقل عن مقام الضحك ومقام البكاء إلى المقام الذي بينهما ، فإنهما من الأمور المتقابلة ، التي ما يكون بينهما واسطة ، كالنفي والإثبات ، لا كالوجود والعدم والحار والبارد ، فإن بينهما واسطة تأخذ من كل طرف بنسبة تميزه عن الطرفين ، وكذلك إذا لم يكن الشخص في موجب ضحك ، ولا موجب بكاء ، كحالة البهت لأهل اللّه ، فهو لا ضاحك ولا باك ، فوصفه البهت والتعري على الموجبين ، فأراد أبو يزيد التعريف ما أراد التمدح ،
" 176 "
فإن الإنسان تختلف عليه الأحوال مع اللّه في تلاوة القرآن ، إذا كان من أهل اللّه ممن يتدبر القرآن ، فآية تحزنه فيبكي ، وآية تسره فيضحك ، وآية تبهته فلا يضحك ولا يبكي ، وآية تفيده علما ، وآية تجعله مستغفرا وداعيا .
( ف ح 2 / 558 ، 187 - ح 1 / 356 ) .
واعلم أن الأرواح لو تجردت عن المواد ، لما صحّت البشائر في حقها ، ولا حكم عليها سرور ولا حزن ، ولكان الأمر لها علما مجردا من غير أثر ، فإن الالتذاذ الروحاني إنما سببه إحساس الحس المشترك ، مما يتأثر له المزاج من الملائمة وعدم الملائمة وبالقياسات ، وأما الأرواح بمجردها فلا لذة لها ولا ألم ، وقد يحصل ذلك لبعض العارفين في هذا الطريق ، قال أبو يزيد : ضحكت زمانا وبكيت زمانا ، وأنا اليوم لا أضحك ولا أضحك ولا أبكي ؛ وهو عين ما قلناه ، فإنه وقف مع مجرد روحه من غير نظر إلى طبيعته ، فما شاهد إلا علما محضا ، واعلم أن النعيم لا يصح أصلا في غير مظهر ، فإنه فناء ليس فيه لذة ، فإذا تجلى الحق في المظاهر وقعت اللذات والآلام ، وسرت في العالم ، فلا يوجد النعيم أبدا إلا في مركب ، وكذلك العذاب ، فالخوف كله من التركيب ، والآفات كلها إنما تطرأ على الشخص من كونه مركّبا ، والخروج عن التركيب يعقل ، وليس بواقع في العالم أصلا المركب " 1 " ، وأما النعيم والعذاب البسيط فلا حكم له في الوجود ، فإنه معقول غير موجود ، لهذا قال أبو يزيد إنه لا صفة له ، فإنه أقيم في معقولية بساطته ، فلم ير تركيبا ، فقال : لا صفة لي ؛ فصدق ، ولكنه غير واقع في الوجود الحسي العيني ، فما ثمّ إلا مركب ، فأهل المظاهر هم أهل النعيم والعذاب ، وأهل أحدية الذات لا نعيم عندهم ولا عذاب ، وهم أهل اللّه الذين لا يصلحون إلا للّه لا لغيره ، فإن للجنة أهلا هم أهلها لا يصلحون إلا لها ، لا يصلحون للّه وإن جمعتهم حضرة الزيارة ، ولكن هم فيها بالعرض ، وكل طائفة لها شرب وذوق ، فإذا رأيت عارفا تأتي عليه أسباب الالتذاذ وأسباب التألم ، ولا يلتذ ولا يتألم لا بالمحسوس ولا بالمعقول في اقتناء العلوم الملذة ، فتعلم أن وقته التجرد التام عن طبيعته ، وهذا أقوى التشبه الذي يسعى إليه العلماء باللّه ، وواجده قليل ، والقليل الذي يجده ، قليل الاستصحاب لهذا الوجدان ، وإنما اللّه يكرم به
...................................................................................
( 1 ) يوجد تقديم وتأخير والمعنى : وليس بواقع أصلا في العالم المركب .
" 177 "
من شاء من عباده في خطرات ما ، ليعلمه بالتوحيد الذاتي من حيث هو لنفسه ، لا من حيث المرتبة التي يتعلق بها الممكن .
( ف ح 3 / 85 ، 73 - ح 4 / 59 ، 97 - ح 2 / 73 - ح 3 / 86 )
قول أبي يزيد : لو أن العرش وما حواه . . . في زاوية قلب العارف ، ما أحس به .
قال أبو يزيد : لو أن العرش وما حواه ، مائة ألف ألف مرة ، في زاوية من زوايا قلب العارف ، ما أحس به ؛ قال تعالى " ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن " وما حاز المؤمن هذه السعة ، إلا بكونه على صورة العالم وعلى صورة الحق ، وكل جزء من العالم ما هو على صورة الحق ، فمن هنا وصفه الحق بالسعة ،
قال أبو يزيد في سعة قلب العارف " لو أن العرش " يعني ملك اللّه " وما حواه " من جزئيات العالم وأعيانه " مائة ألف ألف مرة " لا يريد الحصر ، وإنما يريد ما لا يتناهى ولا يبلغه المدى ، فعبر عنه بما دخل في الوجود ويدخل أبدا " في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به " وذلك لأن قلبا وسع القديم ، كيف يحس بالمحدث موجودا ؟ !
وهذا من أبي يزيد توسع على قدر مجلسه لإفهام الحاضرين ، وأما التحقيق في ذلك ، أن يقول : إن العارف لما وسع الحق قلبه وسع قلبه كل شيء ؛ إذ لا يكون شيء إلا عن الحق ، فلا تتكون صورة شيء إلا في قلبه ، يعني في قلب ذلك العبد الذي وسع الحق ، فكان أبو يزيد في هذا القول تحت حكم الاسم الواسع ،
فما فاض عنه شيء ، وذلك أنه تحقق بقوله " ووسعني قلب عبدي " فلما وسع قلبه الحق ، والأمور منه تخرج - التي يقع فيها التفويض ممن وقع - فهو كالبحر وسائر القلوب كالجداول .
( ف ح 4 / 8 )
قول أبي يزيد للحق : أريد أن لا أريد ، لأني أنا المراد وأنت المريد .
سئل أبو يزيد عن الزهد فقال : هو هين ( أو قال : ليس بشيء ) لا قدر له عندي ، ما كنت زاهدا سوى ثلاثة أيام ، اليوم الواحد زهدت في الدنيا ، واليوم الثاني زهدت في
" 178 "
الآخرة ، واليوم الثالث زهدت في كل ما سوى اللّه ، فنوديت : ماذا تريد ؟ فقلت : أريد أن لا أريد ، لأني أنا المراد وأنت المريد ؛
( ف ح 1 / 469 - ح 2 / 19 )
الإرادة عند القوم لوعة يجدها المريد من أهل هذه الطريقة ، تحول بينه وبين ما كان عليه مما يحجبه عن مقصوده ، والإرادة عند أبي يزيد ترك الإرادة ، وذلك قوله : أريد أن لا أريد ؛ فأراد محو الإرادة من نفسه ،
وقال هذا القول في حال قيام الإرادة به ، فإن الإنسان لا يخلو نفسا واحدا عن طلب يقوم به لأمر ما ، وإذا كانت حقيقة الإنسان ظهور الطلب فيه ، فليجعل متعلق طلبه مجهولا غير معين ، إلا من جهة واحدة ، وهو أن يكون متعلق طلبه ما يحدثه اللّه في العالم ، نفسه أو في غيره ،
فما وقعت عليه عينه ، أو تعلق به سمعه ، أو وجده في نفسه ، أو عامله به أحد ، فليكن ذلك عين مطلوبه المجهول ، قد عيّنه له الوقوع ، فيكون قد وفّى حقيقة كونه طالبا ، وتحصل له اللذة بكل واقع منه أو فيه ، أو من غيره أو في غيره ، فإن اقتضى ذلك الواقع التغيير له ، تغير لطلب الحق منه التغير ،
وهو طالب الواقع ، والتغير هو الواقع ، وليس بمقهور فيه ، بل هو ملتذ في تغييره ، كما هو ملتذ في الموت للتغير ، فمن طلب المحال قال : أريد أن لا أريد ؛ وإنما الطلب الصحيح الذي تعطيه حقيقة الإنسان ،
أن يقول : أريد ما تريد ؛ وأما طريقتها في العموم فسهل على أهل اللّه ، وذلك أن الإنسان لا يخلو من حالة يكون عليها ، ويقوم فيها ، عن إرادة منه ، وعن كره بأن يقام فيها من غير إرادة ، ولا بد أن يحكم لتلك الحال حكم شرعي يتعلق بها ، فيقف عند حكم الشرع ، فيريد ما أراده الشرع ، فيتصف بالإرادة لما أراد الشرع خاصة ، فلا يبقى له غرض في مراد معين ،
وكذلك من قال : إن العبد ينبغي أن يكون مع اللّه بغير إرادة ؛ لا يصح ، وإنما يصح لو قال :
إن العبد من يكون متعلق إرادته ما يريد الحق به ؛ إذ لا يخلو عن إرادة ، ولو أن الإنسان يصرف غرضه إلى ما أراده له خالقه لاستراح ، فقيل لأبي يزيد " ما تريد ؟ " قال " أريد أن لا أريد " أي اجعلني مريدا لكل ما تريد ، حتى لا يكون إلا ما يريد الحق ، فما يريد بعباده إلا اليسر ولا يريد بهم العسر ، ويريد لهم الخير وليس إليه الشر ، فإن خروج الإنسان عن أن يكون مريدا محال ،
وأنه أول ما كان يقدح ذلك في الطاعات ، فيفعلها من غير نية مشروعة فلا تكون طاعة ، وإنما طلب أبو يزيد الخروج عن الأغراض النفسية ، التي لا توافق مرضاة
" 179 "
الحق عز وجل ، ثم تمم أبو يزيد وقال : لأني أنا المراد وأنت المريد ؛ يخاطب الحق ، وذلك أنه لما علم أن الإرادة متعلقها العدم ، والمراد لابد أن يكون معدوما لا وجود له ، ورأى الممكن عدما وإن اتصف بالوجود ،
لذلك قال " أنا المراد " أي أنا المعدوم " وأنت المريد " فإن المريد لا يكون إلا موجودا .
( ف ح 2 / 521 - ح 3 / 464 - ح 2 / 521 ) .
قول أبي يزيد : العارف فوق ما يقول ، والعالم تحت ما يقول .
المعرفة عند القوم محجة ، فكل علم لا يحصل إلا عن عمل وتقوى وسلوك فهو معرفة ، لأنه كشف محقق لا تدخله الشبه ، بخلاف العلم الحاصل عن النظر الفكري ، لا يسلم أبدا من دخول الشبه عليه والحيرة فيه ، والقدح في الأمر الموصل إليه ، واعلم أنه لا يصح العلم لأحد إلا لمن عرف الأشياء بذاته ، وكل من عرف شيئا بأمر زائد على ذاته ، فهو مقلد لذلك الزائد فيما أعطاه ، وما في الوجود من علم الأشياء بذاته إلا واحد ، وكل ما سوى ذلك الواحد ، فعلمه بالأشياء وغير الأشياء تقليد ، وإذا ثبت أنه لا يصح - فيما سوى اللّه - العلم بشيء إلا عن تقليد ، فلنقلد اللّه ، ولا سيما في العلم به ، والمعرفة منحصرة في العلم بسبعة أشياء ، وهي الطريق الذي سلكت عليه الخاصة من عباد اللّه : الواحد علم الحقائق وهو علم بالأسماء الإلهية ، الثاني العلم بتجلي الحق في الأشياء ، الثالث العلم بخطاب الحق عباده المكلفين بألسنة الشرائع ، الرابع علم الكمال والنقص في الوجود ، الخامس علم الإنسان نفسه من جهة حقائقه ، السادس علم الخيال وعالمه المتصل والمنفصل ، السابع علم الأدوية والعلل ، فمن عرف هذه السبع المسائل فقد حصل المسمى معرفة ، وسمي عارفا خاصة ، فإن زاد على هذا ، العلم باللّه وما يجب له وما يجوز عليه وما يستحيل ، ويفرق بين علمه بذاته وبين علمه بكونه إلها ، فهذا مقام العلماء باللّه لا مقام العارفين ، فإن المعرفة محجة وطريق ، والعلم حجة ، والعلم نعت إلهي ، والمعرفة نعت كياني نفسي رباني ، غير أن أهل اللّه قد أطلقوا على العلماء باللّه اسم العارفين ، وعلى العلم باللّه من طريق الذوق معرفة ، وحدّوا هذا المقام بتنائجه ولوازمه ، التي تظهر عن هذه الصفة في أهلها ، لذلك اختلف في مقام المعرفة والعارف ، ومقام العلم والعالم ، فطائفة قالت : مقام المعرفة رباني ومقام العلم
" 180 "
إلهي ؛ وبه قال الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ، والمحققون كسهل بن عبد اللّه التستري وأبي يزيد البسطامي وابن العريف وأبي مدين ، وطائفة قالت : مقام المعرفة إلهي ومقام العلم دونه ؛ وإنما أرادوا بالعلم ما أردناه بالمعرفة ، وأرادوا بالمعرفة ما أردناه بالعلم ، فالخلاف فيه لفظي في التسمية لا في المعنى . واعلم أن الذين هم تحت ما يقولون طائفتان : طائفة في غاية العلم باللّه ، مما في وسع البشر أن يعلموه من اللّه ، والطائفة الأخرى في غاية البعد والحجاب عن اللّه ، وهم الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم الذين لا يرون شيئا فوق علم الرسوم ، فهم يشبهون الطبقة العالية في كونهم تحت ما يقولون ، كما أنهم شاركوهم في اسم العلم ، وانفصلوا عنهم بمن ، أعني بالمعلوم ، أي بمن تعلق علمهم .
( ف ح 1 / 252 - ح 2 / 297 ، 316 ، 318 - ح 1 / 650 )
الفرق بين العالم والعارف :
قال من غمرنا بنعماه ، وحبانا برحماهشَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِأخبر سبحانه وتعالى عباده بشرف العلم ، حيث وصف به نفسه ، فينبغي لك أيها الموفق السعيد ، أن تعتقد فيه الشرف التام ، وليس في الصفات أعم منه تعلقا ، لتعلقه بالواجبات والجائزات والمستحيلات ، وغيره من الصفات ليس كذلك . واعلم أن الشرف الذي للعلم شرفان : شرف من حيث ذاته ، وشرف من حيث معلومه ، فالشرف الذي له من حيث ذاته ، كونه يوصلك إلى حقيقة الشيء على ما هو عليه ، ويزيل عنك أضداده ، إذا قام بك الجهل بذلك المعلوم ، والظن والشك والغفلة وما ضاده ، والذي له من حيث معلومه يكسبه ذلك الشرف ، فكما أن بعض المعلومات أشرف من بعض ، كذلك بعض العلوم أشرف من بعض ، فكثير بين من قام به العلم بأوصاف الحق وأفعاله ، وبين من قام به العلم بأن زيدا في الدار وخالدا في السوق ، فكما أنه ليس بين المعلومين مناسبة من الشرف ، كذلك العلمان ، فهذا هو الشرف الطارىء على العلم من المعلوم ، ثم إن اللّه تبارك وتعالى مدح من قامت به صفة العلم وأثنى عليه ، ووصف بها عباده ، كما وصف نفسه في غير ما موضع من الكتاب العزيز كقوله تعالىشَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا
" 181 "
الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ فأخبر تعالى أن العلماء هم الموحدون على الحقيقة ، والتوحيد أشرف مقام ينتهى إليه ، وليس وراءه مقام ، فمن زلت قدمه عن صراط التوحيد رسما أو حالا وقع في الشرك ، فمن زلت قدمه في الرسمي فهو مؤبد الشقاء ، لا يخرج من النار أبدا ، لا بشفاعة ولا بغيرها ، ومن زلت قدمه في الحال ، فهو صاحب غفلة يمحوها الذكر وما شاكله ، فإن الأصل باق ، يرجى أن يجبر فرعه بمنّ اللّه تعالى وعنايته ، وليس الفرع كذلك ، وكقوله جل تعالى في صاحب موسى عليه السلاموَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماًوهو علم الإلهام ، فالعالم أيضا صاحب إلهام وأسرار ، وكقوله تعالىإِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُفالعالم أيضا صاحب خشية ، وكقوله تعالىوَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَفالعالم أيضا صاحب الفهم عن اللّه بحكم آيات اللّه وتفاصيلها ، وكقوله تعالىوَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِفالعالم هو الراسخ الثابت ، الذي لا تزيله الشبه ولا تزلزله الشكوك ، لتحققه بما شاهد من الحقائق بالعلم ، كقوله تعالىأَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَفالعلماء هم الذين علموا الكائنات قبل وجودها ، وأخبروا بها قبل حصول أعيانها ، وهي الصفة الشريفة التي أخبر اللّه تعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالزيادة منها ، فقال تعالىوَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماًولم يقل له ذلك في غيره من الصفات ، فما أشرفها من صفة حبانا اللّه بالحظ الوافر منها ، وكيف لا يفرح بهذه الصفة ويهجر من أجلها الكونان ؟ !
ولها شرفان كبيران عظيمان :
الشرف الواحد أن اللّه تعالى وصف بها نفسه ،
والشرف الثاني أنه مدح بها أهل خاصته من أنبيائه وملائكته ،
ثم منّ علينا سبحانه - ولم يزل مانا - بأن جعلنا ورثة أنبيائه فيها ، فقال عليه الصلاة والسلام : العلماء ورثة الأنبياء ؛ فلأي شيء يا قوم ننتقل من اسم سمانا اللّه تعالى به ونبيه ، إلى غيره ونرجحه عليه ، ونقول فيه عارف وغير ذلك ، واللّه ما ذاك إلا من المخالفة التي في طبع النفس ، حتى لا توافق اللّه تعالى فيما سماها به ، ورضيت أن تقول فيه عارف ولا تقول عالم ، نعوذ باللّه من حرمان المخالفة ، ولو لم يكن في المعرفة من النقص عن درجة العلم في اللسان العربي ، إلا أنها تعطيك العلم بشيء واحد ، فلا يحصل لك سوى فائدة واحدة ، لأنها تتعدى إلى مفعول واحد ، والعلم يعطيك فائدتين لتعديه إلى مفعولين ، ثم انظره في قوله تعالىلا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْلما ناب هنا العلم مناب المعرفة وجعل بدلا منها ، تعدى إلى مفعول واحد ،
" 182 "
فلحقه الحرمان بالنيابة ، وإن كان العلم والمعرفة في الحد والحقيقة على السواء ، من كشف الشيء على ما هو عليه ،
فما لنا لا نبقى على ما سمانا به الحق سبحانه ونخالف ؟
بل واللّه أقول : إن هذا القائل بإطلاق المعرفة في الموضع الذي يجب فيه إطلاق العلم بلزوم الأدب الإلهي ، أنه لو تحقق في الورث النبوي ، ما سمى ذلك المقام إلا علما ، ولا سمى صاحبه إلا عالما ،
كما فعل سهل بن عبد اللّه حين قال : لا يكون العبد باللّه عارفا إلا إن كان به عالما ، ولا يكون به عالما إلا إن كان رحمة للخلق ؛ ثم قال بعد هذا : والسماء رحمة للأرض ، وبطن الأرض رحمة لظهرها ، والآخرة رحمة للدنيا ، والعلماء رحمة للجهال ، والكبار رحمة للصغار ، والنبي عليه الصلاة والسلام رحمة للخلق ، واللّه عز وجل رحيم بخلقه ؛ فتأمل وفقك اللّه أين جعل سهل العالم ؟ وفي أي مقام أنزله ؟
وبمن شبهه ؟
وسهل بن عبد اللّه حجة اللّه على الصوفية المحققين ، وإنما قال سهل في كلامه الذي ذكرنا : لا يكون العبد باللّه عارفا ؛ حتى يكون الجاري على ألسنة القوم ، فأعطاه ما تواطؤوا عليه أن يذكر ما ذكروه ، حتى يفهم عنه ، وأعطاه الأدب الإلهي والمقام ، أن لا يسميه إلا عالما ،
يقول سهل رضي اللّه عنه : للعالم ثلاثة علوم : علم ظاهر يبذل لأهل الظاهر ، وعلم باطن يمنع إظهاره إلا لأهله ، وعلم هو سر بين العالم وبين اللّه ، هو حقيقة إيمانه لا يظهره لأهل الظاهر ولا لأهل الباطن ؛ فانظر كيف أطلق سهل عليه اسم العالم وعلى ذلك العلم ، ولم يقل العارف ولا المعرفة ، للأدب الذي ذكرنا آنفا ، فلما نقص غيره عن ذلك المقام الشريف ، ولم تتعلق همته إلا بشيء واحد ، إما بربه وإما بنفسه ، أعطاه المقام بذاته أن سمى نفسه عارفا ، فإن الكمال على الحقيقة إنما هو فيمن شاهد ربه ونفسه .
ومما يؤيد ما ذكرناه في حق العارف أنه دون العالم الصدّيق ، لو شرح اللّه صدر من فضّله على العالم وتأدب مع الحق - إذ هم أهل الأدب معه بشرط الحضور - أن اللّه تعالى ما سمى عارفا ، إلا من كان حظه من الأحوال البكاء ، ومن المقامات الإيمان بالسماع لا بالأعيان ، ومن الأعمال الرغبة إليه سبحانه ، والطمع في اللحوق بالصالحين ، وأن يكتب مع الشاهدين ، فقال تعالىوَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّولم يقل علموا فوصفهم بالمعرفةيَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ ،
" 183 "
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ ، وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ، فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فأخبر تعالى أن سماعهم من الكتاب الكبير لا من أنفسهم ، ومعنا إشارة يفهمها أصحابنا ، ثم قال فَأَثابَهُمُ ولم نشك أن الصديقية درجة فوق هاتين الصفتين ، اللتين طلب العارف أن يلحق بهما ، فهو دونهما وقد سمي عارفا ،
وقال تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ
فانظر إلى هذه الدرجات ، ثم لتعلم أن الشهداء الذين رغب العارف أن يلحق بهم ، هم العاملون على الأجرة وتحصيل الثواب ، وأن اللّه عز وجل قد برأ الصديقين من الأعواض وطلب الثواب ، إذ لم يقم بنفوسهم ذلك ، لعلمهم أن أفعالهم ليست لهم أن يطلبوا عليها عوضا ، بل هم عبيد على الحقيقة والأجراء مجازا ، قال عز وجلوَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ولم يذكر لهم عوضا على عملهم ، إذ لم يقم لهم به خاطر أصلا لتبريهم من الدعوى ، ثم قالوَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ
وهم الرجال الذين رغب العارف أن يلحق بهم ويرسم في ديوانهم ، وقد جعلهم تعالى في حضرة الربوبية ، ولم يشترط في إيمان الصديقين السماع كما فعل بالعارفين ، حكمة منه سبحانه ، أن نتعلم الأدب وكيف ترتب الوجود ،
حتى ننزل كل موجود منزلته ، وأين تقتضيه مرتبته ، ونقتصر على الاسم الذي سماه به الحق وعرفناه ، فعلم الأسماء عظيم وفيه يظهر أدب أهل طريق اللّه مع اللّه ، وبه صح الشرف لأبينا نبي اللّه آدم صلى اللّه عليه وسلم ، فصاحب الأدب المراعي حرمة الحضرة الإلهية ، يقف عندها ويمشي معها ، فإذا رمزت له شيئا لم تعرّفه باسمه ، حينئذ له أن يصطلح مع نفسه بما يقارب معناه إن كان حكيما . ثم انظر بعين البصيرة أدب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أين جعل العارف ، حيث جعله الحق ، فقال : من عرف نفسه عرف ربه ؛ ولم يقل : علم ، فلم ينزله عن حضرة الربوبية ، ولا عن حضرة نفسه التي هي صاحبة الجنة ، كما قالوَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ
فالعارف صاحب الشهوة المحمودة ، تربيه بين يدي العالم الصديق ، فتأدب يا غافل عن ملاحظة الحقائق .
والعذر أو الاعتذار عن أصحابنا ، في تسميتهم صاحب المقام - الذي ذكرناه آنفا - عارفا ، ولم يسموه عالما كما قررنا ، وهو كان الأولى والأسد من كل وجه ، ولا عذر لمن تحقق
" 184 "
بالمقام المذكور ، في حيدته عن اسم العالم إلى العارف ، فإن الحكم يتوجه عليه في دعواه بلسانقُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْويمشي حاله على الأدب الإلهي كما يعطيه المقام ، ولكن غلبت عليهم رضي اللّه عنهم الغيرة على طريق اللّه ، لما رأوا أنه قد شاع في العالم أن يسمى عالما من كان عنده علم ما من العلوم ، وإن كان قد أكب على الشهوات ، وتورط بالشبهات بل في المحرمات ، وآثر القليل على الكثيرقُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌوهو عالم بهذا ، فعمر دنياه وخرب آخرته ، فهذا شخص تناقض أفعاله أقواله ، وهو من الثلاثة الذين تسعر بهم النار قبل كل أحد ، كما صح في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة ، ثم إنه إن تاب ورجع ، فإن النفس مالكة له وحاكمة عليه ، فغاية مجاهدته وغايته ، أن يقنع بحظ ما دني من الجنة - على أنه ليس ثمة من دني - ومع هذا كله يطلق عليه اسم العالم ، فرأوا رضي اللّه عنهم أن المقام العالي حصل لهم ولساداتهم ، كان أولى باسم العلم وصاحبه بالعالم كما سماه الحق ، فأدركتهم الغيرة أن يشاركهم البطال في اسم واحد ، فلا يتميز المقام ، ولا يقدرون على إزالته من البطال ، لإشاعته في الناس ، فلا يتمكن لهم ذلك ، فأداهم الأمر إلى تسمية المقام معرفة وصاحبه عارفا ، إذ العلم والمعرفة في الحد والحقيقة على السواء ، ففرقوا بين المقامين بهذا القدر ، فاجتمعا والحمد للّه في المعنى واختلفا في اللفظ ، إذ هذا الطريق لا يتصور فيه خلاف في المعنى أصلا ، فإذا وجد فإنما هو راجع إلى الألفاظ خاصة ، ولكنه في حقهم بالإضافة لمن آثر تسمية اللّه على اصطلاحهم ، وقت غفلة مر عليهم لغلبة الغيرة عليهم ، فيرجى لهم بقصدهم تنزيه المقام وغيرتهم ، أن يحصل لهم ما حصل لأهل الحضور ، والحمد للّه المنعم المتفضل .
( كتاب مواقع النجوم ) .
قول أبي يزيد : يا عجبا كيف يحشر إليه من هو جليسه ؟ !
سمع أبو يزيد قارئا يقرأ هذه الآيةيَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداًفبكى حتى ضرب الدمع المنبر ، بل روي أنه طار الدم من عينيه حتى ضرب المنبر ، وصاح وقال : يا عجبا كيف يحشر إليه من هو جليسه ؟ !
الوجه الأول - قال أبو يزيد ذلك حين جهل الأسماء الإلهية وما تستحقه من الحقائق ،
" 185 "
فإنه في تلك الحالة كان جليسا مع الأسماء ، من حيث ما هي دالة على الذات ، كل واحد منها ، لم يكن مع الاسم من حيث ما تطلبه حقيقته ، من عين دلالته على الذات ، فأنكر ما لم يعطه مشهده - مع كونه كلام الحق - وقد وقع منه الإنكار ، بل ما وقع منه إلا التعجب خاصة ، فهو يشبه الإنكار وليس بإنكار ، حتى إنه لو كان هذا القول من غير اللّه ، لأمر القائل بالسكوت وزجره عن ذلك ، وإنما الرجل أظهر التعجب من قول اللّه في حق المتقين ، الذين هم جلساء اللّه ، كيف يحشرون إليه ؟ !
فكأنه إبراهيمي المشهد في طلب الكيفية في إحياء الموتى ، فأراد أبو يزيد ما أراده إبراهيم عليه السلام في كيفية إحياء الموتى ، لاختلاف الوجوه في ذلك لا إنكار إحياء الموتى ، فدل هذا الكلام من أبي يزيد على حاله في ذلك الوقت ، فلو علم أبو يزيد أن المتقي ما هو جليس الرحمن ، إنما هو جليس الجبار المريد العظيم المتكبر ، فيحشر المتقي إلى الرحمن ليكون جليسه ، فيزول عنه الاتقاء ، فإن الرحمن لا يتّقى ، بل هو محل موضع الطمع والإدلال والأنس ، فليس العجب إلا من قول أبي يزيد ، لأن المتقي جليس الجبار فيتقي سطوته ، والاسم الرحمن ما له سطوة من كونه الرحمن ، إنما الرحمن يعطي اللين والعطف والعفو والمغفرة ، فلذلك يحشر إليه من الاسم الجبار الذي يعطي السطوة الإلهية ، فإنه جليس المتقين في الدنيا مع كونهم متقين ، فالمتقي ذاكر اللّه ذكر حذر ،
فلما حشر إلى الرحمن - وهو مقام الأمان مما كان فيه من الحذر - فرح بذلك واستبشر ، فكان دمع أبي يزيد دمع فرح ، كيف حشر منه إليه ، حين حشر غيره إلى الحجاب ؟
( ف ح 3 / 212 ، 213 - ح 1 / 511 )
الأولياء إذا طلبوا الحق بالحق ، فإنما هو انتقال من اسم إلى اسم باسم ، ومن حال إلى حال بحاليَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداًحشروا من الاسم الذي يتقونه ، إلى الاسم الذي يلطف بهم ويرحمهم ، فالمتقي جليس القاهر ، والآمن جليس الرحمن .
( كتاب التراجم / ترجمة الاستواء )
الوجه الثاني : اعلم أن الأكابر من أهل اللّه رضي اللّه عنهم صادقون ، لا يتعدون ذوقهم في كل حال ، بخلاف العامة من أهل اللّه ، فإنهم يتكلمون بأحوال غيرهم ، والخاصة لا سبيل لهم إلى ذلك ، فصدق أبو يزيد لأنه ما كان مشهوده في الحال إلا الرحمن ، والولي لا
" 186 "
يتعدى ذوقه ، ولا ينطق بغير حاله ، ويرد كل شيء يسمع إلى الحال الذي يغلب عليه ، وكان حال أبي يزيد في ذلك الوقت هو الذي نطق به .
( ف ح 4 / 109 )
جاع أبو يزيد فبكى ، فقيل له في ذلك فقال : إنما جوعني لأبكي .
ما آلمك اللّه وحكم عليك بخلاف غرضك - وغرضك من جعل حكمه فيك - إلا لتسأله في رفع ذلك عنك ، بما جعل فيك من العرض الذي بسببه تألمت ، فمن لم يشك إلى اللّه - مع الإحساس بالبلاء وعدم موافقة الغرض - فقد قاوم القهر الإلهي ، فالأدب كل الأدب في الشكوى إلى اللّه في رفعه ، لا إلى غيره ، ويبقى عليه اسم الصبر ، كما قال تعالى في رسوله أيوب عليه السلامإِنَّا وَجَدْناهُ صابِراًفالعارف وإن وجد القوة الصبرية يفر إلى موطن الضعف والعبودية وحسن الأدب ، فإن القوة للّه جميعا ، فيسأل ربه رفع البلاء عنه ، وهذا لا يناقض الرضاء بالقضاء ، فإن البلاء إنما هو عين المقضي لا القضاء ، فيرضى بالقضاء ويسأل اللّه في رفع المقضي عنه ، فيكون راضيا صابرا ، فهو يبكي له وعليه ، فإن الأكابر لا يحبسون نفوسهم عن الشكوى إلى اللّه .
( ف ح 4 / 143 - ح 2 / 29 ، 208 )
قيل لأبي يزيد رضي اللّه عنه : أيعصي العارف ؟
فقال : وكان أمر اللّه قدرا مقدورا .
أخفى اللّه سبحانه تقريبه وعنايته فيمن أسعده اللّه ، بما شغله اللّه به من البكاء على ذنبه ، ومشاهدته زلته ، ونظره إليها في كتابه ، وذهل عن أن ذلك الندم يعطيه الترقي عند اللّه ، فإنه ما بشره بقبول التوبة ، فهو متحقق وقوع الزلة ، حاكم عليه الانكسار والحياء مما وقع فيه ، وإن لم يؤاخذه اللّه بذلك الذنب ، فإن الحياء يستلزمه ، وينبغي أن تكون زلات الأكابر - غالبا - نزولهم إلى المباحات لا غير ، وفي حكم النادر تقع منهم الكبائر ، ولذلك لما كان العارف من أهل الكشف ، جوّز أبو يزيد ، وكان قوله غاية في الأدب ، حيث لم يقل :
نعم ولا لا ، وهذا من كمال حاله وعلمه وأدبه ، وهكذا يكون أدب العارفين مع الحق في أجوبتهم ، حيث قال : إن كان اللّه قدر عليهم في سابق علمه ذلك ، فلا بد منه ، وهي معصية ، فلا بد من الحجاب ، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إذا أراد اللّه إنفاذ قضائه وقدره ،
" 187 "
سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قدره ، ردها عليهم ليعتبروا ؛ وكذلك حال العارف ، إذا أراد اللّه وقوع المخالفة منه ، ومعرفته تمنعه من ذلك ، فيزين اللّه له ذلك العمل بتأويل يقع له ، فيه وجه إلى الحق ، لا يقصد العارف به انتهاك الحرمة ، كما فعل آدم ، كالمجتهد يخطئ ، فإذا وقع منه المقدور ، أظهر اللّه له فساد ذلك التأويل الذي أداه إلى ذلك الفعل ، كما فعل بآدم ، فإنه عصى بالتأويل ، فإذا تحقق بعد الوقوع أنه أخطأ ، علم أنه عصى ، فعند ذلك يحكم عليه لسان الظاهر بأنه عاص ، وهو عاص عند نفسه ، وأما في حال وقوع الفعل منه فلا ، لأجل شبهة التأويل ، كالمجتهد في زمان فتياه بأمر ما ، اعتقادا منه أن ذلك عين الحكم المشروع في المسألة ، وفي ثاني حال يظهر له بالدليل أنه أخطأ ، فيكون لسان الظاهر عليه أنه مخطىء في زمان ظهور الدليل لا قبل ذلك ، لذلك قال أبو يزيد عندما قيل له : أيعصي العارف ؟ قال : وكان أمر اللّه قدرا مقدورا ؛ فتقع المعصية من العارفين أهل العناية بحكم التقدير . لنفوذ القضاء السابق فيهم ، لا أنهم يقصدون انتهاك حرمات اللّه ، فلا تصدر منهم معصية أصلا انتهاكا لحرمة اللّه كمعاصي الغير ، فإن الإيمان المكتوب في القلوب يمنع من ذلك .
( ف ح 1 / 233 - ح 2 / 491 - ح 1 / 516 - ح 2 / 491 ، 23 - ح 1 / 561 ) .
فمن كشف عنه الغطاء ، حتى شاهد الأمر على ما هو عليه ، هل هو مخاطب بالآداب السمعية ؟
أو يقتضي ذلك المقام الذهول وذهاب عقل التكليف فيبقى بلا رسم مع المهيمين من الملائكة . ؟ ؟
فتحقيق ذلك : أن المعصية لا تقع أبدا إلا عن غفلة أو تأويل ، لا غير ذلك في حق المؤمن ، وإذا وقع عين ذلك العمل من صاحب الشهود ، فلا يسمى معصية عند اللّه ، وإن انطلق عليه لسان الذنب في العموم ، فللغشاوة التي على أبصار المحجوبين ، فيعذرهم اللّه فيما أنكروه على من ظهر منه هذا الفعل ، وهو في نفس الأمر ليس بعاص ، فإن رجال اللّه في الفناء ، تفنى عن المخالفات فلا تخطر لهم ببال ، عصمة وحفظا إلهيا ،
وافقنا على هذا القول شيخنا أبو يزيد البسطامي حيث قال : وأنا الآن لا صفة لي ؛ يعني لما أقامه الله في هذا المقام ، فصفات العبد كلها معارة من عند اللّه ، فهي للّه حقيقة ونعتنا بها ، فقبلناها أدبا على علم أنها له لا لنا ، إذ من حقيقتنا عدم الاعتراض ، إنما هو التسليم الذاتي المحض ، لا التسليم الذي هو صفة له ،
فإن ذلك له ، فإذا كان العبد ما عنده من ذاته سوى عينه ، بالضرورة يكون الحق جميع صفاته ، ويقول له : أنت عبدي حقا ؛ فما سمع سامع في نفس الأمر إلا بالحق ، ولا أبصر إلا به ، ولا علم إلا به ، ولا حيي ولا قدر ولا تحرك ولا سكن ، ولا أراد ولا قهر ولا أعطى ولا منع ، ولا ظهر عليه وعنه أمر ما هو عينه ، إلا وهو الحق لا العبد ، فما للعبد سوى عينه ، سواء علم ذلك أو جهله ، وما فاز العلماء إلا بعلمهم بهذا القدر في حق كل ما سوى اللّه ، لا أنهم صاروا كذا بعد أن لم يكونوا ، فأنت من حيث هويتك لا نعت لك ولا صفة ، فإن للعالم حكمين ، حكم به صحت المناسبة بينه وبين الحق ، وبها كان العالم خلقا للّه ، ومنسوبا إليه أنه وجد عنه ، فارتبط به ارتباط منفعل عن فاعل ، ولهذا الحكم لم يزل العالم مرجحا في حال عدمه بالعدم ، وفي حال وجوده بالوجود ، فما اتصف بالعدم إلا من حيث مرجحه ، ولا بالوجود إلا من حيث مرجحه ، والحكم الآخر هو من حيث هويته وحقيقته ، لا نعت له من ذاته ، فالحق هو ما يكون به العبد عبدا من جميع الوجوه ، وهو من حيث هويته لا نعت له ولا صفة " 1 " ، فالمحقق لا صفة له لأن الكل للّه ، فلا تقل إن الحق وصف نفسه بما هو لنا مما لا يجوز عليه ، فهذا سوء أدب وتكذيب للحق فيما وصف به نفسه ، بل هو - عند العارف الأديب - صاحب تلك الصفة من غير تكييف ، فالكل صفات الحق وان اتصف بها الخلق ، فهي مستعارة ، ما هو فيها بطريق الاستحقاق عند المحجوب بالطريق التي لا تجوز على الحق ، وما عرف المسكين أن الذي لا يجوز على الحق ، إنما هي تلك النسبة التي نسبتها بها إلى الخلق ، لا عين الصفة " 2 " .
( ف ح 2 / 646 - ح 4 / 13 ، 40 ، 36 ، 39 ، 408 ) .
..........................................................................................
( 1 ) إشارة إلى أن حقيقة العبد هي : " لا حول ولا قوة إلا باللّه " .
( 2 ) مثل ما جاء في قول الحق " جعت فلم تطعمني " الحديث .
" 174 "
وصاحب " لا صفة " هو من أهل العهد الخالص ، الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ، فلو استخلص عهده لكان مخلصا ، وإذا كان مخلصا كان ذا صفة ، فلم يصدق في قوله ، وهو عندنا صادق ، وكذلك نعت المحب بأنه مخلوع النعوت ، فإن المحب لا نعت له يقيد به ولا صفة ، فإنه بحيث يريد محبوبه أن يقيمه فيه ، فنعته ما يراد به ، وما يراد به لا يعرفه ، فهو مخلوع النعوت ، كما أن المشاهدة تعطي البراءة ، من الخلق والأحوال والكرامات والحقائق والمقامات والمنازلات ، وهذا مقام الأعراف ، ورجاله هم أهل الشم والتمييز والسراح عن الأوصاف ، فلا صفة لهم ، ويسمون في الطريق رجال الحد ، وهم الذين لهم التصرف في عالم الأرواح النارية ، عالم البرازخ والجبروت ، فإنه تحت الجبر ، فلهؤلاء الرجال استنزال أرواحها وإحضارها ، وهم لا يتعدون الحدود ، وهم رجال الرحمة التي وسعت كل شيء ، فلهم في كل حضرة دخول واستشراف ، وهم العارفون بالصفات التي يقع بها الامتياز لكل موجود عن غيره ، من الموجودات العقلية والحسية ، وهمة رجال هذا المقام عرشية ، فكما كان العرش للرحمن ، كانت الهمة لهذه المعرفة محلا لاستوائها ، فقيل همته عرشية ، ومقام الشخص من هؤلاء الرجال باطن الأعراف ، وهو السور الذي بين أهل السعادة والشقاوة ، وهم الذين لا تقيدهم صفة ، وإنما كان مقامه باطن الأعراف ، لأن معرفته رحمانية وهمته عرشية ، فإن العرش مستوى الرحمن ، كذلك باطن الأعراف فيه الرحمة كما أن ظاهره فيه العذاب ، فهذا الشخص له رحمة بالموجودات كلها ، بالعصاة والكفار وغيرهم " 1 " .
( ف ح 4 / 57 - ح 2 / 360 - ح 1 / 83 ، 187 ، 251 ) .
فهذا القول الذي صدر من أبي يزيد لا يكون إلا لصاحب مكان ، وهو منزلة في البساط لا تكون إلا لأهل الكمال ، الذين تحققوا بالمقامات والأحوال ، وجازوها إلى المقام الذي فوق الجلال والجمال ، فلا صفة لهم ولا نعت ، ولا يقال في أحد من أهل هذه الطريقة إنه محمدي إلا لشخصين : إما شخص اختص بميراث علم من حكم لم يكن في شرع قبله ، فيقال فيه محمدي ؛ وإما شخص جمع المقامات ثم خرج عنها إلى لا مقام - كأبي يزيد وأمثاله - فهذا أيضا يقال فيه محمدي ، وما عدا هذين الشخصين فينسب إلى نبي من الأنبياء ، كما لا
..........................................................................................
( 1 ) إشارة إلى وراثته " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " .
" 175 "
يخرج عن مقام الحزن ، إلا من أقيم في مقام سلب الأوصاف عنه ، كما قيل لأبي يزيد : كيف أصبحت ؟ قال : لا صباح لي ولا مساء ، إنما هي لمن تقيد بالصفة ، وأنا لا صفة لي ؛ وذلك لما سأله بكيف وهي للحال ، وهي من أمهات المطالب الأربعة ، وما قصد أبو يزيد التمدح بهذا القول ، وإنما قصد التعريف بحاله ، فإن الصباح والمساء لله لا له ، وهو المقيد تعالى بالصفة ، والعبد العنصري مقيد بالصباح والمساء غير مقيد بالصفة ، ولهذا نفى الصفة فقال : لا صفة لي ؛ قال تعالىلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّافالصباح والمساء يملكه ، ولا ملك لأبي يزيد عليهما ، لأنهما بالصفة يملكان ، وأبو يزيد لا صفة له ، فمن لا علم له بالمقام يتخيل أن أبا يزيد تأله في هذا القول ، ولم يقصد ذلك رضي اللّه عنه ، بل هو أجلّ من أن يعزى إليه مثل هذا التأويل في قوله هذا ، فإن قال من يتأول عليه خلاف ما قلناه ، من أنه تأله في قوله بقوله : ضحكت زمانا وبكيت زمانا ، وأنا اليوم لا أضحك ولا أبكي ؛
( ف ح 2 / 133 ، 386 - ح 1 / 223 - ح 2 / 187 )
فلينظر شرح ذلك فيما يلي :قول أبي يزيد : أنا اليوم لا أضحك ولا أبكي .
قال أبو يزيد : ضحكت زمانا وبكيت زمانا ، وأنا اليوم لا أضحك ولا أبكي ؛ اعلم أنه ثمّ تجل يضحك وتجل يبكي ، والبوادة في اصطلاح القوم هي فجأة إلهية ، تفجأ القلوب من حضرة الغيب بحكم الوقت ، ولا تأتي إلا أن تعطي فرحا في القلب أو حزنا ، فتضحك وتبكي ، وهو قول أبي يزيد : ضحكت زمانا وبكيت زمانا ؛ يريد أنه كان في حكم البوادة ، ثم قال : وأنا اليوم لا أضحك ولا أبكي ؛ يعرّف بانتقاله من تأثير حال البوادة فيه إلى حال العظمة ، ولا تكون البوادة إلا فيمن يتصف ، ومن لا وصف له لا بديهة له ، فقول أبي يزيد هذا ، تعريف أنه انتقل عن مقام الضحك ومقام البكاء إلى المقام الذي بينهما ، فإنهما من الأمور المتقابلة ، التي ما يكون بينهما واسطة ، كالنفي والإثبات ، لا كالوجود والعدم والحار والبارد ، فإن بينهما واسطة تأخذ من كل طرف بنسبة تميزه عن الطرفين ، وكذلك إذا لم يكن الشخص في موجب ضحك ، ولا موجب بكاء ، كحالة البهت لأهل اللّه ، فهو لا ضاحك ولا باك ، فوصفه البهت والتعري على الموجبين ، فأراد أبو يزيد التعريف ما أراد التمدح ،
" 176 "
فإن الإنسان تختلف عليه الأحوال مع اللّه في تلاوة القرآن ، إذا كان من أهل اللّه ممن يتدبر القرآن ، فآية تحزنه فيبكي ، وآية تسره فيضحك ، وآية تبهته فلا يضحك ولا يبكي ، وآية تفيده علما ، وآية تجعله مستغفرا وداعيا .
( ف ح 2 / 558 ، 187 - ح 1 / 356 ) .
واعلم أن الأرواح لو تجردت عن المواد ، لما صحّت البشائر في حقها ، ولا حكم عليها سرور ولا حزن ، ولكان الأمر لها علما مجردا من غير أثر ، فإن الالتذاذ الروحاني إنما سببه إحساس الحس المشترك ، مما يتأثر له المزاج من الملائمة وعدم الملائمة وبالقياسات ، وأما الأرواح بمجردها فلا لذة لها ولا ألم ، وقد يحصل ذلك لبعض العارفين في هذا الطريق ، قال أبو يزيد : ضحكت زمانا وبكيت زمانا ، وأنا اليوم لا أضحك ولا أضحك ولا أبكي ؛ وهو عين ما قلناه ، فإنه وقف مع مجرد روحه من غير نظر إلى طبيعته ، فما شاهد إلا علما محضا ، واعلم أن النعيم لا يصح أصلا في غير مظهر ، فإنه فناء ليس فيه لذة ، فإذا تجلى الحق في المظاهر وقعت اللذات والآلام ، وسرت في العالم ، فلا يوجد النعيم أبدا إلا في مركب ، وكذلك العذاب ، فالخوف كله من التركيب ، والآفات كلها إنما تطرأ على الشخص من كونه مركّبا ، والخروج عن التركيب يعقل ، وليس بواقع في العالم أصلا المركب " 1 " ، وأما النعيم والعذاب البسيط فلا حكم له في الوجود ، فإنه معقول غير موجود ، لهذا قال أبو يزيد إنه لا صفة له ، فإنه أقيم في معقولية بساطته ، فلم ير تركيبا ، فقال : لا صفة لي ؛ فصدق ، ولكنه غير واقع في الوجود الحسي العيني ، فما ثمّ إلا مركب ، فأهل المظاهر هم أهل النعيم والعذاب ، وأهل أحدية الذات لا نعيم عندهم ولا عذاب ، وهم أهل اللّه الذين لا يصلحون إلا للّه لا لغيره ، فإن للجنة أهلا هم أهلها لا يصلحون إلا لها ، لا يصلحون للّه وإن جمعتهم حضرة الزيارة ، ولكن هم فيها بالعرض ، وكل طائفة لها شرب وذوق ، فإذا رأيت عارفا تأتي عليه أسباب الالتذاذ وأسباب التألم ، ولا يلتذ ولا يتألم لا بالمحسوس ولا بالمعقول في اقتناء العلوم الملذة ، فتعلم أن وقته التجرد التام عن طبيعته ، وهذا أقوى التشبه الذي يسعى إليه العلماء باللّه ، وواجده قليل ، والقليل الذي يجده ، قليل الاستصحاب لهذا الوجدان ، وإنما اللّه يكرم به
...................................................................................
( 1 ) يوجد تقديم وتأخير والمعنى : وليس بواقع أصلا في العالم المركب .
" 177 "
من شاء من عباده في خطرات ما ، ليعلمه بالتوحيد الذاتي من حيث هو لنفسه ، لا من حيث المرتبة التي يتعلق بها الممكن .
( ف ح 3 / 85 ، 73 - ح 4 / 59 ، 97 - ح 2 / 73 - ح 3 / 86 )
قول أبي يزيد : لو أن العرش وما حواه . . . في زاوية قلب العارف ، ما أحس به .
قال أبو يزيد : لو أن العرش وما حواه ، مائة ألف ألف مرة ، في زاوية من زوايا قلب العارف ، ما أحس به ؛ قال تعالى " ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن " وما حاز المؤمن هذه السعة ، إلا بكونه على صورة العالم وعلى صورة الحق ، وكل جزء من العالم ما هو على صورة الحق ، فمن هنا وصفه الحق بالسعة ،
قال أبو يزيد في سعة قلب العارف " لو أن العرش " يعني ملك اللّه " وما حواه " من جزئيات العالم وأعيانه " مائة ألف ألف مرة " لا يريد الحصر ، وإنما يريد ما لا يتناهى ولا يبلغه المدى ، فعبر عنه بما دخل في الوجود ويدخل أبدا " في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به " وذلك لأن قلبا وسع القديم ، كيف يحس بالمحدث موجودا ؟ !
وهذا من أبي يزيد توسع على قدر مجلسه لإفهام الحاضرين ، وأما التحقيق في ذلك ، أن يقول : إن العارف لما وسع الحق قلبه وسع قلبه كل شيء ؛ إذ لا يكون شيء إلا عن الحق ، فلا تتكون صورة شيء إلا في قلبه ، يعني في قلب ذلك العبد الذي وسع الحق ، فكان أبو يزيد في هذا القول تحت حكم الاسم الواسع ،
فما فاض عنه شيء ، وذلك أنه تحقق بقوله " ووسعني قلب عبدي " فلما وسع قلبه الحق ، والأمور منه تخرج - التي يقع فيها التفويض ممن وقع - فهو كالبحر وسائر القلوب كالجداول .
( ف ح 4 / 8 )
قول أبي يزيد للحق : أريد أن لا أريد ، لأني أنا المراد وأنت المريد .
سئل أبو يزيد عن الزهد فقال : هو هين ( أو قال : ليس بشيء ) لا قدر له عندي ، ما كنت زاهدا سوى ثلاثة أيام ، اليوم الواحد زهدت في الدنيا ، واليوم الثاني زهدت في
" 178 "
الآخرة ، واليوم الثالث زهدت في كل ما سوى اللّه ، فنوديت : ماذا تريد ؟ فقلت : أريد أن لا أريد ، لأني أنا المراد وأنت المريد ؛
( ف ح 1 / 469 - ح 2 / 19 )
الإرادة عند القوم لوعة يجدها المريد من أهل هذه الطريقة ، تحول بينه وبين ما كان عليه مما يحجبه عن مقصوده ، والإرادة عند أبي يزيد ترك الإرادة ، وذلك قوله : أريد أن لا أريد ؛ فأراد محو الإرادة من نفسه ،
وقال هذا القول في حال قيام الإرادة به ، فإن الإنسان لا يخلو نفسا واحدا عن طلب يقوم به لأمر ما ، وإذا كانت حقيقة الإنسان ظهور الطلب فيه ، فليجعل متعلق طلبه مجهولا غير معين ، إلا من جهة واحدة ، وهو أن يكون متعلق طلبه ما يحدثه اللّه في العالم ، نفسه أو في غيره ،
فما وقعت عليه عينه ، أو تعلق به سمعه ، أو وجده في نفسه ، أو عامله به أحد ، فليكن ذلك عين مطلوبه المجهول ، قد عيّنه له الوقوع ، فيكون قد وفّى حقيقة كونه طالبا ، وتحصل له اللذة بكل واقع منه أو فيه ، أو من غيره أو في غيره ، فإن اقتضى ذلك الواقع التغيير له ، تغير لطلب الحق منه التغير ،
وهو طالب الواقع ، والتغير هو الواقع ، وليس بمقهور فيه ، بل هو ملتذ في تغييره ، كما هو ملتذ في الموت للتغير ، فمن طلب المحال قال : أريد أن لا أريد ؛ وإنما الطلب الصحيح الذي تعطيه حقيقة الإنسان ،
أن يقول : أريد ما تريد ؛ وأما طريقتها في العموم فسهل على أهل اللّه ، وذلك أن الإنسان لا يخلو من حالة يكون عليها ، ويقوم فيها ، عن إرادة منه ، وعن كره بأن يقام فيها من غير إرادة ، ولا بد أن يحكم لتلك الحال حكم شرعي يتعلق بها ، فيقف عند حكم الشرع ، فيريد ما أراده الشرع ، فيتصف بالإرادة لما أراد الشرع خاصة ، فلا يبقى له غرض في مراد معين ،
وكذلك من قال : إن العبد ينبغي أن يكون مع اللّه بغير إرادة ؛ لا يصح ، وإنما يصح لو قال :
إن العبد من يكون متعلق إرادته ما يريد الحق به ؛ إذ لا يخلو عن إرادة ، ولو أن الإنسان يصرف غرضه إلى ما أراده له خالقه لاستراح ، فقيل لأبي يزيد " ما تريد ؟ " قال " أريد أن لا أريد " أي اجعلني مريدا لكل ما تريد ، حتى لا يكون إلا ما يريد الحق ، فما يريد بعباده إلا اليسر ولا يريد بهم العسر ، ويريد لهم الخير وليس إليه الشر ، فإن خروج الإنسان عن أن يكون مريدا محال ،
وأنه أول ما كان يقدح ذلك في الطاعات ، فيفعلها من غير نية مشروعة فلا تكون طاعة ، وإنما طلب أبو يزيد الخروج عن الأغراض النفسية ، التي لا توافق مرضاة
" 179 "
الحق عز وجل ، ثم تمم أبو يزيد وقال : لأني أنا المراد وأنت المريد ؛ يخاطب الحق ، وذلك أنه لما علم أن الإرادة متعلقها العدم ، والمراد لابد أن يكون معدوما لا وجود له ، ورأى الممكن عدما وإن اتصف بالوجود ،
لذلك قال " أنا المراد " أي أنا المعدوم " وأنت المريد " فإن المريد لا يكون إلا موجودا .
( ف ح 2 / 521 - ح 3 / 464 - ح 2 / 521 ) .
قول أبي يزيد : العارف فوق ما يقول ، والعالم تحت ما يقول .
المعرفة عند القوم محجة ، فكل علم لا يحصل إلا عن عمل وتقوى وسلوك فهو معرفة ، لأنه كشف محقق لا تدخله الشبه ، بخلاف العلم الحاصل عن النظر الفكري ، لا يسلم أبدا من دخول الشبه عليه والحيرة فيه ، والقدح في الأمر الموصل إليه ، واعلم أنه لا يصح العلم لأحد إلا لمن عرف الأشياء بذاته ، وكل من عرف شيئا بأمر زائد على ذاته ، فهو مقلد لذلك الزائد فيما أعطاه ، وما في الوجود من علم الأشياء بذاته إلا واحد ، وكل ما سوى ذلك الواحد ، فعلمه بالأشياء وغير الأشياء تقليد ، وإذا ثبت أنه لا يصح - فيما سوى اللّه - العلم بشيء إلا عن تقليد ، فلنقلد اللّه ، ولا سيما في العلم به ، والمعرفة منحصرة في العلم بسبعة أشياء ، وهي الطريق الذي سلكت عليه الخاصة من عباد اللّه : الواحد علم الحقائق وهو علم بالأسماء الإلهية ، الثاني العلم بتجلي الحق في الأشياء ، الثالث العلم بخطاب الحق عباده المكلفين بألسنة الشرائع ، الرابع علم الكمال والنقص في الوجود ، الخامس علم الإنسان نفسه من جهة حقائقه ، السادس علم الخيال وعالمه المتصل والمنفصل ، السابع علم الأدوية والعلل ، فمن عرف هذه السبع المسائل فقد حصل المسمى معرفة ، وسمي عارفا خاصة ، فإن زاد على هذا ، العلم باللّه وما يجب له وما يجوز عليه وما يستحيل ، ويفرق بين علمه بذاته وبين علمه بكونه إلها ، فهذا مقام العلماء باللّه لا مقام العارفين ، فإن المعرفة محجة وطريق ، والعلم حجة ، والعلم نعت إلهي ، والمعرفة نعت كياني نفسي رباني ، غير أن أهل اللّه قد أطلقوا على العلماء باللّه اسم العارفين ، وعلى العلم باللّه من طريق الذوق معرفة ، وحدّوا هذا المقام بتنائجه ولوازمه ، التي تظهر عن هذه الصفة في أهلها ، لذلك اختلف في مقام المعرفة والعارف ، ومقام العلم والعالم ، فطائفة قالت : مقام المعرفة رباني ومقام العلم
" 180 "
إلهي ؛ وبه قال الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ، والمحققون كسهل بن عبد اللّه التستري وأبي يزيد البسطامي وابن العريف وأبي مدين ، وطائفة قالت : مقام المعرفة إلهي ومقام العلم دونه ؛ وإنما أرادوا بالعلم ما أردناه بالمعرفة ، وأرادوا بالمعرفة ما أردناه بالعلم ، فالخلاف فيه لفظي في التسمية لا في المعنى . واعلم أن الذين هم تحت ما يقولون طائفتان : طائفة في غاية العلم باللّه ، مما في وسع البشر أن يعلموه من اللّه ، والطائفة الأخرى في غاية البعد والحجاب عن اللّه ، وهم الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم الذين لا يرون شيئا فوق علم الرسوم ، فهم يشبهون الطبقة العالية في كونهم تحت ما يقولون ، كما أنهم شاركوهم في اسم العلم ، وانفصلوا عنهم بمن ، أعني بالمعلوم ، أي بمن تعلق علمهم .
( ف ح 1 / 252 - ح 2 / 297 ، 316 ، 318 - ح 1 / 650 )
الفرق بين العالم والعارف :
قال من غمرنا بنعماه ، وحبانا برحماهشَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِأخبر سبحانه وتعالى عباده بشرف العلم ، حيث وصف به نفسه ، فينبغي لك أيها الموفق السعيد ، أن تعتقد فيه الشرف التام ، وليس في الصفات أعم منه تعلقا ، لتعلقه بالواجبات والجائزات والمستحيلات ، وغيره من الصفات ليس كذلك . واعلم أن الشرف الذي للعلم شرفان : شرف من حيث ذاته ، وشرف من حيث معلومه ، فالشرف الذي له من حيث ذاته ، كونه يوصلك إلى حقيقة الشيء على ما هو عليه ، ويزيل عنك أضداده ، إذا قام بك الجهل بذلك المعلوم ، والظن والشك والغفلة وما ضاده ، والذي له من حيث معلومه يكسبه ذلك الشرف ، فكما أن بعض المعلومات أشرف من بعض ، كذلك بعض العلوم أشرف من بعض ، فكثير بين من قام به العلم بأوصاف الحق وأفعاله ، وبين من قام به العلم بأن زيدا في الدار وخالدا في السوق ، فكما أنه ليس بين المعلومين مناسبة من الشرف ، كذلك العلمان ، فهذا هو الشرف الطارىء على العلم من المعلوم ، ثم إن اللّه تبارك وتعالى مدح من قامت به صفة العلم وأثنى عليه ، ووصف بها عباده ، كما وصف نفسه في غير ما موضع من الكتاب العزيز كقوله تعالىشَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا
" 181 "
الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ فأخبر تعالى أن العلماء هم الموحدون على الحقيقة ، والتوحيد أشرف مقام ينتهى إليه ، وليس وراءه مقام ، فمن زلت قدمه عن صراط التوحيد رسما أو حالا وقع في الشرك ، فمن زلت قدمه في الرسمي فهو مؤبد الشقاء ، لا يخرج من النار أبدا ، لا بشفاعة ولا بغيرها ، ومن زلت قدمه في الحال ، فهو صاحب غفلة يمحوها الذكر وما شاكله ، فإن الأصل باق ، يرجى أن يجبر فرعه بمنّ اللّه تعالى وعنايته ، وليس الفرع كذلك ، وكقوله جل تعالى في صاحب موسى عليه السلاموَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماًوهو علم الإلهام ، فالعالم أيضا صاحب إلهام وأسرار ، وكقوله تعالىإِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُفالعالم أيضا صاحب خشية ، وكقوله تعالىوَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَفالعالم أيضا صاحب الفهم عن اللّه بحكم آيات اللّه وتفاصيلها ، وكقوله تعالىوَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِفالعالم هو الراسخ الثابت ، الذي لا تزيله الشبه ولا تزلزله الشكوك ، لتحققه بما شاهد من الحقائق بالعلم ، كقوله تعالىأَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَفالعلماء هم الذين علموا الكائنات قبل وجودها ، وأخبروا بها قبل حصول أعيانها ، وهي الصفة الشريفة التي أخبر اللّه تعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالزيادة منها ، فقال تعالىوَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماًولم يقل له ذلك في غيره من الصفات ، فما أشرفها من صفة حبانا اللّه بالحظ الوافر منها ، وكيف لا يفرح بهذه الصفة ويهجر من أجلها الكونان ؟ !
ولها شرفان كبيران عظيمان :
الشرف الواحد أن اللّه تعالى وصف بها نفسه ،
والشرف الثاني أنه مدح بها أهل خاصته من أنبيائه وملائكته ،
ثم منّ علينا سبحانه - ولم يزل مانا - بأن جعلنا ورثة أنبيائه فيها ، فقال عليه الصلاة والسلام : العلماء ورثة الأنبياء ؛ فلأي شيء يا قوم ننتقل من اسم سمانا اللّه تعالى به ونبيه ، إلى غيره ونرجحه عليه ، ونقول فيه عارف وغير ذلك ، واللّه ما ذاك إلا من المخالفة التي في طبع النفس ، حتى لا توافق اللّه تعالى فيما سماها به ، ورضيت أن تقول فيه عارف ولا تقول عالم ، نعوذ باللّه من حرمان المخالفة ، ولو لم يكن في المعرفة من النقص عن درجة العلم في اللسان العربي ، إلا أنها تعطيك العلم بشيء واحد ، فلا يحصل لك سوى فائدة واحدة ، لأنها تتعدى إلى مفعول واحد ، والعلم يعطيك فائدتين لتعديه إلى مفعولين ، ثم انظره في قوله تعالىلا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْلما ناب هنا العلم مناب المعرفة وجعل بدلا منها ، تعدى إلى مفعول واحد ،
" 182 "
فلحقه الحرمان بالنيابة ، وإن كان العلم والمعرفة في الحد والحقيقة على السواء ، من كشف الشيء على ما هو عليه ،
فما لنا لا نبقى على ما سمانا به الحق سبحانه ونخالف ؟
بل واللّه أقول : إن هذا القائل بإطلاق المعرفة في الموضع الذي يجب فيه إطلاق العلم بلزوم الأدب الإلهي ، أنه لو تحقق في الورث النبوي ، ما سمى ذلك المقام إلا علما ، ولا سمى صاحبه إلا عالما ،
كما فعل سهل بن عبد اللّه حين قال : لا يكون العبد باللّه عارفا إلا إن كان به عالما ، ولا يكون به عالما إلا إن كان رحمة للخلق ؛ ثم قال بعد هذا : والسماء رحمة للأرض ، وبطن الأرض رحمة لظهرها ، والآخرة رحمة للدنيا ، والعلماء رحمة للجهال ، والكبار رحمة للصغار ، والنبي عليه الصلاة والسلام رحمة للخلق ، واللّه عز وجل رحيم بخلقه ؛ فتأمل وفقك اللّه أين جعل سهل العالم ؟ وفي أي مقام أنزله ؟
وبمن شبهه ؟
وسهل بن عبد اللّه حجة اللّه على الصوفية المحققين ، وإنما قال سهل في كلامه الذي ذكرنا : لا يكون العبد باللّه عارفا ؛ حتى يكون الجاري على ألسنة القوم ، فأعطاه ما تواطؤوا عليه أن يذكر ما ذكروه ، حتى يفهم عنه ، وأعطاه الأدب الإلهي والمقام ، أن لا يسميه إلا عالما ،
يقول سهل رضي اللّه عنه : للعالم ثلاثة علوم : علم ظاهر يبذل لأهل الظاهر ، وعلم باطن يمنع إظهاره إلا لأهله ، وعلم هو سر بين العالم وبين اللّه ، هو حقيقة إيمانه لا يظهره لأهل الظاهر ولا لأهل الباطن ؛ فانظر كيف أطلق سهل عليه اسم العالم وعلى ذلك العلم ، ولم يقل العارف ولا المعرفة ، للأدب الذي ذكرنا آنفا ، فلما نقص غيره عن ذلك المقام الشريف ، ولم تتعلق همته إلا بشيء واحد ، إما بربه وإما بنفسه ، أعطاه المقام بذاته أن سمى نفسه عارفا ، فإن الكمال على الحقيقة إنما هو فيمن شاهد ربه ونفسه .
ومما يؤيد ما ذكرناه في حق العارف أنه دون العالم الصدّيق ، لو شرح اللّه صدر من فضّله على العالم وتأدب مع الحق - إذ هم أهل الأدب معه بشرط الحضور - أن اللّه تعالى ما سمى عارفا ، إلا من كان حظه من الأحوال البكاء ، ومن المقامات الإيمان بالسماع لا بالأعيان ، ومن الأعمال الرغبة إليه سبحانه ، والطمع في اللحوق بالصالحين ، وأن يكتب مع الشاهدين ، فقال تعالىوَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّولم يقل علموا فوصفهم بالمعرفةيَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ ،
" 183 "
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ ، وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ، فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فأخبر تعالى أن سماعهم من الكتاب الكبير لا من أنفسهم ، ومعنا إشارة يفهمها أصحابنا ، ثم قال فَأَثابَهُمُ ولم نشك أن الصديقية درجة فوق هاتين الصفتين ، اللتين طلب العارف أن يلحق بهما ، فهو دونهما وقد سمي عارفا ،
وقال تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ
فانظر إلى هذه الدرجات ، ثم لتعلم أن الشهداء الذين رغب العارف أن يلحق بهم ، هم العاملون على الأجرة وتحصيل الثواب ، وأن اللّه عز وجل قد برأ الصديقين من الأعواض وطلب الثواب ، إذ لم يقم بنفوسهم ذلك ، لعلمهم أن أفعالهم ليست لهم أن يطلبوا عليها عوضا ، بل هم عبيد على الحقيقة والأجراء مجازا ، قال عز وجلوَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ولم يذكر لهم عوضا على عملهم ، إذ لم يقم لهم به خاطر أصلا لتبريهم من الدعوى ، ثم قالوَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ
وهم الرجال الذين رغب العارف أن يلحق بهم ويرسم في ديوانهم ، وقد جعلهم تعالى في حضرة الربوبية ، ولم يشترط في إيمان الصديقين السماع كما فعل بالعارفين ، حكمة منه سبحانه ، أن نتعلم الأدب وكيف ترتب الوجود ،
حتى ننزل كل موجود منزلته ، وأين تقتضيه مرتبته ، ونقتصر على الاسم الذي سماه به الحق وعرفناه ، فعلم الأسماء عظيم وفيه يظهر أدب أهل طريق اللّه مع اللّه ، وبه صح الشرف لأبينا نبي اللّه آدم صلى اللّه عليه وسلم ، فصاحب الأدب المراعي حرمة الحضرة الإلهية ، يقف عندها ويمشي معها ، فإذا رمزت له شيئا لم تعرّفه باسمه ، حينئذ له أن يصطلح مع نفسه بما يقارب معناه إن كان حكيما . ثم انظر بعين البصيرة أدب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أين جعل العارف ، حيث جعله الحق ، فقال : من عرف نفسه عرف ربه ؛ ولم يقل : علم ، فلم ينزله عن حضرة الربوبية ، ولا عن حضرة نفسه التي هي صاحبة الجنة ، كما قالوَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ
فالعارف صاحب الشهوة المحمودة ، تربيه بين يدي العالم الصديق ، فتأدب يا غافل عن ملاحظة الحقائق .
والعذر أو الاعتذار عن أصحابنا ، في تسميتهم صاحب المقام - الذي ذكرناه آنفا - عارفا ، ولم يسموه عالما كما قررنا ، وهو كان الأولى والأسد من كل وجه ، ولا عذر لمن تحقق
" 184 "
بالمقام المذكور ، في حيدته عن اسم العالم إلى العارف ، فإن الحكم يتوجه عليه في دعواه بلسانقُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْويمشي حاله على الأدب الإلهي كما يعطيه المقام ، ولكن غلبت عليهم رضي اللّه عنهم الغيرة على طريق اللّه ، لما رأوا أنه قد شاع في العالم أن يسمى عالما من كان عنده علم ما من العلوم ، وإن كان قد أكب على الشهوات ، وتورط بالشبهات بل في المحرمات ، وآثر القليل على الكثيرقُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌوهو عالم بهذا ، فعمر دنياه وخرب آخرته ، فهذا شخص تناقض أفعاله أقواله ، وهو من الثلاثة الذين تسعر بهم النار قبل كل أحد ، كما صح في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة ، ثم إنه إن تاب ورجع ، فإن النفس مالكة له وحاكمة عليه ، فغاية مجاهدته وغايته ، أن يقنع بحظ ما دني من الجنة - على أنه ليس ثمة من دني - ومع هذا كله يطلق عليه اسم العالم ، فرأوا رضي اللّه عنهم أن المقام العالي حصل لهم ولساداتهم ، كان أولى باسم العلم وصاحبه بالعالم كما سماه الحق ، فأدركتهم الغيرة أن يشاركهم البطال في اسم واحد ، فلا يتميز المقام ، ولا يقدرون على إزالته من البطال ، لإشاعته في الناس ، فلا يتمكن لهم ذلك ، فأداهم الأمر إلى تسمية المقام معرفة وصاحبه عارفا ، إذ العلم والمعرفة في الحد والحقيقة على السواء ، ففرقوا بين المقامين بهذا القدر ، فاجتمعا والحمد للّه في المعنى واختلفا في اللفظ ، إذ هذا الطريق لا يتصور فيه خلاف في المعنى أصلا ، فإذا وجد فإنما هو راجع إلى الألفاظ خاصة ، ولكنه في حقهم بالإضافة لمن آثر تسمية اللّه على اصطلاحهم ، وقت غفلة مر عليهم لغلبة الغيرة عليهم ، فيرجى لهم بقصدهم تنزيه المقام وغيرتهم ، أن يحصل لهم ما حصل لأهل الحضور ، والحمد للّه المنعم المتفضل .
( كتاب مواقع النجوم ) .
قول أبي يزيد : يا عجبا كيف يحشر إليه من هو جليسه ؟ !
سمع أبو يزيد قارئا يقرأ هذه الآيةيَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداًفبكى حتى ضرب الدمع المنبر ، بل روي أنه طار الدم من عينيه حتى ضرب المنبر ، وصاح وقال : يا عجبا كيف يحشر إليه من هو جليسه ؟ !
الوجه الأول - قال أبو يزيد ذلك حين جهل الأسماء الإلهية وما تستحقه من الحقائق ،
" 185 "
فإنه في تلك الحالة كان جليسا مع الأسماء ، من حيث ما هي دالة على الذات ، كل واحد منها ، لم يكن مع الاسم من حيث ما تطلبه حقيقته ، من عين دلالته على الذات ، فأنكر ما لم يعطه مشهده - مع كونه كلام الحق - وقد وقع منه الإنكار ، بل ما وقع منه إلا التعجب خاصة ، فهو يشبه الإنكار وليس بإنكار ، حتى إنه لو كان هذا القول من غير اللّه ، لأمر القائل بالسكوت وزجره عن ذلك ، وإنما الرجل أظهر التعجب من قول اللّه في حق المتقين ، الذين هم جلساء اللّه ، كيف يحشرون إليه ؟ !
فكأنه إبراهيمي المشهد في طلب الكيفية في إحياء الموتى ، فأراد أبو يزيد ما أراده إبراهيم عليه السلام في كيفية إحياء الموتى ، لاختلاف الوجوه في ذلك لا إنكار إحياء الموتى ، فدل هذا الكلام من أبي يزيد على حاله في ذلك الوقت ، فلو علم أبو يزيد أن المتقي ما هو جليس الرحمن ، إنما هو جليس الجبار المريد العظيم المتكبر ، فيحشر المتقي إلى الرحمن ليكون جليسه ، فيزول عنه الاتقاء ، فإن الرحمن لا يتّقى ، بل هو محل موضع الطمع والإدلال والأنس ، فليس العجب إلا من قول أبي يزيد ، لأن المتقي جليس الجبار فيتقي سطوته ، والاسم الرحمن ما له سطوة من كونه الرحمن ، إنما الرحمن يعطي اللين والعطف والعفو والمغفرة ، فلذلك يحشر إليه من الاسم الجبار الذي يعطي السطوة الإلهية ، فإنه جليس المتقين في الدنيا مع كونهم متقين ، فالمتقي ذاكر اللّه ذكر حذر ،
فلما حشر إلى الرحمن - وهو مقام الأمان مما كان فيه من الحذر - فرح بذلك واستبشر ، فكان دمع أبي يزيد دمع فرح ، كيف حشر منه إليه ، حين حشر غيره إلى الحجاب ؟
( ف ح 3 / 212 ، 213 - ح 1 / 511 )
الأولياء إذا طلبوا الحق بالحق ، فإنما هو انتقال من اسم إلى اسم باسم ، ومن حال إلى حال بحاليَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداًحشروا من الاسم الذي يتقونه ، إلى الاسم الذي يلطف بهم ويرحمهم ، فالمتقي جليس القاهر ، والآمن جليس الرحمن .
( كتاب التراجم / ترجمة الاستواء )
الوجه الثاني : اعلم أن الأكابر من أهل اللّه رضي اللّه عنهم صادقون ، لا يتعدون ذوقهم في كل حال ، بخلاف العامة من أهل اللّه ، فإنهم يتكلمون بأحوال غيرهم ، والخاصة لا سبيل لهم إلى ذلك ، فصدق أبو يزيد لأنه ما كان مشهوده في الحال إلا الرحمن ، والولي لا
" 186 "
يتعدى ذوقه ، ولا ينطق بغير حاله ، ويرد كل شيء يسمع إلى الحال الذي يغلب عليه ، وكان حال أبي يزيد في ذلك الوقت هو الذي نطق به .
( ف ح 4 / 109 )
جاع أبو يزيد فبكى ، فقيل له في ذلك فقال : إنما جوعني لأبكي .
ما آلمك اللّه وحكم عليك بخلاف غرضك - وغرضك من جعل حكمه فيك - إلا لتسأله في رفع ذلك عنك ، بما جعل فيك من العرض الذي بسببه تألمت ، فمن لم يشك إلى اللّه - مع الإحساس بالبلاء وعدم موافقة الغرض - فقد قاوم القهر الإلهي ، فالأدب كل الأدب في الشكوى إلى اللّه في رفعه ، لا إلى غيره ، ويبقى عليه اسم الصبر ، كما قال تعالى في رسوله أيوب عليه السلامإِنَّا وَجَدْناهُ صابِراًفالعارف وإن وجد القوة الصبرية يفر إلى موطن الضعف والعبودية وحسن الأدب ، فإن القوة للّه جميعا ، فيسأل ربه رفع البلاء عنه ، وهذا لا يناقض الرضاء بالقضاء ، فإن البلاء إنما هو عين المقضي لا القضاء ، فيرضى بالقضاء ويسأل اللّه في رفع المقضي عنه ، فيكون راضيا صابرا ، فهو يبكي له وعليه ، فإن الأكابر لا يحبسون نفوسهم عن الشكوى إلى اللّه .
( ف ح 4 / 143 - ح 2 / 29 ، 208 )
قيل لأبي يزيد رضي اللّه عنه : أيعصي العارف ؟
فقال : وكان أمر اللّه قدرا مقدورا .
أخفى اللّه سبحانه تقريبه وعنايته فيمن أسعده اللّه ، بما شغله اللّه به من البكاء على ذنبه ، ومشاهدته زلته ، ونظره إليها في كتابه ، وذهل عن أن ذلك الندم يعطيه الترقي عند اللّه ، فإنه ما بشره بقبول التوبة ، فهو متحقق وقوع الزلة ، حاكم عليه الانكسار والحياء مما وقع فيه ، وإن لم يؤاخذه اللّه بذلك الذنب ، فإن الحياء يستلزمه ، وينبغي أن تكون زلات الأكابر - غالبا - نزولهم إلى المباحات لا غير ، وفي حكم النادر تقع منهم الكبائر ، ولذلك لما كان العارف من أهل الكشف ، جوّز أبو يزيد ، وكان قوله غاية في الأدب ، حيث لم يقل :
نعم ولا لا ، وهذا من كمال حاله وعلمه وأدبه ، وهكذا يكون أدب العارفين مع الحق في أجوبتهم ، حيث قال : إن كان اللّه قدر عليهم في سابق علمه ذلك ، فلا بد منه ، وهي معصية ، فلا بد من الحجاب ، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إذا أراد اللّه إنفاذ قضائه وقدره ،
" 187 "
سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قدره ، ردها عليهم ليعتبروا ؛ وكذلك حال العارف ، إذا أراد اللّه وقوع المخالفة منه ، ومعرفته تمنعه من ذلك ، فيزين اللّه له ذلك العمل بتأويل يقع له ، فيه وجه إلى الحق ، لا يقصد العارف به انتهاك الحرمة ، كما فعل آدم ، كالمجتهد يخطئ ، فإذا وقع منه المقدور ، أظهر اللّه له فساد ذلك التأويل الذي أداه إلى ذلك الفعل ، كما فعل بآدم ، فإنه عصى بالتأويل ، فإذا تحقق بعد الوقوع أنه أخطأ ، علم أنه عصى ، فعند ذلك يحكم عليه لسان الظاهر بأنه عاص ، وهو عاص عند نفسه ، وأما في حال وقوع الفعل منه فلا ، لأجل شبهة التأويل ، كالمجتهد في زمان فتياه بأمر ما ، اعتقادا منه أن ذلك عين الحكم المشروع في المسألة ، وفي ثاني حال يظهر له بالدليل أنه أخطأ ، فيكون لسان الظاهر عليه أنه مخطىء في زمان ظهور الدليل لا قبل ذلك ، لذلك قال أبو يزيد عندما قيل له : أيعصي العارف ؟ قال : وكان أمر اللّه قدرا مقدورا ؛ فتقع المعصية من العارفين أهل العناية بحكم التقدير . لنفوذ القضاء السابق فيهم ، لا أنهم يقصدون انتهاك حرمات اللّه ، فلا تصدر منهم معصية أصلا انتهاكا لحرمة اللّه كمعاصي الغير ، فإن الإيمان المكتوب في القلوب يمنع من ذلك .
( ف ح 1 / 233 - ح 2 / 491 - ح 1 / 516 - ح 2 / 491 ، 23 - ح 1 / 561 ) .
فمن كشف عنه الغطاء ، حتى شاهد الأمر على ما هو عليه ، هل هو مخاطب بالآداب السمعية ؟
أو يقتضي ذلك المقام الذهول وذهاب عقل التكليف فيبقى بلا رسم مع المهيمين من الملائكة . ؟ ؟
فتحقيق ذلك : أن المعصية لا تقع أبدا إلا عن غفلة أو تأويل ، لا غير ذلك في حق المؤمن ، وإذا وقع عين ذلك العمل من صاحب الشهود ، فلا يسمى معصية عند اللّه ، وإن انطلق عليه لسان الذنب في العموم ، فللغشاوة التي على أبصار المحجوبين ، فيعذرهم اللّه فيما أنكروه على من ظهر منه هذا الفعل ، وهو في نفس الأمر ليس بعاص ، فإن رجال اللّه في الفناء ، تفنى عن المخالفات فلا تخطر لهم ببال ، عصمة وحفظا إلهيا ،
وهم على قسمين :
القسم الواحد رجال لم يقدّر عليهم المعاصي ، فلا يتصرفون إلا في مباح ، وإن ظهرت منهم المخالفات المسماة بالمعاصي شرعا في الأمة ، إلا أن اللّه وفق هؤلاء فكانوا ممن أذنبوا فعلموا
القسم الواحد رجال لم يقدّر عليهم المعاصي ، فلا يتصرفون إلا في مباح ، وإن ظهرت منهم المخالفات المسماة بالمعاصي شرعا في الأمة ، إلا أن اللّه وفق هؤلاء فكانوا ممن أذنبوا فعلموا
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
حدثني قلبي عن ربي - ليس بي يتمسحون - تقرب إلي بالذلة والافتقار - لا صباح لى ولا مساء .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر محيي الدين محمد ابن العربي لجامعها أ. محمود محمود الغراب
أن لهم ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، فقيل لهم على سماع منهم لهذا القول :
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ؛ وكأهل بدر ، ففنيت عنهم أحكام المخالفات فما خالفوا ، فإنهم ما تصرفوا إلا فيما أبيح لهم ،
فإن الغيرة الإلهية تمنع أن ينتهك المقربون عنده حرمة الخطاب الإلهي بالتحجير ، وهو غير مؤاخذ لهم ، لما سبقت لهم به العناية في الأزل ،
فأباح لهم ما هو محجور على الغير ، وسائر من ليس له هذا المقام لا علم له بذلك ، فيحكم عليه بأنه ارتكب المعاصي ،
وهو ليس بعاص بنص كلام اللّه المبلغ على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،
فإن كان العارف ممن قيل له على لسان الشارع : افعل ما شئت فقد غفرت لك ؛ فما عصى لا ظاهرا ولا باطنا عند اللّه ، وإن كان لسان الظاهر عليه بالمعصية ، لأنه لم يدرك نسخ ذلك بالإباحة من الشارع ، فلسان الظاهر ، كمجتهد مخطىء يرى إصابة غيره من المجتهدين خطأ ، اعتمادا منه على دليله ، فمن كان هذا مقامه فما فعل فعلا يوجب له الحياء ، مع لسان الظاهر عليه بالمعصية ،
فالصورة واحدة والحكم مختلف ، والقسم الآخر رجال أطلعوا على سر القدر وتحكمه في الخلائق ، وعاينوا ما قدر عليهم من جريان الأفعال الصادرة منهم ، من حيث ما هي أفعال ، لا من حيث ما هي محكوم عليها بكذا أو كذا ،
وذلك في حضرة النور الخالص ، الذي منه يقول أهل الكلام أفعال اللّه كلها حسنة ، ولا فاعل إلا اللّه ، فلا فعل إلا للّه ،
وتحت هذه الحضرة حضرتان : حضرة السدفة وحضرة الظلمة المحضة ،
وفي حضرة السدفة ظهر التكليف ، وتقسمت الكلمة إلى كلمات ، وتميز الخير من الشر ،
وحضرة الظلمة هي حضرة الشر الذي لا خير معه ، وهو الشرك والفعل الموجب للخلود في النار وعدم الخروج منها ،
فلما عاين هؤلاء الرجال من هذا القسم ما عاينوه من حضرة النور ، بادروا إلى فعل جميع ما علموا أنه يصدر منهم ، وفنوا عن الأحكام الموجبة للبعد والقرب ، ففعلوا الطاعات ووقعوا في المخالفات ، كل ذلك من غير نية لقرب ولا انتهاك حرمة ،
فهذا فناء غريب أطلعني ( أي الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ) اللّه عليه بمدينة فاس ، ولم أر له ذائقا ، مع علمي بأن له رجالا ، ولكن لم ألقهم ولا رأيت أحدا منهم ، غير أني رأيت حضرة النور وحكم الأمر فيها ،
غير أنه لم يكن لتلك المشاهدة فينا حكم ، بل أقامني اللّه في حضرة السدفة ، وحفظني وعصمني ، فلي حكم حضرة النور وأقامني في السدفة ، وهو عند القوم
" 189 "
أتم من الإقامة في حضرة النور ، ومسألة الخضر مع موسى في قتل النفس ، أين حكم موسى عليه السلام فيه من حكم الخضر رضي اللّه عنه ؟ وكل واحد له وجه في الحق ومستند ، وهذا حال أهل الشهود ، يشهدون المقدور قبل وقوعه في الوجود ، فيأتونه على بصيرة ، فهم على بينة من ربهم في ذلك ، وهو مقام لا يناله إلا من كان اللّه سمعه وبصره .
( ف ح 3 / 487 - ح 4 / 125 - ح 2 / 512 ، 491 ، 512 - ح 4 / 125 )
فإن قلت : هل يقام على صاحب الشهود الحد ؟
فاعلم أن كل من وصل في هذه الدار الدنيا ، إلى الحد الذي أوجب عليه التكليف ، ببلوغ الحلم وقيام صفة العقل ،
إذا كشف عنه الغطاء في هذه الدار ، لم يرتفع عنه التحجير ولا خطاب الشرع ، لحكم الدار لا لحكم الحال ، لأنه كان يعطي القياس ارتفاع التحجير عمن هو بهذه الصفة ، ولكن لابد للدار من حكم ،
فإذا جاء وعد الآخرة وانتقلنا إليها ، خرجنا عن حكم الدار ، فارتفع عنا حكم التكليف في دار الرضوان وأختها ، كذلك من أطلعه اللّه هنا في هذه الدار على سعادته ، وأطلع الآخر على شقاوته ، لم تسقط هذه المطالعة عنهما التحجير ولا التكليف ،
لأن أصل النواميس في هذه الدار إنما هي لمصلحة الدنيا والآخرة ،
فمن المحال رفع التحجير ما دامت الدنيا ودام من فيها ، فلو لا هذا ، لكان من كشف عنه الغطاء ارتفع عنه التحجير ،
لأنه لا يرى فاعلا إلا اللّه ، والشيء لا يحجر على نفسه ، والولي مهما خرج عن ميزان الشرع الموضوع - مع عقل التكليف عنده - سلّم له حاله ، للاحتمال الذي في نفس الرحمن في حقه ، وهو موجود أيضا في الميزان المشروع ، فإن ظهر بأمر يوجب حدا في ظاهر الشرع ، ثابت عند الحاكم ، أقيمت عليه الحدود ولا بد ، ولا يعصمه ذلك الاحتمال الذي في نفس الأمر ، أن يكون من العبيد الذين أبيح لهم فعل ما حرم على غيرهم شرعا ، فأسقط اللّه عنهم المؤاخذة ، ولكن في الدار الآخرة ، فإنه قال في أهل بدر ما قد ثبت من إباحة الأفعال ، وكذلك في الخبر الوارد : افعل ما شئت فقد غفرت لك ؛ ولم يقل أسقطت عنك الحد في الدنيا ، والذي يقيم عليه الحد مأجور ، وهو في نفسه غير مأثوم ، فعليك أن تقيم الحد إذا كنت من أولي الأمر فيمن عين لك أن تقيمه ، حتى لو تركته كنت عاصيا مخالفا أمر اللّه .
( ف ح 3 / 480 - ح 2 / 370 - ح 4 / 235 ، 47 )
" 190 "
قرىء على أبي يزيد إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قال : بطشي أشد .
هذا من علم القهر الإلهي على أيدي الأكوان ، فقول أبي يزيد " بطشي أشد "
في هذا المقام ، وقد يكون حال أبي يزيد حال من ينطق باللّه ، فيقول اللّه على لسان عبده عن نفسه :
إن بطشه شديد ، أشد من بطشه بغير لسان عبده ، ثم بطشه على لسان عبده الطبيعي ، أشد من بطشه على لسان عبده الإلهي بما لا يتقارب ، وقال بعض من شرح هذه الكلمة " بطشي أشد " يعني إذا بطش العبد به لا بنفسه ، وإنما قول أبي يزيد عندي فشرحه على خلاف هذا ، فإن بطش العبد بطش معرى عن الرحمة ، ما عنده من الرحمة شيء في حال بطشه ، وبطش الحق بكل وجه ، فيه رحمة بالمبطوش به ، من وجه يقصده الباطش الحق ، فهو الرحيم في بطشه " 1 " ،
فبطش العبد أشد لأنه لا تقوم به رحمة بالمبطوش به ، فإن رحمة اللّه مطلقة ، بخلاف بطشه وانتقامه مع شدته ، ولكن لا يبطش بطشا لا يكون فيه رحمة ، لأن قصارى الرحمة فيه إيجاده البطش بعبده ، فوجود البطش رحمة رحم اللّه بها المبطوش به ، إذ أخرجه من العدم إلى الوجود ، فجاء أبو يزيد في هذا المقام ، لما سمع القارئ يقرأإِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌقال أبو يزيد : بطشي أشد ؛ لأن بطش الإنسان إذا بطش لا يكون في بطشه شيء من الرحمة ، لأنه لا يتمكن له أن يبطش بأحد وعنده رحمة به جملة واحدة ، فما يكون ذلك البطش إلا بحسب ما أعطاه محل الباطش ، وإن كان ذلك البطش خلقا للّه ، ولكن ما خلقه إلا في هذا المحل ، فظهر بصورة المحل ، والمحل لا يطلب الانتقام من أحد وفي قلبه رحمة ، ثم إن اللّه إذا بطش بعبده ففي بطشه نوع رحمة ، لأنه عبده بلا شك ، كما أن المخلوق إذا أراد أن يبطش بعبده ، لابد أن يشوب بطشه نوع رحمة ، للمناسبة التي بينه وبين عبده ومملوكه ، لأنه المبقي عليه اسم المالك والسيادة ، فلا يمكن أن يستقصي في بطشه ما يذهب عينه ، فيكون عند ذلك قد بطش بنفسه ، والمخلوق ليس كذلك في الأجنبي ، الذي ليس بينه وبين الباطش نسبة عبودية ، ولا اكتسب من وجوده صفة سيادة ، فإذا بطش من هذه
..........................................................................................
( 1 )فبطشه الأقوى على عزه ... ينزل في الشدة عن بطشي
لمزجه برحمة لم تضق ... فهي لدى بطشي كالخدش
( ديوان / 92 ) .
" 191 "
صفته ، بطش ببطش لا تشوبه رحمة ، فهو سبحانه خير الراحمين ، وما جاء قط عنه تعالى أنه خير الآخذين ، ولا الباطشين ولا المنتقمين ولا المعذبين ، كما جاء في خير الفاصلين وخير الغافرين ، وخير الراحمين وخير الشاكرين وأمثال هذا ، مع كونه يبطش وينتقم ويأخذ ويهلك ويعذب ، لا بطريق الأفضلية ، فليس للّه وعيد وبطش مطلق شديد ، ليس فيه شيء من الرحمة واللطف ،
وبطش المخلوق إذا بطش لا يكون في بطشه شيء من الرحمة ، بل ربما ما يقدر أن يبلغ في المبطوش به ما في نفسه من الانتقام منه ، لسرعة موت ذلك الشخص ، ولما كانت الرحمة منزوعة عن بطشه ،
قال أبو يزيد : بطشي أشد ؛ وسبب ذلك ضيق المخلوق ، فإنه ما له الاتساع الإلهي ، وبطش اللّه وإن كان شديدا ، ففي بطشه رحمة بالمبطوش به ،
وبطش المخلوق ليستريح من الضيق والحرج ، الذي يجده في نفسه بما يوقعه بهذا المبطوش به ، فيطلب في بطشه الرحمة بنفسه في الوقت ، وقد لا ينالها كلها ، بخلاف الحق تعالى ، فإن بطشه لسبق العلم ، يأخذ هذا المبطوش به للسبب الموجب له لا غير ، والمنتقم لغيره ما هو كالمنتقم لنفسه ، فقول أبي يزيد : بطشي أشد ؛ لخلو بطش العبد من الرحمة الكونية ، وبطش اللّه ليس كذلك ، فإن الرحمة الإلهية تصحبه وهو يعلمها ،
وكذا هي في بطش العبد ، إلا أن العبد لا يشهدها ولا يجد لها أثرا في نفسه ، وإن كان يرحم نفسه بذلك البطش ولكن لا بعلم ، واللّه عليم بكل شيء ، فهو عليم بأن رحمته وسعت كل شيء ، فوسعت بطشه وبطش الكون ، ولكن ما كل باطش يعلم ذلك ، ولما كان للعبد بطش من حيث عينه ، وله بطش بربه ، وليس للرب في الحقيقة بطش بعبده ،
فأضاف أبو يزيد بطش ربه إلى بطشه فقال :
بطشي أشد ؛ لأن فيه بطش ربي ، وما في بطش ربي بعباده بطشي .
( ف ح 3 / 146 - ح 4 / 87 - ح 1 / 695 - ح 3 / 553 - ح 2 / 412 - ح 3 / 219 )
والإنسان الكامل وإن بطش وكان ذا بطش شديد ، فالإنسان الحيواني أشد بطشا منه ، ولذلك قال أبو يزيد : بطشي أشد ؛ منه من حيث نفسه الحيوانية ، لأنه يبطش بما لم يخلق ، فلا رحمة له فيه ، والحق يبطش بمن خلق ،
فالرحمة مندرجة في بطشه حيث كان ، فإن الحدود التي نصبها في الدنيا - وحيث كانت - إنما هي للتطهير ، وكذلك الآلام والأمراض وكل ما يؤدي إلى ذلك ، كل ذلك للتطهير ورفع الدرجات وتكفير السيئات ، فإن
" 192 "
الرحمة في الغضب لا تكون إلا في الحدود المشروعة والتعزير ، وما عدا ذلك فغضب ليس فيه من الرحمة شيء ، فإن الإنسان إذا غضب لنفسه ، فلا يتضمن ذلك الغضب رحمة بوجه ، وإذا غضب للّه ، فغضبه غضب اللّه ، وغضب اللّه لا يخلص عن رحمة إلهية تشوبه .
( ف ح 3 / 281 )
وعلى أي حال فمن جهة التحقيق ، فقول أبي يزيد : بطشي أشد ؛ قول نازل ، فإن العبد إذا كان على مقامه الذي هو عينه مسلوب الأوصاف ، ولم يظهر منه تلبس بصفة محمودة ولا مذمومة ، فهو على أصله ، وأصله الصغار .
( ف ح 3 / 333 )
قال أبو يزيد البسطامي رحمه اللّه :
أريدك لا أريدك للثواب ... ولكني أريدك للعقاب
وكل مآربي قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
وقال العارف : ليس العجب من ورد في بستان ، وإنما العجب من ورد في قعر النيران .
( ف ح 2 / 657 )
المراد في اصطلاح القوم ، هو المجذوب عن إرادته مع تهيؤ الأمور له ، فهو يجاوز الرسوم والمقامات من غير مشقة ، بل بالتذاذ وحلاوة وطيب ، تهون عليه الصعاب وشدائد الأمور ،
وينقسم المرادون إلى قسمين :
القسم الواحد أن يركب الأمور الصعبة ، وتحل به البلايا المحسوسة والنفسية ، ويحس بها ويكره ذلك الطبع منه ، غير أنه يرى ويشاهد ما له في ذلك في باطن الأمر عند اللّه من الخير - مثل العافية في شرب الدواء الكريه - فيغلب عليه مشاهدة ذلك النعيم الذي في طي هذا البلاء ، فيلتذ بما يطرأ عليه من مخالفة الغرض - وهو العذاب النفسي ومن الآلام المحسوسة - لأجل هذه المشاهدة ، كعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، فإنه من أصحاب هذا المقام ،
وأما القسم الآخر فلا يحس بالشدائد المعتادة ، بل يجعل اللّه فيه من القوة ما يحمل بها تلك الشدائد ، التي يضعف عن حملها غيرها " 1 " من القوى ،
..........................................................................................
( 1 ) هكذا في الأصل ولعلها " غيره " .
" 193 "
كالرجل الكبير ذي القوة ، فيكلف ما يشق على الصغير أن يحمله ، فما عنده خبر من ذلك ، بل يحمله من غير مشقة ، فإنه تحت قوته وقدرته ، ويحمله الصغير بمشقة وجهد ، فهذا ملتذ بحمله ، فارح بقوته يفتخر بها ، لا يجد ألما ولا يحس به ،
كما قال أبو يزيد في بعض مناجاته :
أريدك لا أريدك للثواب ... ولكني أريدك للعقاب
وكل مآربي قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
( ف ح 2 / 524 - ح 1 / 511 )
فطلب اللذة بما جرت العادة به أن يثمر عذابا ، خرقا للعادة ، فما طلب العذاب ،
يقول أهل اللّه : ليس العجب من ورد في بستان ، وإنما العجب من ورد في قعر النيران ؛ يقول صاحب هذا الكلام ، ليس العجب ممن يلتذ بما جرت العادة أن يلتذ به الطبع ، وإنما العجب أن يلتذ بما جرت العادة أن يتألم به الطبع ، وقد أنشد في ذلك صاحب محاسن المجالس :
فهل سمعتم بصب ... سليم طرف سقيم
منعم بعذاب ... معذب بنعيم
( ف ح 2 / 673 )
إبراهيم الخليل عليه السلام في وسط النار يتنعم ويلتذ ، ولو لم يكن عليه السلام إلا في حمايتها إياه من الوصول إليه " 1 " ،
فالأعداء يرونها في أعينهم نارا تأجج ، وهو يجدها بأمر اللّه إياها بردا وسلاما عليه ، فأعداؤه ينظرون إليه ولا يقدرون على الهجوم عليه . واعلم أن البلاء المحقق إنما هو قيام الألم ووجوده في نفس المتألم ، ما هو السبب المربوط به عادة ، كوجوب الضرب بالسوط والحرق بالنار والجرح بالحديد ، وما أشبه ذلك من الآثار الحسية ، مما يكون عنها الآلام الحسية ، وكذلك ضياع المال والمصيبة في الأهل والولد ، والتوعد بالوعيد الشديد ، وجميع الأسباب الخارجة عنه ، الموجبة للآلام النفسية عادة ، إذا حصلت بهذا الشخص ، فتسمى هذه الأسباب عذابا ،
وليست في الحقيقة عذابا ، وإنما العذاب هو
..........................................................................................
( 1 ) لكفى - حذفت لدلالة المعنى عليها .
" 194 "
وجود الألم عند هذه الأسباب ، لا عين الأسباب ، وكذلك اللذة التي هي نقيض الألم ، هي صفة للملتذ يوصف بها ، وهو النعيم والتنعم ، وله أسباب ظاهرة ، وهي نيل أغراضه كانت ما كانت ، فإنه يتنعم بوجودها إذا حصلت ،
فهو صاحب تنعم في مقام تنعيم ، وسمى أسباب وجود اللذة في الملتذ نعيما ، وليس النعيم في الحقيقة إلا اللذة الموجودة في النفس ، وهي أيضا لذات حسية ونفسية ، وأسباب كأسباب الآلام خارجة وقائمة بحسه ، فصاحب أسباب الآلام إذا وجد اللذة والالتذاذ في نفسه ، مع قيام هذه الأسباب الموجبة للآلام عادة ، لم يجب عليه الصبر ، فإنه ليس بصاحب ألم ،
وإنما هو صاحب لذة ، متقلب في نعم من اللّه ، فيجب عليه الشكر للتنعم القائم به ، وبالعكس في حصول أسباب النعم يجد عندها الألم ، فيجب عليه الصبر ،
قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : ما أصابني اللّه بمصيبة ؛ فأثبت أنه مصاب بها ، أي نزلت به مصيبة أي سبب موجب للألم عادة ،
فقال : إلا رأيت أن للّه عليّ في تلك المصيبة ثلاث نعم ، النعمة الواحدة حيث لم تكن في ديني ، النعمة الثانية حيث لم تكن أكبر منها ، النعمة الثالثة ما وعد اللّه من الثواب عليها ، فأنا أنظر إليه ؛ فمثل هذا ما يسمى صابرا ، فإنه صاحب نعم متعددة ، فهو ملتذ بمشهوده ، فيجب عليه شكر المنعم ، وبالعكس وهو وجود أسباب اللذة ، فينعم اللّه عليه بمال وعافية ووجود ولد ، أو ولاية جديدة تكون له فيها رياسة وأمر ونهي ، وهذه كلها أسباب تلتذ النفوس بها ، وإذا كانت مطعومات شهية وملبوسات لينة فاخرة ومشمومات عطرة ، فهو صاحب لذة حسية ، فيفكر صاحب هذه الأسباب بما للحق عليه فيها من الحقوق ، من شكر المنعم والتكليف الإلهي في ذلك ، وما يتعين عليه في المال والولد والولاية ، من التصرف في ذلك كله على الوجه المشروع المقرب إلى اللّه ، وإقامة الوزن في ذلك كله ،
فعندما يخطر له هذا - وهو الواجب عليه من اللّه أن ينظر في ذلك - أعقبت هذه الأسباب الملذة في العادة هذا الفكر الموجب للألم ، فقام الألم به فهو صاحب بلاء ، لأنه صاحب ألم عن ظهور أسباب نعيم ، فيجب عليه الصبر على ذلك الألم ، ويسعى في أداء ما يجب عليه من الحق في ذلك ، أو يزهد فيه إن أفرط فيه الألم ، فما وقع الصبر إلا في موضعه مع وجود أسباب ضده ، ولا وقع الشكر إلا في موضعه مع وجود أسباب ضده ، ولذا قال أبو يزيد : سوى ملذوذ وجدي بالعذاب ؛ فما أراد بالعذاب هنا
" 195 "
وجود الألم ، فإن لفظة العذاب من العذوبة وهي الالتذاذ ، ولذلك قال أبو يزيد : بالعذاب ؛ ولم يقل بالآلام ، لما في لفظة العذاب من العذوبة ، وهي اللذة باللذة ، أي أنه يلتذ باللذة ، لا أنه يلتذ بالأشياء ، فإن الألم بالشيء مضاد للتلذذ به ،
فلا يجتمعان في محل واحد أبدا ، وهو طلب اللذة عند وجود سبب الآلام ، وهو خرق عادة ، كنار إبراهيم عليه السلام ، هي في الظاهر نار ،
ولكن ما أثرت إحراقا في جسم إبراهيم عليه السلام ولا وجد ألما لها ، بل كانت عليه بردا وسلاما ، فتعين الشكر عليه ، لأنه ما ثمّ ألم يجب الصبر عليه ، فالصبر أبدا لا يكون إلا مع البلاء ، والبلاء وجود الألم ، والشكر أبدا لا يكون إلا مع النعماء ،
والنعيم وجود اللذة في المحل ، فما يقع الشكر من العبد إلا على مسمى النعمة ، ولا يقع الضبر من العبد إلا على مسمى الألم وهو البلاء .
( ف ح 4 / 308 - ح 1 / 746 - ح 2 / 408 - ح 4 / 185 )
قول أبي يزيد : أنانيتي أنانيتك .
حكي عن بعض العارفين ووجد منقولا عن أبي يزيد البسطامي ، أنه قال في بعض مشاهده مع الحق في حال من الأحوال : أنانيتي أنانيتك ؛
أي كما ينطلق عليّ الاسم المضمر بحقيقته ، وكذلك ينطلق عليك ،
فإن أسماء المضمرات أعظم قوة وأمكن في العلم باللّه من الأسماء ، فإن المضمر يخالف الظاهر وقد ظهر ، مع كونه مضمرا في حال ظهوره ، فيقول في الحق إنه الظاهر في حال بطونه ، والباطن في حال ظهوره من وجه واحد ، فإن كلمة أنت ضمير مخاطب ، وليس سوى عينك ، وأنت مشهود بالخطاب ، فأنت المضمر الظاهر ، بخلاف الاسم .
( ف ح 3 / 305 )
قال أبو يزيد : أنا اللّه ؛ وقال : إنني أنا اللّه لا إله إلا أنا فاعبدني .
الوجه الأول : إن أعتق العبد نفسه من الرق مطلقا ، وهو أن يقيم نفسه في حال كون الحق عينه ، في قواه وجوارحه ، التي بها تميز عن غيره من الأنواع بالصورة والحد ، وإذا كان في هذا الحال ، وكان هذا نعته ، كان سيدا وزالت عبوديته مطلقا ، لأن العبودية هنا راحت ، إذ لا يكون الشيء عبد نفسه ، فهو هو ،
قال أبو يزيد في تحقيق هذا المقام مشيرا تالي اإِنَّنِي
" 196 "
أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي هذا أوحى اللّه به لموسى عليه السلام ، وهو خطاب يعم الخلق أجمعين ، وأما إن كان العبد مقيدا ، فهو أن يعتق نفسه من رق الكون ، فيكون حرا عن الغير عبدا للّه ، فإن عبوديتنا للّه يستحيل رفعها وعتقها ، لأنها صفة ذاتية له ، واستحال العتق منها في هذه الحال ، لا في الحال الأول .
( ف ح 1 / 618 )
الوجه الثاني : يقول صاحب الشهود والتجلي في مقام الحيرة
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه عينه
ويقول صاحب العقل :
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
فبينهما ما بين كلمتيهما ، فما في الوجود إلا اللّه ، ولا يعرف اللّه إلا اللّه ، ومن هذه الحقيقة قال من قال : أنا اللّه ؛ كأبي يزيد " وسبحاني " لغيره من رجال اللّه المتقدمين ، وهي من بعض تخريجات أقوالهم رضي اللّه عنهم ، فإن المحب يقول عن نفسه إنه عين محبوبه ، لاستهلاكه فيه ، فلا يراه غيرا له ، قال قائلهم في ذلك : أنا من أهوى ، ومن أهوى أنا ؛ وهذه حالة أبي يزيد ، فمن ادعى ذلك - على بصيرة وصحو وتحقق معرفة - في مجلس ، لقرينة حال اقتضاها المجلس ، كان ذلك منه لما رأى أن الحق عين قواه ، وما هو هو إلا بقواه ، وبقواه يقول ما يقول ، فقواه القائلة لا هو ، وهي عين الحق كما أخبر الحق ، وكما أعطاه الشهود بانخراق العادة ، فالحق هو الظاهر بأفعاله في أعيان الممكنات ، وأنه في بعض الأعيان قد نص أنه هو ، وفي بعض الأعيان لم يذكر أنه هو ،
فيقول العبد الكامل الذي الحق لسانه وسمعه وبصره وقواه وجوارحه : أنا اللّه ؛ كأبي يزيد وأمثاله .
( ف ح 1 / 272 - ح 2 / 361 - ح 3 / 117 - ح 4 / 11 )
الوجه الثالث - من حقيقة رجوع أعمال العباد عليهم قال من قال : أنا اللّه ؛ فإنه ما عبد إلا ما اعتقد ، وما اعتقد إلا ما أوجده في نفسه ، فما عبد إلا مجعولا مثله ، فقال عندما رأى هذه الحقيقة من الاشتراك في الخلق ،
قال : أنا اللّه ؛ فأعذره الحق ، وأما من قال : أنا اللّه ؛ بحق ، أي من قال ذلك والحق لسانه وسمعه وبصره ،
فذلك دون صاحب هذا المقام .
( ف ح 4 / 262 )
" 197 "
الوجه الرابع - لما كان الاسم اللّه قد عصمه اللّه أن يسمى به غير اللّه ، فلا يفهم منه عند التلفظ به وعند رؤيته مرقوما إلا هوية الحق لا غير ، فإنه يدل عليه تعالى بحكم المطابقة ،
قال أبو يزيد عند ذلك : أنا اللّه ؛ يعني ذلك المتلفظ به في الدلالة على هويته ،
يقول رضي اللّه عنه : أنا أدلّ على هوية اللّه من كلمة " اللّه " عليها ، فكما أن لفظة اللّه للذات دليل ، كذلك العبد الجامع الكلي ، فالعبد هو كلمة الجلالة ،
وشتان بين مقام المعنى ومقام الحرف الذي وجد له ، قابل تعالى الحرف بالحرف في قوله صلى اللّه عليه وسلم : أعوذ برضاك من سخطك ؛
وقابل المعنى بالمعنى في قوله : وأعوذ بك منك ؛
لذلك قال عليه السلام : إن أولياء اللّه هم الذين إذا رؤوا ذكر اللّه .
( ف ح 4 / 118 - ح 1 / 108 )
قول أبي يزيد : سبحاني .
لما كان الحق منزّها لنفسه ما هو منزه لتنزيه عباده ، لهذا قال من قال من العارفين :
سبحاني ؛ وقد جاء في الخبر الصدق أن أعمال العباد ترجع عليهم ، قال صلى اللّه عليه وسلم : إنما هي أعمالكم ترد عليكم ؛ فمن كان عمله التنزيه عاد عليه تنزيهه ، فكان محله منزها عن أن يقوم به اعتقاد ما لا ينبغي أن يكون الحق عليه ،
ومن هنا قال من قال : سبحاني ؛ تعظيما لجلال اللّه تعالى ،
فلا بد أن يرجع عليهم هذا المجد الذي مجدوا الحق به ، فيكون لهم في الآخرة المجد الطريف والتليد ، ورجوع أعمالهم عليهم اقتضته حقيقة قوله تعالىوَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُبعد ما كانت الدعاوى الكيانية قد أخذته وأضافته إلى الخلق ، فمن رجوع الأمر كله إليه ، رجعت أعمال العباد عليهم ، فالعبد بحسب ما عمل ، فهو المقدّس إذا كان عمله تقديس الحق ، وهو المنزّه بتنزيهه ، والمعظم بتعظيمه ، ولما لحظ أبو يزيد هذه الرجعة عليه قال : سبحاني ؛ فأعاد التنزيه عليه لفظا كما عاد عليه حكما ،
فإن المنزّه لا ينزّه ، فإنه إن نزّه فقد نزه عن التنزيه ، فإنه ما له نعت إلا هو فيشبه ، فالتسبيح تجريح ، فسبّحه على الحكاية ، فإنه سبح نفسه وعلم ما أراد بذلك ، فهو تسبيح الأدباء العارفين به سبحانه ، فإن عدم العدم وجود ،
وكذلك تنزيه المنزّه عما هو به موصوف ، وأهل التسبيح إذا أشهد أحدهم من سبّحه قال : سبحاني ؛ فما سبح إلا نفسه ، فإن تسبيحه في زعمه ربه يفضحه الشهود ،
" 198 "
فاستعجل بالتعريف في هذه الدار فقال : سبحاني ؛ فأنكر عليه ،
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ؛ وكأهل بدر ، ففنيت عنهم أحكام المخالفات فما خالفوا ، فإنهم ما تصرفوا إلا فيما أبيح لهم ،
فإن الغيرة الإلهية تمنع أن ينتهك المقربون عنده حرمة الخطاب الإلهي بالتحجير ، وهو غير مؤاخذ لهم ، لما سبقت لهم به العناية في الأزل ،
فأباح لهم ما هو محجور على الغير ، وسائر من ليس له هذا المقام لا علم له بذلك ، فيحكم عليه بأنه ارتكب المعاصي ،
وهو ليس بعاص بنص كلام اللّه المبلغ على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،
فإن كان العارف ممن قيل له على لسان الشارع : افعل ما شئت فقد غفرت لك ؛ فما عصى لا ظاهرا ولا باطنا عند اللّه ، وإن كان لسان الظاهر عليه بالمعصية ، لأنه لم يدرك نسخ ذلك بالإباحة من الشارع ، فلسان الظاهر ، كمجتهد مخطىء يرى إصابة غيره من المجتهدين خطأ ، اعتمادا منه على دليله ، فمن كان هذا مقامه فما فعل فعلا يوجب له الحياء ، مع لسان الظاهر عليه بالمعصية ،
فالصورة واحدة والحكم مختلف ، والقسم الآخر رجال أطلعوا على سر القدر وتحكمه في الخلائق ، وعاينوا ما قدر عليهم من جريان الأفعال الصادرة منهم ، من حيث ما هي أفعال ، لا من حيث ما هي محكوم عليها بكذا أو كذا ،
وذلك في حضرة النور الخالص ، الذي منه يقول أهل الكلام أفعال اللّه كلها حسنة ، ولا فاعل إلا اللّه ، فلا فعل إلا للّه ،
وتحت هذه الحضرة حضرتان : حضرة السدفة وحضرة الظلمة المحضة ،
وفي حضرة السدفة ظهر التكليف ، وتقسمت الكلمة إلى كلمات ، وتميز الخير من الشر ،
وحضرة الظلمة هي حضرة الشر الذي لا خير معه ، وهو الشرك والفعل الموجب للخلود في النار وعدم الخروج منها ،
فلما عاين هؤلاء الرجال من هذا القسم ما عاينوه من حضرة النور ، بادروا إلى فعل جميع ما علموا أنه يصدر منهم ، وفنوا عن الأحكام الموجبة للبعد والقرب ، ففعلوا الطاعات ووقعوا في المخالفات ، كل ذلك من غير نية لقرب ولا انتهاك حرمة ،
فهذا فناء غريب أطلعني ( أي الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ) اللّه عليه بمدينة فاس ، ولم أر له ذائقا ، مع علمي بأن له رجالا ، ولكن لم ألقهم ولا رأيت أحدا منهم ، غير أني رأيت حضرة النور وحكم الأمر فيها ،
غير أنه لم يكن لتلك المشاهدة فينا حكم ، بل أقامني اللّه في حضرة السدفة ، وحفظني وعصمني ، فلي حكم حضرة النور وأقامني في السدفة ، وهو عند القوم
" 189 "
أتم من الإقامة في حضرة النور ، ومسألة الخضر مع موسى في قتل النفس ، أين حكم موسى عليه السلام فيه من حكم الخضر رضي اللّه عنه ؟ وكل واحد له وجه في الحق ومستند ، وهذا حال أهل الشهود ، يشهدون المقدور قبل وقوعه في الوجود ، فيأتونه على بصيرة ، فهم على بينة من ربهم في ذلك ، وهو مقام لا يناله إلا من كان اللّه سمعه وبصره .
( ف ح 3 / 487 - ح 4 / 125 - ح 2 / 512 ، 491 ، 512 - ح 4 / 125 )
فإن قلت : هل يقام على صاحب الشهود الحد ؟
فاعلم أن كل من وصل في هذه الدار الدنيا ، إلى الحد الذي أوجب عليه التكليف ، ببلوغ الحلم وقيام صفة العقل ،
إذا كشف عنه الغطاء في هذه الدار ، لم يرتفع عنه التحجير ولا خطاب الشرع ، لحكم الدار لا لحكم الحال ، لأنه كان يعطي القياس ارتفاع التحجير عمن هو بهذه الصفة ، ولكن لابد للدار من حكم ،
فإذا جاء وعد الآخرة وانتقلنا إليها ، خرجنا عن حكم الدار ، فارتفع عنا حكم التكليف في دار الرضوان وأختها ، كذلك من أطلعه اللّه هنا في هذه الدار على سعادته ، وأطلع الآخر على شقاوته ، لم تسقط هذه المطالعة عنهما التحجير ولا التكليف ،
لأن أصل النواميس في هذه الدار إنما هي لمصلحة الدنيا والآخرة ،
فمن المحال رفع التحجير ما دامت الدنيا ودام من فيها ، فلو لا هذا ، لكان من كشف عنه الغطاء ارتفع عنه التحجير ،
لأنه لا يرى فاعلا إلا اللّه ، والشيء لا يحجر على نفسه ، والولي مهما خرج عن ميزان الشرع الموضوع - مع عقل التكليف عنده - سلّم له حاله ، للاحتمال الذي في نفس الرحمن في حقه ، وهو موجود أيضا في الميزان المشروع ، فإن ظهر بأمر يوجب حدا في ظاهر الشرع ، ثابت عند الحاكم ، أقيمت عليه الحدود ولا بد ، ولا يعصمه ذلك الاحتمال الذي في نفس الأمر ، أن يكون من العبيد الذين أبيح لهم فعل ما حرم على غيرهم شرعا ، فأسقط اللّه عنهم المؤاخذة ، ولكن في الدار الآخرة ، فإنه قال في أهل بدر ما قد ثبت من إباحة الأفعال ، وكذلك في الخبر الوارد : افعل ما شئت فقد غفرت لك ؛ ولم يقل أسقطت عنك الحد في الدنيا ، والذي يقيم عليه الحد مأجور ، وهو في نفسه غير مأثوم ، فعليك أن تقيم الحد إذا كنت من أولي الأمر فيمن عين لك أن تقيمه ، حتى لو تركته كنت عاصيا مخالفا أمر اللّه .
( ف ح 3 / 480 - ح 2 / 370 - ح 4 / 235 ، 47 )
" 190 "
قرىء على أبي يزيد إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قال : بطشي أشد .
هذا من علم القهر الإلهي على أيدي الأكوان ، فقول أبي يزيد " بطشي أشد "
في هذا المقام ، وقد يكون حال أبي يزيد حال من ينطق باللّه ، فيقول اللّه على لسان عبده عن نفسه :
إن بطشه شديد ، أشد من بطشه بغير لسان عبده ، ثم بطشه على لسان عبده الطبيعي ، أشد من بطشه على لسان عبده الإلهي بما لا يتقارب ، وقال بعض من شرح هذه الكلمة " بطشي أشد " يعني إذا بطش العبد به لا بنفسه ، وإنما قول أبي يزيد عندي فشرحه على خلاف هذا ، فإن بطش العبد بطش معرى عن الرحمة ، ما عنده من الرحمة شيء في حال بطشه ، وبطش الحق بكل وجه ، فيه رحمة بالمبطوش به ، من وجه يقصده الباطش الحق ، فهو الرحيم في بطشه " 1 " ،
فبطش العبد أشد لأنه لا تقوم به رحمة بالمبطوش به ، فإن رحمة اللّه مطلقة ، بخلاف بطشه وانتقامه مع شدته ، ولكن لا يبطش بطشا لا يكون فيه رحمة ، لأن قصارى الرحمة فيه إيجاده البطش بعبده ، فوجود البطش رحمة رحم اللّه بها المبطوش به ، إذ أخرجه من العدم إلى الوجود ، فجاء أبو يزيد في هذا المقام ، لما سمع القارئ يقرأإِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌقال أبو يزيد : بطشي أشد ؛ لأن بطش الإنسان إذا بطش لا يكون في بطشه شيء من الرحمة ، لأنه لا يتمكن له أن يبطش بأحد وعنده رحمة به جملة واحدة ، فما يكون ذلك البطش إلا بحسب ما أعطاه محل الباطش ، وإن كان ذلك البطش خلقا للّه ، ولكن ما خلقه إلا في هذا المحل ، فظهر بصورة المحل ، والمحل لا يطلب الانتقام من أحد وفي قلبه رحمة ، ثم إن اللّه إذا بطش بعبده ففي بطشه نوع رحمة ، لأنه عبده بلا شك ، كما أن المخلوق إذا أراد أن يبطش بعبده ، لابد أن يشوب بطشه نوع رحمة ، للمناسبة التي بينه وبين عبده ومملوكه ، لأنه المبقي عليه اسم المالك والسيادة ، فلا يمكن أن يستقصي في بطشه ما يذهب عينه ، فيكون عند ذلك قد بطش بنفسه ، والمخلوق ليس كذلك في الأجنبي ، الذي ليس بينه وبين الباطش نسبة عبودية ، ولا اكتسب من وجوده صفة سيادة ، فإذا بطش من هذه
..........................................................................................
( 1 )فبطشه الأقوى على عزه ... ينزل في الشدة عن بطشي
لمزجه برحمة لم تضق ... فهي لدى بطشي كالخدش
( ديوان / 92 ) .
" 191 "
صفته ، بطش ببطش لا تشوبه رحمة ، فهو سبحانه خير الراحمين ، وما جاء قط عنه تعالى أنه خير الآخذين ، ولا الباطشين ولا المنتقمين ولا المعذبين ، كما جاء في خير الفاصلين وخير الغافرين ، وخير الراحمين وخير الشاكرين وأمثال هذا ، مع كونه يبطش وينتقم ويأخذ ويهلك ويعذب ، لا بطريق الأفضلية ، فليس للّه وعيد وبطش مطلق شديد ، ليس فيه شيء من الرحمة واللطف ،
وبطش المخلوق إذا بطش لا يكون في بطشه شيء من الرحمة ، بل ربما ما يقدر أن يبلغ في المبطوش به ما في نفسه من الانتقام منه ، لسرعة موت ذلك الشخص ، ولما كانت الرحمة منزوعة عن بطشه ،
قال أبو يزيد : بطشي أشد ؛ وسبب ذلك ضيق المخلوق ، فإنه ما له الاتساع الإلهي ، وبطش اللّه وإن كان شديدا ، ففي بطشه رحمة بالمبطوش به ،
وبطش المخلوق ليستريح من الضيق والحرج ، الذي يجده في نفسه بما يوقعه بهذا المبطوش به ، فيطلب في بطشه الرحمة بنفسه في الوقت ، وقد لا ينالها كلها ، بخلاف الحق تعالى ، فإن بطشه لسبق العلم ، يأخذ هذا المبطوش به للسبب الموجب له لا غير ، والمنتقم لغيره ما هو كالمنتقم لنفسه ، فقول أبي يزيد : بطشي أشد ؛ لخلو بطش العبد من الرحمة الكونية ، وبطش اللّه ليس كذلك ، فإن الرحمة الإلهية تصحبه وهو يعلمها ،
وكذا هي في بطش العبد ، إلا أن العبد لا يشهدها ولا يجد لها أثرا في نفسه ، وإن كان يرحم نفسه بذلك البطش ولكن لا بعلم ، واللّه عليم بكل شيء ، فهو عليم بأن رحمته وسعت كل شيء ، فوسعت بطشه وبطش الكون ، ولكن ما كل باطش يعلم ذلك ، ولما كان للعبد بطش من حيث عينه ، وله بطش بربه ، وليس للرب في الحقيقة بطش بعبده ،
فأضاف أبو يزيد بطش ربه إلى بطشه فقال :
بطشي أشد ؛ لأن فيه بطش ربي ، وما في بطش ربي بعباده بطشي .
( ف ح 3 / 146 - ح 4 / 87 - ح 1 / 695 - ح 3 / 553 - ح 2 / 412 - ح 3 / 219 )
والإنسان الكامل وإن بطش وكان ذا بطش شديد ، فالإنسان الحيواني أشد بطشا منه ، ولذلك قال أبو يزيد : بطشي أشد ؛ منه من حيث نفسه الحيوانية ، لأنه يبطش بما لم يخلق ، فلا رحمة له فيه ، والحق يبطش بمن خلق ،
فالرحمة مندرجة في بطشه حيث كان ، فإن الحدود التي نصبها في الدنيا - وحيث كانت - إنما هي للتطهير ، وكذلك الآلام والأمراض وكل ما يؤدي إلى ذلك ، كل ذلك للتطهير ورفع الدرجات وتكفير السيئات ، فإن
" 192 "
الرحمة في الغضب لا تكون إلا في الحدود المشروعة والتعزير ، وما عدا ذلك فغضب ليس فيه من الرحمة شيء ، فإن الإنسان إذا غضب لنفسه ، فلا يتضمن ذلك الغضب رحمة بوجه ، وإذا غضب للّه ، فغضبه غضب اللّه ، وغضب اللّه لا يخلص عن رحمة إلهية تشوبه .
( ف ح 3 / 281 )
وعلى أي حال فمن جهة التحقيق ، فقول أبي يزيد : بطشي أشد ؛ قول نازل ، فإن العبد إذا كان على مقامه الذي هو عينه مسلوب الأوصاف ، ولم يظهر منه تلبس بصفة محمودة ولا مذمومة ، فهو على أصله ، وأصله الصغار .
( ف ح 3 / 333 )
قال أبو يزيد البسطامي رحمه اللّه :
أريدك لا أريدك للثواب ... ولكني أريدك للعقاب
وكل مآربي قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
وقال العارف : ليس العجب من ورد في بستان ، وإنما العجب من ورد في قعر النيران .
( ف ح 2 / 657 )
المراد في اصطلاح القوم ، هو المجذوب عن إرادته مع تهيؤ الأمور له ، فهو يجاوز الرسوم والمقامات من غير مشقة ، بل بالتذاذ وحلاوة وطيب ، تهون عليه الصعاب وشدائد الأمور ،
وينقسم المرادون إلى قسمين :
القسم الواحد أن يركب الأمور الصعبة ، وتحل به البلايا المحسوسة والنفسية ، ويحس بها ويكره ذلك الطبع منه ، غير أنه يرى ويشاهد ما له في ذلك في باطن الأمر عند اللّه من الخير - مثل العافية في شرب الدواء الكريه - فيغلب عليه مشاهدة ذلك النعيم الذي في طي هذا البلاء ، فيلتذ بما يطرأ عليه من مخالفة الغرض - وهو العذاب النفسي ومن الآلام المحسوسة - لأجل هذه المشاهدة ، كعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، فإنه من أصحاب هذا المقام ،
وأما القسم الآخر فلا يحس بالشدائد المعتادة ، بل يجعل اللّه فيه من القوة ما يحمل بها تلك الشدائد ، التي يضعف عن حملها غيرها " 1 " من القوى ،
..........................................................................................
( 1 ) هكذا في الأصل ولعلها " غيره " .
" 193 "
كالرجل الكبير ذي القوة ، فيكلف ما يشق على الصغير أن يحمله ، فما عنده خبر من ذلك ، بل يحمله من غير مشقة ، فإنه تحت قوته وقدرته ، ويحمله الصغير بمشقة وجهد ، فهذا ملتذ بحمله ، فارح بقوته يفتخر بها ، لا يجد ألما ولا يحس به ،
كما قال أبو يزيد في بعض مناجاته :
أريدك لا أريدك للثواب ... ولكني أريدك للعقاب
وكل مآربي قد نلت منها ... سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
( ف ح 2 / 524 - ح 1 / 511 )
فطلب اللذة بما جرت العادة به أن يثمر عذابا ، خرقا للعادة ، فما طلب العذاب ،
يقول أهل اللّه : ليس العجب من ورد في بستان ، وإنما العجب من ورد في قعر النيران ؛ يقول صاحب هذا الكلام ، ليس العجب ممن يلتذ بما جرت العادة أن يلتذ به الطبع ، وإنما العجب أن يلتذ بما جرت العادة أن يتألم به الطبع ، وقد أنشد في ذلك صاحب محاسن المجالس :
فهل سمعتم بصب ... سليم طرف سقيم
منعم بعذاب ... معذب بنعيم
( ف ح 2 / 673 )
إبراهيم الخليل عليه السلام في وسط النار يتنعم ويلتذ ، ولو لم يكن عليه السلام إلا في حمايتها إياه من الوصول إليه " 1 " ،
فالأعداء يرونها في أعينهم نارا تأجج ، وهو يجدها بأمر اللّه إياها بردا وسلاما عليه ، فأعداؤه ينظرون إليه ولا يقدرون على الهجوم عليه . واعلم أن البلاء المحقق إنما هو قيام الألم ووجوده في نفس المتألم ، ما هو السبب المربوط به عادة ، كوجوب الضرب بالسوط والحرق بالنار والجرح بالحديد ، وما أشبه ذلك من الآثار الحسية ، مما يكون عنها الآلام الحسية ، وكذلك ضياع المال والمصيبة في الأهل والولد ، والتوعد بالوعيد الشديد ، وجميع الأسباب الخارجة عنه ، الموجبة للآلام النفسية عادة ، إذا حصلت بهذا الشخص ، فتسمى هذه الأسباب عذابا ،
وليست في الحقيقة عذابا ، وإنما العذاب هو
..........................................................................................
( 1 ) لكفى - حذفت لدلالة المعنى عليها .
" 194 "
وجود الألم عند هذه الأسباب ، لا عين الأسباب ، وكذلك اللذة التي هي نقيض الألم ، هي صفة للملتذ يوصف بها ، وهو النعيم والتنعم ، وله أسباب ظاهرة ، وهي نيل أغراضه كانت ما كانت ، فإنه يتنعم بوجودها إذا حصلت ،
فهو صاحب تنعم في مقام تنعيم ، وسمى أسباب وجود اللذة في الملتذ نعيما ، وليس النعيم في الحقيقة إلا اللذة الموجودة في النفس ، وهي أيضا لذات حسية ونفسية ، وأسباب كأسباب الآلام خارجة وقائمة بحسه ، فصاحب أسباب الآلام إذا وجد اللذة والالتذاذ في نفسه ، مع قيام هذه الأسباب الموجبة للآلام عادة ، لم يجب عليه الصبر ، فإنه ليس بصاحب ألم ،
وإنما هو صاحب لذة ، متقلب في نعم من اللّه ، فيجب عليه الشكر للتنعم القائم به ، وبالعكس في حصول أسباب النعم يجد عندها الألم ، فيجب عليه الصبر ،
قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : ما أصابني اللّه بمصيبة ؛ فأثبت أنه مصاب بها ، أي نزلت به مصيبة أي سبب موجب للألم عادة ،
فقال : إلا رأيت أن للّه عليّ في تلك المصيبة ثلاث نعم ، النعمة الواحدة حيث لم تكن في ديني ، النعمة الثانية حيث لم تكن أكبر منها ، النعمة الثالثة ما وعد اللّه من الثواب عليها ، فأنا أنظر إليه ؛ فمثل هذا ما يسمى صابرا ، فإنه صاحب نعم متعددة ، فهو ملتذ بمشهوده ، فيجب عليه شكر المنعم ، وبالعكس وهو وجود أسباب اللذة ، فينعم اللّه عليه بمال وعافية ووجود ولد ، أو ولاية جديدة تكون له فيها رياسة وأمر ونهي ، وهذه كلها أسباب تلتذ النفوس بها ، وإذا كانت مطعومات شهية وملبوسات لينة فاخرة ومشمومات عطرة ، فهو صاحب لذة حسية ، فيفكر صاحب هذه الأسباب بما للحق عليه فيها من الحقوق ، من شكر المنعم والتكليف الإلهي في ذلك ، وما يتعين عليه في المال والولد والولاية ، من التصرف في ذلك كله على الوجه المشروع المقرب إلى اللّه ، وإقامة الوزن في ذلك كله ،
فعندما يخطر له هذا - وهو الواجب عليه من اللّه أن ينظر في ذلك - أعقبت هذه الأسباب الملذة في العادة هذا الفكر الموجب للألم ، فقام الألم به فهو صاحب بلاء ، لأنه صاحب ألم عن ظهور أسباب نعيم ، فيجب عليه الصبر على ذلك الألم ، ويسعى في أداء ما يجب عليه من الحق في ذلك ، أو يزهد فيه إن أفرط فيه الألم ، فما وقع الصبر إلا في موضعه مع وجود أسباب ضده ، ولا وقع الشكر إلا في موضعه مع وجود أسباب ضده ، ولذا قال أبو يزيد : سوى ملذوذ وجدي بالعذاب ؛ فما أراد بالعذاب هنا
" 195 "
وجود الألم ، فإن لفظة العذاب من العذوبة وهي الالتذاذ ، ولذلك قال أبو يزيد : بالعذاب ؛ ولم يقل بالآلام ، لما في لفظة العذاب من العذوبة ، وهي اللذة باللذة ، أي أنه يلتذ باللذة ، لا أنه يلتذ بالأشياء ، فإن الألم بالشيء مضاد للتلذذ به ،
فلا يجتمعان في محل واحد أبدا ، وهو طلب اللذة عند وجود سبب الآلام ، وهو خرق عادة ، كنار إبراهيم عليه السلام ، هي في الظاهر نار ،
ولكن ما أثرت إحراقا في جسم إبراهيم عليه السلام ولا وجد ألما لها ، بل كانت عليه بردا وسلاما ، فتعين الشكر عليه ، لأنه ما ثمّ ألم يجب الصبر عليه ، فالصبر أبدا لا يكون إلا مع البلاء ، والبلاء وجود الألم ، والشكر أبدا لا يكون إلا مع النعماء ،
والنعيم وجود اللذة في المحل ، فما يقع الشكر من العبد إلا على مسمى النعمة ، ولا يقع الضبر من العبد إلا على مسمى الألم وهو البلاء .
( ف ح 4 / 308 - ح 1 / 746 - ح 2 / 408 - ح 4 / 185 )
قول أبي يزيد : أنانيتي أنانيتك .
حكي عن بعض العارفين ووجد منقولا عن أبي يزيد البسطامي ، أنه قال في بعض مشاهده مع الحق في حال من الأحوال : أنانيتي أنانيتك ؛
أي كما ينطلق عليّ الاسم المضمر بحقيقته ، وكذلك ينطلق عليك ،
فإن أسماء المضمرات أعظم قوة وأمكن في العلم باللّه من الأسماء ، فإن المضمر يخالف الظاهر وقد ظهر ، مع كونه مضمرا في حال ظهوره ، فيقول في الحق إنه الظاهر في حال بطونه ، والباطن في حال ظهوره من وجه واحد ، فإن كلمة أنت ضمير مخاطب ، وليس سوى عينك ، وأنت مشهود بالخطاب ، فأنت المضمر الظاهر ، بخلاف الاسم .
( ف ح 3 / 305 )
قال أبو يزيد : أنا اللّه ؛ وقال : إنني أنا اللّه لا إله إلا أنا فاعبدني .
الوجه الأول : إن أعتق العبد نفسه من الرق مطلقا ، وهو أن يقيم نفسه في حال كون الحق عينه ، في قواه وجوارحه ، التي بها تميز عن غيره من الأنواع بالصورة والحد ، وإذا كان في هذا الحال ، وكان هذا نعته ، كان سيدا وزالت عبوديته مطلقا ، لأن العبودية هنا راحت ، إذ لا يكون الشيء عبد نفسه ، فهو هو ،
قال أبو يزيد في تحقيق هذا المقام مشيرا تالي اإِنَّنِي
" 196 "
أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي هذا أوحى اللّه به لموسى عليه السلام ، وهو خطاب يعم الخلق أجمعين ، وأما إن كان العبد مقيدا ، فهو أن يعتق نفسه من رق الكون ، فيكون حرا عن الغير عبدا للّه ، فإن عبوديتنا للّه يستحيل رفعها وعتقها ، لأنها صفة ذاتية له ، واستحال العتق منها في هذه الحال ، لا في الحال الأول .
( ف ح 1 / 618 )
الوجه الثاني : يقول صاحب الشهود والتجلي في مقام الحيرة
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه عينه
ويقول صاحب العقل :
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
فبينهما ما بين كلمتيهما ، فما في الوجود إلا اللّه ، ولا يعرف اللّه إلا اللّه ، ومن هذه الحقيقة قال من قال : أنا اللّه ؛ كأبي يزيد " وسبحاني " لغيره من رجال اللّه المتقدمين ، وهي من بعض تخريجات أقوالهم رضي اللّه عنهم ، فإن المحب يقول عن نفسه إنه عين محبوبه ، لاستهلاكه فيه ، فلا يراه غيرا له ، قال قائلهم في ذلك : أنا من أهوى ، ومن أهوى أنا ؛ وهذه حالة أبي يزيد ، فمن ادعى ذلك - على بصيرة وصحو وتحقق معرفة - في مجلس ، لقرينة حال اقتضاها المجلس ، كان ذلك منه لما رأى أن الحق عين قواه ، وما هو هو إلا بقواه ، وبقواه يقول ما يقول ، فقواه القائلة لا هو ، وهي عين الحق كما أخبر الحق ، وكما أعطاه الشهود بانخراق العادة ، فالحق هو الظاهر بأفعاله في أعيان الممكنات ، وأنه في بعض الأعيان قد نص أنه هو ، وفي بعض الأعيان لم يذكر أنه هو ،
فيقول العبد الكامل الذي الحق لسانه وسمعه وبصره وقواه وجوارحه : أنا اللّه ؛ كأبي يزيد وأمثاله .
( ف ح 1 / 272 - ح 2 / 361 - ح 3 / 117 - ح 4 / 11 )
الوجه الثالث - من حقيقة رجوع أعمال العباد عليهم قال من قال : أنا اللّه ؛ فإنه ما عبد إلا ما اعتقد ، وما اعتقد إلا ما أوجده في نفسه ، فما عبد إلا مجعولا مثله ، فقال عندما رأى هذه الحقيقة من الاشتراك في الخلق ،
قال : أنا اللّه ؛ فأعذره الحق ، وأما من قال : أنا اللّه ؛ بحق ، أي من قال ذلك والحق لسانه وسمعه وبصره ،
فذلك دون صاحب هذا المقام .
( ف ح 4 / 262 )
" 197 "
الوجه الرابع - لما كان الاسم اللّه قد عصمه اللّه أن يسمى به غير اللّه ، فلا يفهم منه عند التلفظ به وعند رؤيته مرقوما إلا هوية الحق لا غير ، فإنه يدل عليه تعالى بحكم المطابقة ،
قال أبو يزيد عند ذلك : أنا اللّه ؛ يعني ذلك المتلفظ به في الدلالة على هويته ،
يقول رضي اللّه عنه : أنا أدلّ على هوية اللّه من كلمة " اللّه " عليها ، فكما أن لفظة اللّه للذات دليل ، كذلك العبد الجامع الكلي ، فالعبد هو كلمة الجلالة ،
وشتان بين مقام المعنى ومقام الحرف الذي وجد له ، قابل تعالى الحرف بالحرف في قوله صلى اللّه عليه وسلم : أعوذ برضاك من سخطك ؛
وقابل المعنى بالمعنى في قوله : وأعوذ بك منك ؛
لذلك قال عليه السلام : إن أولياء اللّه هم الذين إذا رؤوا ذكر اللّه .
( ف ح 4 / 118 - ح 1 / 108 )
قول أبي يزيد : سبحاني .
لما كان الحق منزّها لنفسه ما هو منزه لتنزيه عباده ، لهذا قال من قال من العارفين :
سبحاني ؛ وقد جاء في الخبر الصدق أن أعمال العباد ترجع عليهم ، قال صلى اللّه عليه وسلم : إنما هي أعمالكم ترد عليكم ؛ فمن كان عمله التنزيه عاد عليه تنزيهه ، فكان محله منزها عن أن يقوم به اعتقاد ما لا ينبغي أن يكون الحق عليه ،
ومن هنا قال من قال : سبحاني ؛ تعظيما لجلال اللّه تعالى ،
فلا بد أن يرجع عليهم هذا المجد الذي مجدوا الحق به ، فيكون لهم في الآخرة المجد الطريف والتليد ، ورجوع أعمالهم عليهم اقتضته حقيقة قوله تعالىوَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُبعد ما كانت الدعاوى الكيانية قد أخذته وأضافته إلى الخلق ، فمن رجوع الأمر كله إليه ، رجعت أعمال العباد عليهم ، فالعبد بحسب ما عمل ، فهو المقدّس إذا كان عمله تقديس الحق ، وهو المنزّه بتنزيهه ، والمعظم بتعظيمه ، ولما لحظ أبو يزيد هذه الرجعة عليه قال : سبحاني ؛ فأعاد التنزيه عليه لفظا كما عاد عليه حكما ،
فإن المنزّه لا ينزّه ، فإنه إن نزّه فقد نزه عن التنزيه ، فإنه ما له نعت إلا هو فيشبه ، فالتسبيح تجريح ، فسبّحه على الحكاية ، فإنه سبح نفسه وعلم ما أراد بذلك ، فهو تسبيح الأدباء العارفين به سبحانه ، فإن عدم العدم وجود ،
وكذلك تنزيه المنزّه عما هو به موصوف ، وأهل التسبيح إذا أشهد أحدهم من سبّحه قال : سبحاني ؛ فما سبح إلا نفسه ، فإن تسبيحه في زعمه ربه يفضحه الشهود ،
" 198 "
فاستعجل بالتعريف في هذه الدار فقال : سبحاني ؛ فأنكر عليه ،
وإن طلب الدليل فقل : إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أردها عليكم ؛ لأن الحق منزّه الذات لنفسه ، ما تنزه بتنزيه عبده إياه ، العلماء باللّه الحق سبحانه إنما هو علم لا عمل ، إذ لو كان التنزيه من الخلق إلههم عملا ، لكان اللّه - الذي هو المنزه سبحانه - محلا لأثر هذا العمل ،
فهو سبحانه لا يقبل تنزيه عباده من حيث أنهم عاملون ، فإنه لا يرى التنزيه عملا إلا الجاهل من العباد ، فإن العالم يراه علما ، وإذا تكلم به إنما تكلم به على جهة التعريف بما هو الأمر عليه في نفسه ، أو لتعليم المتعلم ممن كان لا يعتقد في اللّه أنه بذلك النعت من التنزيه .
( ف ح 4 / 57 - ح 1 / 175 - ح 4 / 262 ، 414 - ح 1 / 344 ) .
وجه آخر - الحروف عندنا تقسم تقسيم من يعقل ، لا على طريق التجوز ، بل ذلك على الحقيقة ، فإن الحروف عندنا وعند أهل الكشف والإيمان - حروف اللفظ وحروف الرقم وحروف التخيل - أمم من جملة الأمم ، لصورها أرواح مدبرة ، فهي حية ناطقة تسبح اللّه بحمده ، طائعة ربها ، فمنها ما يلحق بعالم الجبروت ، ومنها ما يلحق بعالم الملكوت ، ومنها ما يلحق بعالم الملك ،
فما الحروف عندنا كما هي عند أهل الحجاب ، الذين أعماهم اللّه وجعل على بصرهم غشاوة وهم ينظرون ، كما قال تعالىوَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ فإذا قال العبد : لا إله إلا اللّه ؛ كان خلّاقا لهذه الكلمات ، فتسبح خالقها - ويحق لها ذلك - والحق منزّه بالأصالة لا بتنزيه المنزّه ، وقد نسب تعالى الخلق لعبده ، ووصف نفسه بالأحسن فيه ، في قوله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فيعود تسبيح هذه الكلمة - وكل كلمة - على قائلها ،
فإذا كان العبد من أهل الكشف لما ذكرناه ، هو الذي نقل عنه من الرجال أنه قال :
سبحاني ؛ ولا علم لمن كفره بذلك .
( ف ح 4 / 90 )
واعلم أن سر الحال لا يكون إلا من نعوت الخلق ، ليس من نعوت الحق ، فسر العلم أتم ، وحكمه أعم من سر الحال ، ومن سر الحال نفخ عيسى عليه السلام في الصورة التي أنشأها من الطين فكانت طيرا ، وبسر العلم دعاء إبراهيم عليه السلام الأطيار فأتته سعيا ،
فإن كان قوله بِإِذْنِي العامل فيه فَتَنْفُخُ فهو سر الحال ، وإن كان العامل فيه فَتَكُونُ فهو سر العلم ، وهذا لا يعلمه إلا صاحبه وهو عيسى عليه السلام ، وسر العلم أتم من سر
" 199 "
الحال ، لأن سر العلم هو للّه ، وهو الذي ظهر به إبراهيم الخليل عليه السلام ، فإنه ما زاد على أن دعاهن ، ولم يذكر نفخا ، فكان كقولهإِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُفسر الحال يلبّس فيقول القائل بسر الحال .
" أنا اللّه " و " سبحاني " و " أنا من أهوى ومن أهوى أنا "
وسر العلم يفرق بين العلم والعالم ، فبسر العلم تعلم أن الحق سمعك وبصرك ويدك ورجلك ، مع نفوذ كل واحد من ذلك وقصوره ، وأنك لست هو عينه ، وبسر الحال ينفذ سمعك في كل مسموع في الكون ، إذا كان الحق سمعك حالا ، وكذلك سائر قواك ، فعين الحال أبدا تنقص عن درجة العلم وعين الحقيقة ، ولهذا لا تتصف الأحوال بالثبوت ، فإن العلم يزيلها والحقيقة تأباها .
( ف ح 2 / 479 )
قول أبي يزيد : أنا من أهوى ومن أهوى أنا " 1 " .
إذا انتقل العارف أو المحب من المحسوس إلى الخيال ، قرب من معنى المحبوب ، فشاهده في الخيال ممثلا ، ذا صورة ، وشاهده وهو في الخيال لما عدل بنظره إلى حضرة المعاني المجاورة لحضرة الخيال ، عاين المعنى مجردا عن المثال والصورة ، ثم نظر إلى المثال وإلى المحسوس ، فعلم أنه لو تصور هذا المعنى في المحسوس ، لكان جميع صور المحسوسات صورته ، فغاب هذا المشاهد عن شهود كل محسوس أنه غير صورة محبوبه ، بل كل محسوس صورة محبوبه ولا بد ، فذهب عنه صورة المحسوس أنها غير صورة محبوبه ، فصار يشاهده في كل شيء ،
فهذا هو الذهاب ، ومنه المذهب الذي هو الطريق ، سمّي مذهبا للذهاب فيه ، فهذا المحب ذاهب في صور المحسوسات كلها أنها صورة عين محبوبه ، فلا يزال في اتصال دائم ، في عالم الحس وفي حضرة الخيال وفي حضرة المعاني ، فله الذهاب في هذه الحضرات كلها ، وصارت مذهبا له ، حتى نفسه من جملة الصور ،
ولهذا يقول : أنا من أهوى ، ومن
..........................................................................................
( 1 )أيها السائل عن قضيتنا ... لو ترانا لم تفرق بيننا
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
نحن مذكنا على عهد الوفا ... تضرب الأمثال للناس بنا
فإذا أبصرتنا أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
( كتاب نسيم الأرواح / لأبي عبد الرحمن السلمي ) .
" 200 "
أهوى أنا ؛ فإن حال الذهاب عند الطائفة ، غيبة القلب عن حس كل محسوس بمشاهدة المحبوب ، وذلك أن القلب والباطن لا يتمكن " 1 " للعارف ، فكيف للمحب أن يمر عليه نفس أو حال لا يكون المحبوب فيه مشهودا له بعين قلبه ووجوده ؟ !
وما بقي حجاب إلا في الحس بإدراكه المحسوسات ، حيث يراها ليست عين محبوبه ، فيحجبه ، فيطلب اللقاء لأجل هذا الحجاب ، فإذا ذهب المحسوس عن حسه في ظاهر الصورة ، كما يذهب في حق النائم ، انصرف الحس إلى الخيال ، فرأى مثال محبوبه في خياله ، وقرب من قلبه ، فرآه من غير مثال ، لأن الخيال ما بينه وبين المعنى واسطة ولا درجة ، كما أنه ليس بينه وبين المحسوس واسطة ولا درجة ، فهو واسطة العقد ، إليه ينزل المعنى ، وإليه يرتفع المحسوس ، فهو يلقى الطرفين بذاته ، وإليه ينتقل العارف أو المحب من المحسوس ، ليقرب من معنى المحبوب ، فيقول المحب عن نفسه إنه عين محبوبه لاستهلاكه فيه ، فلا يراه غيرا له .
( ف ح 2 / 390 ، 361 )
تحقيق - أنت أنت وهو هو ،
فاحذر أن تقول كما قال العاشق : أنا من أهوى ، ومن أهوى أنا ؛ فهل قدر على أن يرد العين واحدة ؟ !
واللّه ما استطاع ، فإن الجهل لا يستطاع ، فأتى بذكره وذكر من يهوى ، فإن من المحال أن تتحد الحقائق ، فليس عين العبد عين الرب ، ففرق واعتقد الفرقان ، تكن من أهل البرهان ، لا بل من أهل الكشف والعيان ، قد علمت أن ثمّ غطاء يكشف وقد آمنت به ، فلا تغالط نفسك بأن تقول : أنا هو وهو أنا ؛ فإنه لولا الفارق لما تميزت عين من عين ، ولا كان ثمّ علم بشيء أصلا ، وقد تميز لنا وبنا وعنا ، كما تميزنا له وبه وعنه ، فعرفنا من نحن ومن هو ، فإن غلبنا حال يقول ذلك الحال بلسانه : أنا من أهوى ، ومن أهوى أنا ؛ فيكفيه من قوة أثر الحدود ، أن فرّق بين أنا وبين من أهوى ، ولو أنه يهوى نفسه ، فحال كونه يهوى وهو الفاعل ، ما هو عين حاله يهوى وهو المفعول ، فبينت الحدود الأحوال ، كما بينت الأعيان .
( ف ح 4 / 401 - كتاب المشاهد - ف ح 4 / 401 )
قال أبو يزيد : الري محال .
الري ما يحصل به الاكتفاء ويضيق المحل عن الزيادة منه ، فاعلم أنه لا يقول بالري إلا من يقول بأن ثمّ نهاية وغاية ، وهم المكشوف لهم عالم الحياة الدنيا ، أو من كان كشفه في
..........................................................................................
( 1 ) أي لا يتمكن الغياب عنه .
( ف ح 4 / 57 - ح 1 / 175 - ح 4 / 262 ، 414 - ح 1 / 344 ) .
وجه آخر - الحروف عندنا تقسم تقسيم من يعقل ، لا على طريق التجوز ، بل ذلك على الحقيقة ، فإن الحروف عندنا وعند أهل الكشف والإيمان - حروف اللفظ وحروف الرقم وحروف التخيل - أمم من جملة الأمم ، لصورها أرواح مدبرة ، فهي حية ناطقة تسبح اللّه بحمده ، طائعة ربها ، فمنها ما يلحق بعالم الجبروت ، ومنها ما يلحق بعالم الملكوت ، ومنها ما يلحق بعالم الملك ،
فما الحروف عندنا كما هي عند أهل الحجاب ، الذين أعماهم اللّه وجعل على بصرهم غشاوة وهم ينظرون ، كما قال تعالىوَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ فإذا قال العبد : لا إله إلا اللّه ؛ كان خلّاقا لهذه الكلمات ، فتسبح خالقها - ويحق لها ذلك - والحق منزّه بالأصالة لا بتنزيه المنزّه ، وقد نسب تعالى الخلق لعبده ، ووصف نفسه بالأحسن فيه ، في قوله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فيعود تسبيح هذه الكلمة - وكل كلمة - على قائلها ،
فإذا كان العبد من أهل الكشف لما ذكرناه ، هو الذي نقل عنه من الرجال أنه قال :
سبحاني ؛ ولا علم لمن كفره بذلك .
( ف ح 4 / 90 )
واعلم أن سر الحال لا يكون إلا من نعوت الخلق ، ليس من نعوت الحق ، فسر العلم أتم ، وحكمه أعم من سر الحال ، ومن سر الحال نفخ عيسى عليه السلام في الصورة التي أنشأها من الطين فكانت طيرا ، وبسر العلم دعاء إبراهيم عليه السلام الأطيار فأتته سعيا ،
فإن كان قوله بِإِذْنِي العامل فيه فَتَنْفُخُ فهو سر الحال ، وإن كان العامل فيه فَتَكُونُ فهو سر العلم ، وهذا لا يعلمه إلا صاحبه وهو عيسى عليه السلام ، وسر العلم أتم من سر
" 199 "
الحال ، لأن سر العلم هو للّه ، وهو الذي ظهر به إبراهيم الخليل عليه السلام ، فإنه ما زاد على أن دعاهن ، ولم يذكر نفخا ، فكان كقولهإِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُفسر الحال يلبّس فيقول القائل بسر الحال .
" أنا اللّه " و " سبحاني " و " أنا من أهوى ومن أهوى أنا "
وسر العلم يفرق بين العلم والعالم ، فبسر العلم تعلم أن الحق سمعك وبصرك ويدك ورجلك ، مع نفوذ كل واحد من ذلك وقصوره ، وأنك لست هو عينه ، وبسر الحال ينفذ سمعك في كل مسموع في الكون ، إذا كان الحق سمعك حالا ، وكذلك سائر قواك ، فعين الحال أبدا تنقص عن درجة العلم وعين الحقيقة ، ولهذا لا تتصف الأحوال بالثبوت ، فإن العلم يزيلها والحقيقة تأباها .
( ف ح 2 / 479 )
قول أبي يزيد : أنا من أهوى ومن أهوى أنا " 1 " .
إذا انتقل العارف أو المحب من المحسوس إلى الخيال ، قرب من معنى المحبوب ، فشاهده في الخيال ممثلا ، ذا صورة ، وشاهده وهو في الخيال لما عدل بنظره إلى حضرة المعاني المجاورة لحضرة الخيال ، عاين المعنى مجردا عن المثال والصورة ، ثم نظر إلى المثال وإلى المحسوس ، فعلم أنه لو تصور هذا المعنى في المحسوس ، لكان جميع صور المحسوسات صورته ، فغاب هذا المشاهد عن شهود كل محسوس أنه غير صورة محبوبه ، بل كل محسوس صورة محبوبه ولا بد ، فذهب عنه صورة المحسوس أنها غير صورة محبوبه ، فصار يشاهده في كل شيء ،
فهذا هو الذهاب ، ومنه المذهب الذي هو الطريق ، سمّي مذهبا للذهاب فيه ، فهذا المحب ذاهب في صور المحسوسات كلها أنها صورة عين محبوبه ، فلا يزال في اتصال دائم ، في عالم الحس وفي حضرة الخيال وفي حضرة المعاني ، فله الذهاب في هذه الحضرات كلها ، وصارت مذهبا له ، حتى نفسه من جملة الصور ،
ولهذا يقول : أنا من أهوى ، ومن
..........................................................................................
( 1 )أيها السائل عن قضيتنا ... لو ترانا لم تفرق بيننا
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
نحن مذكنا على عهد الوفا ... تضرب الأمثال للناس بنا
فإذا أبصرتنا أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
( كتاب نسيم الأرواح / لأبي عبد الرحمن السلمي ) .
" 200 "
أهوى أنا ؛ فإن حال الذهاب عند الطائفة ، غيبة القلب عن حس كل محسوس بمشاهدة المحبوب ، وذلك أن القلب والباطن لا يتمكن " 1 " للعارف ، فكيف للمحب أن يمر عليه نفس أو حال لا يكون المحبوب فيه مشهودا له بعين قلبه ووجوده ؟ !
وما بقي حجاب إلا في الحس بإدراكه المحسوسات ، حيث يراها ليست عين محبوبه ، فيحجبه ، فيطلب اللقاء لأجل هذا الحجاب ، فإذا ذهب المحسوس عن حسه في ظاهر الصورة ، كما يذهب في حق النائم ، انصرف الحس إلى الخيال ، فرأى مثال محبوبه في خياله ، وقرب من قلبه ، فرآه من غير مثال ، لأن الخيال ما بينه وبين المعنى واسطة ولا درجة ، كما أنه ليس بينه وبين المحسوس واسطة ولا درجة ، فهو واسطة العقد ، إليه ينزل المعنى ، وإليه يرتفع المحسوس ، فهو يلقى الطرفين بذاته ، وإليه ينتقل العارف أو المحب من المحسوس ، ليقرب من معنى المحبوب ، فيقول المحب عن نفسه إنه عين محبوبه لاستهلاكه فيه ، فلا يراه غيرا له .
( ف ح 2 / 390 ، 361 )
تحقيق - أنت أنت وهو هو ،
فاحذر أن تقول كما قال العاشق : أنا من أهوى ، ومن أهوى أنا ؛ فهل قدر على أن يرد العين واحدة ؟ !
واللّه ما استطاع ، فإن الجهل لا يستطاع ، فأتى بذكره وذكر من يهوى ، فإن من المحال أن تتحد الحقائق ، فليس عين العبد عين الرب ، ففرق واعتقد الفرقان ، تكن من أهل البرهان ، لا بل من أهل الكشف والعيان ، قد علمت أن ثمّ غطاء يكشف وقد آمنت به ، فلا تغالط نفسك بأن تقول : أنا هو وهو أنا ؛ فإنه لولا الفارق لما تميزت عين من عين ، ولا كان ثمّ علم بشيء أصلا ، وقد تميز لنا وبنا وعنا ، كما تميزنا له وبه وعنه ، فعرفنا من نحن ومن هو ، فإن غلبنا حال يقول ذلك الحال بلسانه : أنا من أهوى ، ومن أهوى أنا ؛ فيكفيه من قوة أثر الحدود ، أن فرّق بين أنا وبين من أهوى ، ولو أنه يهوى نفسه ، فحال كونه يهوى وهو الفاعل ، ما هو عين حاله يهوى وهو المفعول ، فبينت الحدود الأحوال ، كما بينت الأعيان .
( ف ح 4 / 401 - كتاب المشاهد - ف ح 4 / 401 )
قال أبو يزيد : الري محال .
الري ما يحصل به الاكتفاء ويضيق المحل عن الزيادة منه ، فاعلم أنه لا يقول بالري إلا من يقول بأن ثمّ نهاية وغاية ، وهم المكشوف لهم عالم الحياة الدنيا ، أو من كان كشفه في
..........................................................................................
( 1 ) أي لا يتمكن الغياب عنه .
يتبع
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
حدثني قلبي عن ربي - ليس بي يتمسحون - تقرب إلي بالذلة والافتقار - لا صباح لى ولا مساء .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر محيي الدين محمد ابن العربي لجامعها أ. محمود محمود الغراب
نظرته ما هو الوجود عليه ، ثم يسدل الحجاب دونه ويرى التناهي ، إذ كل ما دخل في الوجود متناه ،
وليس لصاحب هذا الكشف من الكشف الأخروي شيء ، فمن رأى الغاية قال بالري وعلق همته بالغاية ،
والذين لا يقولون بالري هم الذين يسمون النهار والليل الجديدين ، وليس عندهم تكرار جملة واحدة ، فالأمر له بدء وليس له غاية ، فاللّه لا يزال خلاقا إلى غير نهاية فينا ، فالعلوم إلى غير نهاية ، وليس غرض القوم من العلم إلا ما يتعلق باللّه كشفا ودلالة ،
وكلمات اللّه لا تنفد ، وهي أعيان موجوداته ،
فلا يزال طالب العلم عطشانا أبدا ، لا ري له ، فإن الاستعداد الذي يكون عليه يطلب علما يحصله ، فإذا حصله أعطاه ذلك العلم استعدادا لعلم آخر ، كوني أو إلهي ، فإذا علم بما حصل له أن ثمّ أمرا يطلبه استعداده - الذي حدث له بالعلم الحاصل عن الاستعداد الأول - يعطش إلى تحصيل ذلك العلم ، فطالب العلم كشارب ماء البحر ،
كلما ازداد شربا ازداد عطشا ، والتكوين لا ينقطع ، فالمعلومات لا تنقطع ، فالعلوم لا تنقطع ، فأين الري ؟ ! فما يقول بالري إلا من هو واقف مع وقته وناظر إلى استعداده ، أو من جهل ما يخلق فيه على الدوام والاستمرار ، ومن لا علم له بنفسه لا علم له بربه ، قال بعض العارفين : النفس بحر لا ساحل له ؛ يشير إلى عدم النهاية .
( ف ح 2 / 548 ، 551 ، 552 )
ومن أحال وجود الري فهو فتى ... قد جاءه الأمر في الأذواق من قبل
به يقول ابن طيفور وإن له ... وجها صحيحا لمن يدريه بالمثل
عين صحيح جلي ما به رمد ... فاللّه يعصمه من علة السبل
الكحل إن كان محتاجا إلى المقل ... فالعين محتاجة للكحل والكحل
( ديوان / 444)
قال أبو يزيد : لو شفعني اللّه في جميع الخلائق يوم القيامة لم يكن ذلك عندي بعظيم ، لأنه ما شفعني إلا في لقمة من طين .
يعني خلق آدم من طين ونحن منه - اعلم أن أصحاب المنابر يوم القيامة ، هم المجهولون في الدنيا ، فهم لا يشفعون ولا يستشفعون ، ولا يرون للشفاعة قدرا في جنب ما
" 202 "
هم فيه من الحال الطاهر القدوس لا المقدس ، ومن هذا المقام قال أبو يزيد مقالته ، وإياك أن يخطر لك في هذا الرجل احتقار منه للمقام المحمود ، الذي لمحمد صلى اللّه عليه وسلم يوم القيامة ، وأنه يفتح فيه أمر الشفاعة ، وهو مقام جليل ،
واعلم أنه ما سمي مقاما محمودا لمجرد الشفاعة ، بل لما فيه من عواقب الثناء الإلهي ، الذي يثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بها على ربه عز وجل ، مما لا يعلم بذلك الثناء الخاص اليوم ، فما حمد إلا من أجل اللّه ، لا من أجل الشفاعة ، ثم جاءت الشفاعة تبعا في هذا المقام ، فيقال له عند فراغه من الثناء : سل تعطه ، واشفع تشفع ؛ فيشفع في الشافعين أن يشفعوا ،
فيبيح اللّه الشفاعة للشافعين عند ذلك فيشفعون ، فلا يبقى ملك ولا رسول ولا مؤمن إلا ويشفع ، ممن هو من أهل الشفاعة ، وأهل العهد الخالص على منابرهم ، لا يحزنهم الفزع الأكبر على نفوسهم ولا على أحد ، لأنهم لم يكن لهم تبع في الدنيا ،
وكل من كان له تبع في الدنيا ، فإنه وإن أمن على نفسه ، فإنه لا يأمن على من بقي وعلى تابعه ، لكونه لا يعلم هل قصر وفرط فيما أمره به أم لا ؟ فيحزنه الفزع الأكبر عليه .
( ف ح 4 / 57 )
قال أبو يزيد : دعوت الخلق إلى اللّه كذا وكذا سنة ثم رجعت إليه ، فوجدتهم قد سبقوني .
يشير أبو يزيد بذلك إلى أن العلم باللّه هو عين الجهل به .
( ف ح 1 / 516 )
وفي ذلك يقول الشيخ الأكبر رضي اللّه عنه :
العلم بالرحمن لا يجهل ... وهو على الجهل به يحمل
فالجهل بالرحمن علم به ... عليه أرباب النهى عولوا
قد قال لا أحصي الذي قال لي ... لأنه من عنده مرسل
وقال صدّيق به عجزه ... درك له كذا روى الأول
وقال بسطامينا إنه ... دعا عباد اللّه أن ينزلوا
إليه من حضرة أكوانهم ... فأعرضوا عنه ولم يقبلوا
فعندما جاء إلى ربه ... ألفاهمو ضمهمو المنزل
" 203 "
من حارت الألباب في وصفه ... فإنها عن دركه تسفل
اللّه لا يعرفه غيره ... وما هنا غير فلا تغفلوا
فكل عقد فيه من خلقه ... فثابت فيه ولو زلزلوا
فإنه أوسع من علمهم ... بعلمه فيه فلم يحصلوا
إلا على القدر الذي هم به ... فأجمل الأمر الذي فصلوا
فلا يحيطون به قال لي ... علما سوى القدر الذي حصلوا
وهو على التحقيق علم به ... لكنه عن علمه أنزل
لذاك قلنا عند علمي به ... سبحان من يعلم إذ يجهل
ما علم الخلق سوى ربهم ... ومنهم المدبر والمقبل
إنعامه عمّ فلم يقتصر ... لأنه المنعم والمفضل
ولا تقل كقولهم في الذي ... يشقى فإن القوم قد عجلوا
لو نظروا بربهم أنصفوا ... وتابعوا الحق فلم يعدلوا
( الديوان / 424 )
قال أبو يزيد : لو مكنني اللّه من الاحتجاج ، لقلت : أنت فعلت ؛
ولكن قال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فسد الباب .
إذا ادعيت فليكن دعواك بحق وانتظر البلاء ، وإن لم تدع فهو أولى بك ، ولكن كن محلا لجريان الأقدار عليك ، وكن على علم أنه لا يجري عليك إلا ما كنت عليه ، حتى تعلم أن الحجة البالغة للّه ، فإنه يقول كذا علمتك ، وما علمتك إلا منك ، ولو كان كما يتخيله بعض الناس ومن لا علم له بسر القدر ، يقول : لو مكنني اللّه من الاحتجاج لقلت أنت فعلت ؛
كما قال أبو يزيد ، ولكن قال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ
فسد الباب ؛ هذا القول ما يقع إلا من جاهل بالأمر ، بل للّه الحجة البالغة في قوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ فإنه ما فعل من نفسه ابتداء ، وإنما فعل بك في وجودك ما كنت عليه في ثبوتك ، ولهذا قالوَهُمْ يُسْئَلُونَ وقد أطلعهم اللّه عند ذلك على ما كانوا عليه ، وأن علمه ما تعلق بهم إلا بحسب
" 204 "
ما هم عليه ، فيعرفون إذا سئلوا أنه تعالى ما حكم فيهم إلا بما كانوا عليه ، وإذا سئلوا وهم يشهدون اعترفوا ، فيصدق قولهفَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُوَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
( ف ح 4 / 240 )
قال أبو يزيد للحق : لو علم الناس منك ما أعلم ما عبدوك .
وقال له الحق تعالى : يا أبا يزيد لو علم الناس منك ما أعلم لرجموك .
اعلم أن الحق تعالى ما استوى على العرش إلا بالاسم الرحمن ، فلما عمت رحمة الله أبا يزيد البسطامي ، ولم ير للكون فيها أثرا يزيل عنها حكم العموم ، قال للحق : لو علم الناس منك ما أعلم ما عبدوك ؛
وقال له الحق تعالى : يا أبا يزيد لو علم الناس منك ما أعلم لرجموك ؛ يعني لقالوا بكفرك ورجموك لاعتقادك هذا .
( ف ح 4 / 48 )
الاسم الأعظم عند أبي يزيد :
قيل لأبي يزيد : ما اسم اللّه الأعظم الذي به تنفعل الأشياء ؟
قال : أروني الأصغر حتى أريكم الأعظم ، ما هو إلا الصدق ، أصدق وخذ أي اسم شئت ، أسماء اللّه كلها عظيمة .
( ف ح 2 / 222 ، 641 - ح 3 / 329 )
قول أبي يزيد : السالك مردود والطريق مسدود .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من طلب اللّه وجده ؛ هذا صحيح ، لكن قوله صلى اللّه عليه وسلم : من طلب اللّه ؛ يعني باللّه أو بغيره ؟
إن كان باللّه فضرورة أن يجده ، ومن طلبه بغيره كيف يصح أن يجده ؟ ! ومعنى وجوده إثبات التوحيد له في ذاته وصفاته وأفعاله ، والطالب له تعالى بنفسه لا يصح له هذا التوحيد ، فإن الاكتساب وإن أضيف له فهو مجاز ، فإنه لا يصح أن يطلب اللّه ويجده إلا الذي يطلب معرفته تعالى بفعله ، لأن طلب العبد اللّه تعالى إنما هو فعل من أفعال اللّه ، خلافا لما يدعيه مخالفو أهل الحق ، فإن وجود الحق في حق من طلبه به ، يجعل الواجد له كالميت بين يدي الغاسل ، يقلبه كيف شاء ، ومن تكون له إرادة فليس بميت ، ولا خرج من رق الدعوى ، والطالب له بنفسه من هذا القبيل ، فإذا تقرر هذا ، فقول
" 205 "
أبي يزيد رضي اللّه عنه : السالك مردود والطريق مسدود ؛ يجتمع مع هذا الخبر الصدق ، ويكون هذا الكلام في حق الطالب نفسه ، لأنه لا يصح له وجود أبدا ، ونفس السلوك هو الطلب ، فلا فرق بين أن يقول طلب أو سلك ، فما دام السالك يثبت لنفسه سلوكا من نفسه ،
ومعنى هذا أنه يشاهد في سلوكه نفسه سالكة بإرادتها ، اختيارا منها ، وغاب عنه في ذلك المقام أن اللّه آخذ بناصيته ،
كما دل عليه النص والعقل ، فهو مردود ، وعين سد الطريق دونه ، فقده لوجود التوحيد الذي ذكرناه ، لأنه كيف يصح أن يجده فاعلا على الإطلاق والكمال ، وهو يجعل معه في ملكه فاعلا غيره ، مثل المعتزلي وإن كان مسلما مؤمنا ، فإنه طالب للّه تعالى ، ومع كونه طالبا يضيف الطلب لنفسه حقيقة ، وجميع أفعاله التي تحت اختياره ، فانظر هل وجد اللّه من يكون سلوكه على هذا المنهج قط ؟ !
( رسالة الانتصار )
يقول الشيخ في رد الأمور إلى اللّه تعالى :
يا ضاربا صلد رابية ... شمس وبدر وأرض ذات أحجار
فاعجب إلى شجر قاض على حجر ... وانظر إلى ضارب من خلف أستار
لقد ظهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أحد لا يعرف الباري
( ف ح 1 / 644 - ديوان / 4 - كتاب الإسراء)
وليس لصاحب هذا الكشف من الكشف الأخروي شيء ، فمن رأى الغاية قال بالري وعلق همته بالغاية ،
والذين لا يقولون بالري هم الذين يسمون النهار والليل الجديدين ، وليس عندهم تكرار جملة واحدة ، فالأمر له بدء وليس له غاية ، فاللّه لا يزال خلاقا إلى غير نهاية فينا ، فالعلوم إلى غير نهاية ، وليس غرض القوم من العلم إلا ما يتعلق باللّه كشفا ودلالة ،
وكلمات اللّه لا تنفد ، وهي أعيان موجوداته ،
فلا يزال طالب العلم عطشانا أبدا ، لا ري له ، فإن الاستعداد الذي يكون عليه يطلب علما يحصله ، فإذا حصله أعطاه ذلك العلم استعدادا لعلم آخر ، كوني أو إلهي ، فإذا علم بما حصل له أن ثمّ أمرا يطلبه استعداده - الذي حدث له بالعلم الحاصل عن الاستعداد الأول - يعطش إلى تحصيل ذلك العلم ، فطالب العلم كشارب ماء البحر ،
كلما ازداد شربا ازداد عطشا ، والتكوين لا ينقطع ، فالمعلومات لا تنقطع ، فالعلوم لا تنقطع ، فأين الري ؟ ! فما يقول بالري إلا من هو واقف مع وقته وناظر إلى استعداده ، أو من جهل ما يخلق فيه على الدوام والاستمرار ، ومن لا علم له بنفسه لا علم له بربه ، قال بعض العارفين : النفس بحر لا ساحل له ؛ يشير إلى عدم النهاية .
( ف ح 2 / 548 ، 551 ، 552 )
ومن أحال وجود الري فهو فتى ... قد جاءه الأمر في الأذواق من قبل
به يقول ابن طيفور وإن له ... وجها صحيحا لمن يدريه بالمثل
عين صحيح جلي ما به رمد ... فاللّه يعصمه من علة السبل
الكحل إن كان محتاجا إلى المقل ... فالعين محتاجة للكحل والكحل
( ديوان / 444)
قال أبو يزيد : لو شفعني اللّه في جميع الخلائق يوم القيامة لم يكن ذلك عندي بعظيم ، لأنه ما شفعني إلا في لقمة من طين .
يعني خلق آدم من طين ونحن منه - اعلم أن أصحاب المنابر يوم القيامة ، هم المجهولون في الدنيا ، فهم لا يشفعون ولا يستشفعون ، ولا يرون للشفاعة قدرا في جنب ما
" 202 "
هم فيه من الحال الطاهر القدوس لا المقدس ، ومن هذا المقام قال أبو يزيد مقالته ، وإياك أن يخطر لك في هذا الرجل احتقار منه للمقام المحمود ، الذي لمحمد صلى اللّه عليه وسلم يوم القيامة ، وأنه يفتح فيه أمر الشفاعة ، وهو مقام جليل ،
واعلم أنه ما سمي مقاما محمودا لمجرد الشفاعة ، بل لما فيه من عواقب الثناء الإلهي ، الذي يثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بها على ربه عز وجل ، مما لا يعلم بذلك الثناء الخاص اليوم ، فما حمد إلا من أجل اللّه ، لا من أجل الشفاعة ، ثم جاءت الشفاعة تبعا في هذا المقام ، فيقال له عند فراغه من الثناء : سل تعطه ، واشفع تشفع ؛ فيشفع في الشافعين أن يشفعوا ،
فيبيح اللّه الشفاعة للشافعين عند ذلك فيشفعون ، فلا يبقى ملك ولا رسول ولا مؤمن إلا ويشفع ، ممن هو من أهل الشفاعة ، وأهل العهد الخالص على منابرهم ، لا يحزنهم الفزع الأكبر على نفوسهم ولا على أحد ، لأنهم لم يكن لهم تبع في الدنيا ،
وكل من كان له تبع في الدنيا ، فإنه وإن أمن على نفسه ، فإنه لا يأمن على من بقي وعلى تابعه ، لكونه لا يعلم هل قصر وفرط فيما أمره به أم لا ؟ فيحزنه الفزع الأكبر عليه .
( ف ح 4 / 57 )
قال أبو يزيد : دعوت الخلق إلى اللّه كذا وكذا سنة ثم رجعت إليه ، فوجدتهم قد سبقوني .
يشير أبو يزيد بذلك إلى أن العلم باللّه هو عين الجهل به .
( ف ح 1 / 516 )
وفي ذلك يقول الشيخ الأكبر رضي اللّه عنه :
العلم بالرحمن لا يجهل ... وهو على الجهل به يحمل
فالجهل بالرحمن علم به ... عليه أرباب النهى عولوا
قد قال لا أحصي الذي قال لي ... لأنه من عنده مرسل
وقال صدّيق به عجزه ... درك له كذا روى الأول
وقال بسطامينا إنه ... دعا عباد اللّه أن ينزلوا
إليه من حضرة أكوانهم ... فأعرضوا عنه ولم يقبلوا
فعندما جاء إلى ربه ... ألفاهمو ضمهمو المنزل
" 203 "
من حارت الألباب في وصفه ... فإنها عن دركه تسفل
اللّه لا يعرفه غيره ... وما هنا غير فلا تغفلوا
فكل عقد فيه من خلقه ... فثابت فيه ولو زلزلوا
فإنه أوسع من علمهم ... بعلمه فيه فلم يحصلوا
إلا على القدر الذي هم به ... فأجمل الأمر الذي فصلوا
فلا يحيطون به قال لي ... علما سوى القدر الذي حصلوا
وهو على التحقيق علم به ... لكنه عن علمه أنزل
لذاك قلنا عند علمي به ... سبحان من يعلم إذ يجهل
ما علم الخلق سوى ربهم ... ومنهم المدبر والمقبل
إنعامه عمّ فلم يقتصر ... لأنه المنعم والمفضل
ولا تقل كقولهم في الذي ... يشقى فإن القوم قد عجلوا
لو نظروا بربهم أنصفوا ... وتابعوا الحق فلم يعدلوا
( الديوان / 424 )
قال أبو يزيد : لو مكنني اللّه من الاحتجاج ، لقلت : أنت فعلت ؛
ولكن قال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فسد الباب .
إذا ادعيت فليكن دعواك بحق وانتظر البلاء ، وإن لم تدع فهو أولى بك ، ولكن كن محلا لجريان الأقدار عليك ، وكن على علم أنه لا يجري عليك إلا ما كنت عليه ، حتى تعلم أن الحجة البالغة للّه ، فإنه يقول كذا علمتك ، وما علمتك إلا منك ، ولو كان كما يتخيله بعض الناس ومن لا علم له بسر القدر ، يقول : لو مكنني اللّه من الاحتجاج لقلت أنت فعلت ؛
كما قال أبو يزيد ، ولكن قال لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ
فسد الباب ؛ هذا القول ما يقع إلا من جاهل بالأمر ، بل للّه الحجة البالغة في قوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ فإنه ما فعل من نفسه ابتداء ، وإنما فعل بك في وجودك ما كنت عليه في ثبوتك ، ولهذا قالوَهُمْ يُسْئَلُونَ وقد أطلعهم اللّه عند ذلك على ما كانوا عليه ، وأن علمه ما تعلق بهم إلا بحسب
" 204 "
ما هم عليه ، فيعرفون إذا سئلوا أنه تعالى ما حكم فيهم إلا بما كانوا عليه ، وإذا سئلوا وهم يشهدون اعترفوا ، فيصدق قولهفَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُوَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
( ف ح 4 / 240 )
قال أبو يزيد للحق : لو علم الناس منك ما أعلم ما عبدوك .
وقال له الحق تعالى : يا أبا يزيد لو علم الناس منك ما أعلم لرجموك .
اعلم أن الحق تعالى ما استوى على العرش إلا بالاسم الرحمن ، فلما عمت رحمة الله أبا يزيد البسطامي ، ولم ير للكون فيها أثرا يزيل عنها حكم العموم ، قال للحق : لو علم الناس منك ما أعلم ما عبدوك ؛
وقال له الحق تعالى : يا أبا يزيد لو علم الناس منك ما أعلم لرجموك ؛ يعني لقالوا بكفرك ورجموك لاعتقادك هذا .
( ف ح 4 / 48 )
الاسم الأعظم عند أبي يزيد :
قيل لأبي يزيد : ما اسم اللّه الأعظم الذي به تنفعل الأشياء ؟
قال : أروني الأصغر حتى أريكم الأعظم ، ما هو إلا الصدق ، أصدق وخذ أي اسم شئت ، أسماء اللّه كلها عظيمة .
( ف ح 2 / 222 ، 641 - ح 3 / 329 )
قول أبي يزيد : السالك مردود والطريق مسدود .
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من طلب اللّه وجده ؛ هذا صحيح ، لكن قوله صلى اللّه عليه وسلم : من طلب اللّه ؛ يعني باللّه أو بغيره ؟
إن كان باللّه فضرورة أن يجده ، ومن طلبه بغيره كيف يصح أن يجده ؟ ! ومعنى وجوده إثبات التوحيد له في ذاته وصفاته وأفعاله ، والطالب له تعالى بنفسه لا يصح له هذا التوحيد ، فإن الاكتساب وإن أضيف له فهو مجاز ، فإنه لا يصح أن يطلب اللّه ويجده إلا الذي يطلب معرفته تعالى بفعله ، لأن طلب العبد اللّه تعالى إنما هو فعل من أفعال اللّه ، خلافا لما يدعيه مخالفو أهل الحق ، فإن وجود الحق في حق من طلبه به ، يجعل الواجد له كالميت بين يدي الغاسل ، يقلبه كيف شاء ، ومن تكون له إرادة فليس بميت ، ولا خرج من رق الدعوى ، والطالب له بنفسه من هذا القبيل ، فإذا تقرر هذا ، فقول
" 205 "
أبي يزيد رضي اللّه عنه : السالك مردود والطريق مسدود ؛ يجتمع مع هذا الخبر الصدق ، ويكون هذا الكلام في حق الطالب نفسه ، لأنه لا يصح له وجود أبدا ، ونفس السلوك هو الطلب ، فلا فرق بين أن يقول طلب أو سلك ، فما دام السالك يثبت لنفسه سلوكا من نفسه ،
ومعنى هذا أنه يشاهد في سلوكه نفسه سالكة بإرادتها ، اختيارا منها ، وغاب عنه في ذلك المقام أن اللّه آخذ بناصيته ،
كما دل عليه النص والعقل ، فهو مردود ، وعين سد الطريق دونه ، فقده لوجود التوحيد الذي ذكرناه ، لأنه كيف يصح أن يجده فاعلا على الإطلاق والكمال ، وهو يجعل معه في ملكه فاعلا غيره ، مثل المعتزلي وإن كان مسلما مؤمنا ، فإنه طالب للّه تعالى ، ومع كونه طالبا يضيف الطلب لنفسه حقيقة ، وجميع أفعاله التي تحت اختياره ، فانظر هل وجد اللّه من يكون سلوكه على هذا المنهج قط ؟ !
( رسالة الانتصار )
يقول الشيخ في رد الأمور إلى اللّه تعالى :
يا ضاربا صلد رابية ... شمس وبدر وأرض ذات أحجار
فاعجب إلى شجر قاض على حجر ... وانظر إلى ضارب من خلف أستار
لقد ظهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أحد لا يعرف الباري
( ف ح 1 / 644 - ديوان / 4 - كتاب الإسراء)
.
عبدالله المسافربالله يعجبه هذا الموضوع
مواضيع مماثلة
» الحاسدون - الساحرون - الكافرون - الساهون - صفة العارف عند الشيخ الأكبر وعند الجماعة .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» شرح وحدة الوجود .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» كبوات الشيخ ابن قيم الجوزية .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» فهرس الموضوعات والصفحات .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» العجز عن درك الإدراك إدراك .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» شرح وحدة الوجود .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» كبوات الشيخ ابن قيم الجوزية .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» فهرس الموضوعات والصفحات .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
» العجز عن درك الإدراك إدراك .كتاب شرح كلمات الصوفية من كلمات الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت 2 مارس 2024 - 1:11 من طرف عبدالله المسافربالله
» فإن الكلام الحق ذلك فاعتمد عليه ولا تهمله وافزع إلى البدء من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأربعاء 28 فبراير 2024 - 23:12 من طرف عبدالله المسافربالله
» وما تجليت إلا لي فأدركني عيني وأسمعت سمعي كل وسواس من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأربعاء 28 فبراير 2024 - 0:49 من طرف عبدالله المسافربالله
» رسالة التلقينات الأربعة من مخطوط نادر من رسائل الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي
الأربعاء 28 فبراير 2024 - 0:25 من طرف عبدالله المسافربالله
» عقيدة الشيخ الأكبر محي الدين محمد ابن علي ابن محمد ابن العربي الطائي الحاتمي الأندلسي
الأحد 25 فبراير 2024 - 22:43 من طرف عبدالله المسافربالله
» رسالة حرف الكلمات وصرف الصلوات من مخطوط نادر من رسائل الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي الطائي
الأحد 25 فبراير 2024 - 22:30 من طرف عبدالله المسافربالله
» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الرعد وابراهيم والحجر كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:42 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من سورة الفاتحة كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:40 من طرف عبدالله المسافربالله
» مقدمة المصنف لكتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:40 من طرف عبدالله المسافربالله
» مقدمة المحقق لكتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:39 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الرحمن والواقعة والملك كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:39 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة النبأ والنازعات والبروج كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:38 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة العصر والهمزة والفيل كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:37 من طرف عبدالله المسافربالله
» فهرس موضوعات كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:30 من طرف عبدالله المسافربالله
» وهب نسيم القرب من جانب الحمى فأهدى لنا من نشر عنبره عرفا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأحد 25 فبراير 2024 - 3:22 من طرف عبدالله المسافربالله
» فلم نخل عن مجلى يكون له بنا ولم يخل سر يرتقى نحوه منا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الجمعة 23 فبراير 2024 - 23:17 من طرف عبدالله المسافربالله
» ما في الوجود شيء سدى فيهمل بل كله اعتبار إن كنت تعقل من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأربعاء 21 فبراير 2024 - 1:51 من طرف عبدالله المسافربالله
» إن كنت عبدا مذنبا كان الإله محسنا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الثلاثاء 20 فبراير 2024 - 1:25 من طرف عبدالله المسافربالله
» إن المهيمن وصى الجار بالجار والكل جار لرب الناس والدار من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الثلاثاء 20 فبراير 2024 - 1:08 من طرف عبدالله المسافربالله
» ويقول العقل فيه كما قاله مدبر الزمنا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأحد 18 فبراير 2024 - 4:09 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الدخان والجاثية والفتح كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 18 فبراير 2024 - 2:59 من طرف عبدالله المسافربالله
» فهرس المواضع كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الجمعة 16 فبراير 2024 - 20:25 من طرف عبدالله المسافربالله
» فعاينت آحادا ولم أر كثرة وقد قلت فيما قلته الحق والصدقا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الجمعة 16 فبراير 2024 - 20:15 من طرف عبدالله المسافربالله
» وصل يتضمّن نبذا من الأسرار الشرعيّة الأصليّة والقرآنيّة كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الجمعة 16 فبراير 2024 - 19:52 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الزمر وغافر وفصلت كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الجمعة 16 فبراير 2024 - 19:30 من طرف عبدالله المسافربالله
» عشريات الحروف من الألف الى الياء من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 21:31 من طرف عبدالله المسافربالله
» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الأحزاب ويس وفاطر كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 21:10 من طرف عبدالله المسافربالله
» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الفرقان والشعراء والقصص كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 20:44 من طرف عبدالله المسافربالله
» خواتم الفواتح الكلّيّة وجوامع الحكم والأسرار الإلهيّة القرآنيّة والفرقانيّة وأسبابها كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 20:22 من طرف عبدالله المسافربالله
» حاز مجدا سنيا من غدا لله برا تقيا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 2:29 من طرف عبدالله المسافربالله
» وصل في بيان سرّ الحيرة الأخيرة ودرجاتها وأسبابها كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 2:05 من طرف عبدالله المسافربالله
» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة مريم وطه والانبياء كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 1:43 من طرف عبدالله المسافربالله
» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة يونس وهود ويوسف كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الإثنين 12 فبراير 2024 - 18:41 من طرف عبدالله المسافربالله
» قال الشيخ من روح سور من القرآن الكريم من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الإثنين 12 فبراير 2024 - 17:47 من طرف عبدالله المسافربالله
» مراتب الغضب مراتب الضلال كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الإثنين 12 فبراير 2024 - 16:28 من طرف عبدالله المسافربالله
» صورة النعمة وروحها وسرّها كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الإثنين 12 فبراير 2024 - 16:08 من طرف عبدالله المسافربالله
» ومما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة الأنعام وبراءة كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الإثنين 12 فبراير 2024 - 0:11 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من علوم سورة النساء كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الإثنين 12 فبراير 2024 - 0:01 من طرف عبدالله المسافربالله
» في الإمام الذي يرث الغوث من روح تبارك الملك من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الأحد 11 فبراير 2024 - 19:43 من طرف عبدالله المسافربالله
» بيان سرّ النبوّة وصور إرشادها وغاية سبلها وثمراتها كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الأحد 11 فبراير 2024 - 18:50 من طرف عبدالله المسافربالله
» فاتحة القسم الثالث من أقسام أمّ الكتاب كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الأحد 11 فبراير 2024 - 12:20 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من سورة آل عمران كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الأحد 11 فبراير 2024 - 0:42 من طرف عبدالله المسافربالله
» وصل العبادة الذاتيّة والصفاتيّة كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
السبت 10 فبراير 2024 - 21:59 من طرف عبدالله المسافربالله
» حروف أوائل السور يبينها تباينها إن أخفاها تماثلها لتبديها مساكنها من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
السبت 10 فبراير 2024 - 21:20 من طرف عبدالله المسافربالله
» مما تنتجه الخلوة المباركة من سورة البقرة كتاب الجوهر المصون والسر المرقوم فيما تنتجه الخلوة من الأسرار والمعلوم
الجمعة 9 فبراير 2024 - 16:27 من طرف عبدالله المسافربالله
» نبدأ بـ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الجمعة 9 فبراير 2024 - 16:12 من طرف عبدالله المسافربالله
» علمت أن الله يحجب عبده عن ذاته لتحقق الإنساء من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الجمعة 9 فبراير 2024 - 9:26 من طرف عبدالله المسافربالله
» كل فعل انسان لا يقصد به وجه الله يعد من الأجراء لا من العباد كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الجمعة 9 فبراير 2024 - 1:04 من طرف عبدالله المسافربالله
» أشرقت شمس المعاني بقلوب العارفينا من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الجمعة 9 فبراير 2024 - 0:52 من طرف عبدالله المسافربالله
» المزاج يغلب قوّة الغذاء كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الخميس 8 فبراير 2024 - 7:11 من طرف عبدالله المسافربالله
» ذكر الفواتح الكلّيّات المختصّة بالكتاب الكبير والكتاب الصغير كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الخميس 8 فبراير 2024 - 4:33 من طرف عبدالله المسافربالله
» تفصيل لمجمل قوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الخميس 8 فبراير 2024 - 4:09 من طرف عبدالله المسافربالله
» فلله قوم في الفراديس مذ أبت قلوبهم أن تسكن الجو والسما من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الخميس 8 فبراير 2024 - 0:31 من طرف عبدالله المسافربالله
» التمهيد الموعود به ومنهج البحث المؤلف كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن الشيخ صدر الدين القونوي
الأربعاء 7 فبراير 2024 - 2:16 من طرف عبدالله المسافربالله
» مقدمة المؤلف كتاب إعجاز البيان في تفسير أم القرآن العارف بالله الشيخ صدر الدين القونوي
الثلاثاء 6 فبراير 2024 - 23:35 من طرف عبدالله المسافربالله
» في باب أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الثلاثاء 6 فبراير 2024 - 19:57 من طرف عبدالله المسافربالله
» في باب الأوبة والهمة والظنون والمراد والمريد من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الثلاثاء 6 فبراير 2024 - 2:03 من طرف عبدالله المسافربالله
» في باب البحر المسجور من ديوان الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي
الثلاثاء 6 فبراير 2024 - 1:30 من طرف عبدالله المسافربالله
» الفهرس لكتاب ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الثلاثاء 6 فبراير 2024 - 1:08 من طرف عبدالله المسافربالله
» قصائد ودوبيتات وموشّحات ومواليات ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الثلاثاء 6 فبراير 2024 - 1:02 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية الحروف بالمعشرات ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الأحد 4 فبراير 2024 - 22:17 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف اللام ألف والياء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
السبت 3 فبراير 2024 - 23:31 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الهاء والواو ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
السبت 3 فبراير 2024 - 21:57 من طرف عبدالله المسافربالله
» كتاب أخبار الحلاج لابي المغيث الحسين بن منصور الحلاج
السبت 3 فبراير 2024 - 17:01 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف النون ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
السبت 3 فبراير 2024 - 1:49 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الميم ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الخميس 1 فبراير 2024 - 18:48 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف اللام ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الخميس 1 فبراير 2024 - 1:39 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الكاف ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الثلاثاء 30 يناير 2024 - 17:12 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الغين المعجمة والفاء والقاف ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الإثنين 29 يناير 2024 - 1:30 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الظاء المعجمة والعين ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الأحد 28 يناير 2024 - 2:51 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الشين والصاد والضاد والطاء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
السبت 27 يناير 2024 - 3:03 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الزاي والسين المعجمة ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الجمعة 26 يناير 2024 - 14:25 من طرف عبدالله المسافربالله
» ديوان الحلاج لابي المغيث الحسين بن منصور الحلاج
الخميس 25 يناير 2024 - 22:25 من طرف عبدالله المسافربالله
» لئن أمسيت في ثوبي عديم من ديوان الحلاج
الخميس 25 يناير 2024 - 22:16 من طرف عبدالله المسافربالله
» سبحان من أظهر ناسوته من ديوان الحلاج
الخميس 25 يناير 2024 - 22:08 من طرف عبدالله المسافربالله
» ما يفعل العبد والأقدار جارية من ديوان الحلاج
الخميس 25 يناير 2024 - 22:03 من طرف عبدالله المسافربالله
» العشق في أزل الآزال من قدم من ديوان الحلاج
الخميس 25 يناير 2024 - 21:58 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الذال المعجمة والراء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الخميس 25 يناير 2024 - 20:33 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الخاء والدال ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الأربعاء 24 يناير 2024 - 23:22 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الحاء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الأربعاء 24 يناير 2024 - 16:59 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الثاء والجيم ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الثلاثاء 23 يناير 2024 - 23:49 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف التاء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الثلاثاء 23 يناير 2024 - 18:35 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الباء ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الثلاثاء 23 يناير 2024 - 0:58 من طرف عبدالله المسافربالله
» تمهيد كتاب المهدي وقرب الظهور وإقترب الوعد الحق
الإثنين 22 يناير 2024 - 23:18 من طرف عبدالله المسافربالله
» أنتم ملكتم فؤادي فهمت في كل وادي من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 23:01 من طرف عبدالله المسافربالله
» والله لو حلف العشاق أنهم موتى من الحب من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 22:51 من طرف عبدالله المسافربالله
» سكرت من المعنى الذي هو طيب من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 22:45 من طرف عبدالله المسافربالله
» مكانك من قلبي هو القلب كله من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 22:36 من طرف عبدالله المسافربالله
» إن الحبيب الذي يرضيه سفك دمي من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 22:30 من طرف عبدالله المسافربالله
» كم دمعة فيك لي ما كنت أُجريها من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 22:19 من طرف عبدالله المسافربالله
» يا نَسيمَ الريح قولي لِلرَشا من ديوان الحلاج
الإثنين 22 يناير 2024 - 22:12 من طرف عبدالله المسافربالله
» قافية حرف الهمزة ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الإثنين 22 يناير 2024 - 14:24 من طرف عبدالله المسافربالله
» ترجمة المصنّف ومقدمة المؤلف ديوان الحقائق ومجموع الرقائق الشيخ عبد الغني النابلسي
الأحد 21 يناير 2024 - 15:19 من طرف عبدالله المسافربالله
» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي النون والياء شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
السبت 20 يناير 2024 - 21:36 من طرف عبدالله المسافربالله
» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي القاف واللام والعين شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
السبت 20 يناير 2024 - 21:27 من طرف عبدالله المسافربالله
» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي السين والضاد والعين والفاء شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الجمعة 19 يناير 2024 - 16:39 من طرف عبدالله المسافربالله
» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي الجيم والدال والراء شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الجمعة 19 يناير 2024 - 16:28 من طرف عبدالله المسافربالله
» أشعار نسبت إلى الحلّاج قوافي الألف والباء والهمزة شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الخميس 18 يناير 2024 - 20:40 من طرف عبدالله المسافربالله
» القوافي في ديوان الحلّاج الهاء والواو والياء شرح ديوان الحسين ابن المنصور الحلاج د. كامل مصطفى الشيبي
الخميس 18 يناير 2024 - 20:28 من طرف عبدالله المسافربالله